فَصْـل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد
منذ 2008-02-06
السؤال: فَصْـل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد
الإجابة:
إذا تبين هذا فنقول: القرآن تنزيل من حكيم حميد، وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت.
ولو أن رجلًا من بني آدم له علم، أو حكمة، أو خطبة، أو قصيدة، أو مصنف، فهذب ألفاظ ذلك وأتي فيه بمثل هذا التغاير، لعلم أنه قصد في ذلك حكمة، وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدي.
فكيف بكلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين؟ لا سيما وقد قال فيه: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
فنقول: الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي، فيعم الحاضر والمستقبل، كما قال سِيبَويه: وبنوه لِمَا مضي من الزمان، ولما هو دائم لم ينقطع، ولما لم يأت بمعنى الماضي، والمضارع وفعل الأمر.
فجعل المضارع لما هو من الزمان دائمًا لم ينقطع، وقد يتناول الحاضر والمستقبل.
فقوله: {لَا أَعْبُدُ}، يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل.
وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ}، يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل.
كلاهما مضارع.
وقال في الجملة الثانية عن نفسه: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}.. فلم يقل: [لا أعبد]، بل قال:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ}، ولم يقل: [ما تعبدون]، بل قال: {مَّا عَبَدتُّمْ}.
فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأول.
والنفي بهذه الجملة الثانية، أعم من النفي بالأولي.
فإنه قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} بصيغة الماضي.
فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي؛ لأن المشركين يعبدون آلهة شتي.
وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى.
فقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}،، براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة الماضية، كما تبرأ أولا مما عبدوه في الحال والاستقبال.
فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماض، وحاضر، ومستقبل.
وقوله أولا: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، لا يتناول هذا كل.
وقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ}،، اسم فاعل قد عمل عمل الفعل، ليس مضافًا، فهو يتناول الحال والاستقبال أيضًا لكنه جملة اسمية، والنفي بما بعد الفعل فيه زيادة معنى، كما تقول: ما أفعل هذا، ما أنا بفاعله.
وقولك: [ما هو بفاعل هذا أبدًا] أبلغ من قولك: [ما يفعله أبدًا].
فإنه نفي عن الذات صدور هذا الفعل عنها، بخلاف قولك: [ما يفعل هذا]، فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه.
ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له، بخلاف قوله: [ما هو فاعلا، وما هو بفاعل]، كما في قوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النحل:71].
وقوله: {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22]، وقوله: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]، {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ} [النمل: 81]، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة:102] ولا يقال: الجملة الاسمية ترك الثبـوت، ونفي ذلك لا يقتضي نفي العارض.
فـإن هـذه الجملة في معنى الفعلية نفي؛لكونها عملت عمل الفعل.
لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا، فنفت عن الذت أن يعرض لها هذا الفعل تنزيهًا للذات، ونفيًا لقبولها لذلك.
فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل، والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل.
فقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 4]، أي: نفسي لا تقبل ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط.
ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط.
فأي معبود عبدتموه في وقت، فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات.
ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل، ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان، ما ليس في الجملة الأولى.
تلك تضمنت نفي الفعل في الزمـان غير الماضي، وهـذه تضمنت نفي إمكانـه وقبـولـه لما كـان معبـودًا لهم ولو في بعض الزمـان الماضي فقـط.
والتقـدير: مـا عبدتمـوه ولو في بعض الأزمـان الماضيـة فـأنـا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدًا.
ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل؛ لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال. وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها.
فهـو يتبرأ في الحاضـر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان، وينفي جواز عبادته لمعبـودهم،ويبين أن مثـل هـذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ.
فهو ينفي جوازه شـرعًا ووقـوعًا.
فـإن مثـل هـذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال، كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقـال: [أنا أفعـل هـذا؟ مـا أنا بفاعـل هذا أبدًا].
فهو أبلغ من قوله: [لا أفعـله أبدًا].
وهـذا كقـولـه: {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة: 145].
فهو يتضمن نفي الفعل بغضًا فيه وكراهة له بخلاف قوله: [لا أفعل].
فقد يتركه الإنسان وهو يحبه لغرض آخر.
فإذا قال: [ما أنا عابد ما عبدتم]، دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه.
وهذه هي البراءة.
ولهذا تستعمل في ضد الولاية فيقال: تول فلانًا، وتبرأ من فلان.
كما قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} الآية [الممتحنة: 4].
وأمـا قولـه عـن الكفار: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}،،فهـو خطاب لجنس الكفار.
إن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارًا.
فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك.
فإنهم حينئذ مؤمنون، لا كافرون،وإن كانوا منافقين، فهم كافرون في الباطن، فيتناولهم الخطاب.
وهذا كما يقال: قل يا أيها المحاربون، والمخاصمون، والمقاتلون، والمعادون.
فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة.
وما دام الكافر كافرًا، فإنه لا يعبد الله، وإنما يعبد الشيطان، سواء كان متظاهرًا، أو غير متظاهر به كاليهود.
فإن اليهود لا يعبدون الله، وإنما يعبدون الشيطان؛ لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر.
وهم وإن زعموا أنهم يعبدونه فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها، فليست عبادة.
فكل كافر بمحمد، لا يعبد ما يعبده محمد ما دام كافرًا.
والفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع.
فهو ما دام كافرًا، لا يعبد معبود محمد صلى الله عليه وسلم، لا في الحاضر، ولا في المستقبل.
ولم يقل عنهم: [ولا تعبدون ما أعبد]، بل ذكر الجملة الاسمية ليبين أن نفس نفوسكم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله محمد، لا يمكن أن تعبده ما دامت كافرة؛ إذ لا تكون عابدته إلا بأن تعبده وحده بما أمر به على لسان محمد.
ومن كان كافرًا بمحمد، لا يكون عمله عبادة الله قط.
وتبرئتهم من عبادة الله، جاءت بلفظ واحد، بجملة اسمية تقتضي براءة ذواتهم من عبادة الله، لم تقتصر على نفي الفعل.
ولم يحتج أن يقول فيهم: [ولا أنتم عابدون ما عبدت]، كما قال في نفسه: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} لوجهين:
أحدهما: أن كل مؤمن فهو مأمور بقراءة هذه السورة، ومنهم من كان معبوده غير الله.
فلو قال: [ولا أنتم عابدون ما عبدت]، لقالوا: بل نحن نعبد ما كنت تعبد لما كنت مشركًا، بخلاف ما إذا قال: [ولا أنتم عابدون ما أعبده في هذا الوقت].
ولم يقل: [ما أنا عابد له] إذ نفسه قد لا تكون عابدة له مطلقًا.
وقد يجوز أن يعبد الواحد من الناس غير الله في المستقبل، فلا يكون من لم يعبد ما يعبده في المستقبل مذمومًا، بخلاف المؤمن الذي يخاطب بهذه السورة غيره، فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله.
فهو يقول للكفار: [ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن].
وذكر النفي عن الكفار في الجملتين لتقارب كل جملة جملة.
فلما قال: {لا أّعبد ما تعبدون} فنفي الفعل، قال: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}.
ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه، ونفي أن يعبد شيئًا مما عبدوه ولو في بعض الزمان قال: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، بل أنتم بريؤون من عبادة ما أعبده.
فليس لبراءتي، وكمال براءتي، وبُعْدِي من معبودكم، وكمال قربي إلى الله في عبادتي له وحده لا شريك له، يكون لكم نصيب من هذه العبادة.
بل أنتم أيضًا في هذه الحال لا تعبدون ما أعبد لا في الحال الأولى، ولا في الثانية.
ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولي، لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية.
فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولي الخاصة، وحين البراءة الثانية العامة القاطعة.
وهم لم يختلف حالهم في الحالين، بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد.
فلم يكن في تغيير العبارة فائدة، وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنىين.
والإنسان يقوي يقينه، وإخلاصه، وتوحيده، وبراءته من الشرك وأهله، وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم، فرفع درجته في ذلك.
وهو في ذلك يقول للكفار: [لا تعبدون ما أعبد] في هذه الحال سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له أو لم يزد.
فالمقصـود بالسورة: أن المؤمن يتبرأ منهم، ويخبرهم أنهم برآء منه، وتبريه منهم إنشاء ينشئه، كما ينشئ المتكلم بالشهادتين.
وهذا يزيد وينقص.
ويقوي ويضعف.
وأما هم، فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال، لا ينشئ شيئًا لم يكن فيهم.
فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم، والخبر مطابق للمخبر عنه، فلم يتغير لفظ خبره عنهم، إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته الله لا يعبدون ما يعبد.
فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات زادوا أو نقصوا.
ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم، فإن ذلك محرم.
بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان.
وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به.
فلم يكن في الإخبار عن حالهم زيادة فيما هم عليه ولا نقص.
فلم يغير لفظ الخبر في الحالين بلفظ واحد.
وأما المؤمن نفسه فهو مأمور بأن ينشئ قوة الإخلاص الله وحده، وعبادته وحده، والبراءة من كل معبود سواه وعبادته، وبراءته منه ومن عابديه.
وقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}،، وإن كان لفظها خبرًا، ففيها معنى الإنشاء، كسائر ألفاظ الإنشاءات، كقوله: [أشهد أن لا إله إلا الله]، وقوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 -27]، وقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]، فكل هذه الأقوال فيها معنى الإنشاء لما ينشئه المؤمن في نفسه من زيادة البراءة من الشرك وهي المقَشْقِشَة التي تُقَشْقِشُ من الشرك، كما يُقَشْقَشُ المريض من المرض. فإن الشرك والكفر أعظم أمراض القلوب.
فأمر المؤمن بقول يوجب في قلبه من البراءة من الشرك ما لم يكن في قلبه قبل ذلك.
وكلما قاله ازداد براءة من الشرك، وقلبه شفاء من المرض، وإن كان الكَفَرة المخاطبون لا يزدادون بالإخبار عنهم إلا كفرًا.
فالجمل الخبرية تطابق المخبر عنه، والإنشاء يوجب إحداث ما لم يكن.
فقيل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2]، أي: أنا ممتنع من هذا، تارك له، ثم قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 4] أي: أنا بريء من هذا متنزه عنه.
مزكٍ لنفسي منه.
فإن الشرك أعظم ما تنجس به النفس، وأعظم تزكية النفس وتطهيرها، تزكيتها منه وتطهيرها منه.
فما أنا عابد قط ما عبدتم في وقت من الأوقات.
وأنتم مع ذلك ما أنتم عابدون ما أعبد، بل أنتم بريؤون مما أعبد.
وأنا بريء مما تعبدون، مأمور بالبراءة منه، وطالب زيادة البراءة منه، ومجتهد في ذلك.
وأنا أخبر عنكم بأنكم بريؤون مما أعبد، إما لكونكم تأمرون بذلك، وإما لكونكم تعبدونه، فلا أخبر به، فإنه كذب.
وإما لكونكم تجتهدون في البراءة وتبالغون فيها، فبها تختلف فيه أحوالكم.
وأنا لا يسوغ لي أن أذكر ما يزيل براءتكم، ولا أكذب عليكم، فإنكم تنقصون منها إذا تبرأت، بل التبري منها داع وباعث لمن له عقل أن ينظر في سبب هذه البراءة، لا سيما في حق الرسول الذي خوطب أولًا بقوله: {قُلْ} فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه، واختياري به عداوتكم، والصبر على أذاكم.
واحتمالي هذه المكاره العظيمة.
بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم، وتصفوني بالأمانة، وتسموني [الأمين] وتفضلوني على غيري، ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان، وأني لا أختار لأحد منكم سوءًا، ولا أريد أن أصيب أحدًا بِشَرٍّ.
فاختياري للبراءة مما تعبدون، وإظهاري لسبهم وشتمهم، أهو سُدي ليس له موجب أوجبه؟ فانظروا في ذلك.
ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته، مع ما فيها من كمال البراءة منهم.
ومعانيها كثيرة شريفة يطول وصفها.
وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، يتناول كل كافر.
فهو لا يعبد ما يعبده أحد من الكفار، ولا مشركي العرب، ولا غيرهم من المشركين والكفار أهل الكتاب لا اليهود ولا النصارى، ولا غيرهم من أصناف الكفار وذلك أنه قال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}.
فذكر لفظ [ما]، ولم يقل: [من تعبدون].
و[ما] تدل على الصفة كما تقدم وما ذكره المهدوي وغيره من أنه قال: {مَا أَعْبُدُ} ولم يقل: [من أعبد] يقابل به {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} الذي يراد به الأصنام، فضعيف جدًا يغيِّر اللغة ويخص عموم القرآن وهو عموم مقصود ويزيل المعنى الذي به تعلقت هذه البراءة.
فإن [ما] في اللغة إما لما لا يعلم، ولصفات ما يعلم، كما في قوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ} [النساء: 3] {وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [الليل: 3]، وفي التسيبح المأثور أنه يقال عند سماع الرعد: [سبحان ما سبحت له] ومثله كثير.
فقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}،، جار على أصل اللغة.
وأيضًا، فقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}،، خطاب للكفار مطلقًا، فهو لا يعبد الملائكة، ولا غير ذلك مما عبد من دون الله وإن كان ما عبد أهل العلم والعقل فَعَبَّر عن ذواتهم بـ[من] فتخصيص البراءة من الشرك بشرك مشركي العرب غلط عظيم، وإنما هي براءة من كل شرك.
وكون الرب يتصف بما تتصف به الأصنام من عدم العلم ما لا يجوز عليه، ولا تصح المقابلة في مثل ذلك، بل المقصود ذكر الصفات والإخبار بمعبود الرسول والمؤمنين ليتبرأ من معبدوهم ويبرئهم من معبوده.
وإذا قال اليهود: نحن نقصد عبادة الله، كانوا كاذبين، سواء عرفوا أنهم كاذبون أو لم يعرفوا، كما يقول النصارى: إنا نعبد الله وحده وما نحن بمشركين، وهم كاذبون؛ لأنهم لو أرادوا عبادته لعبدوه بما أمر به، وهو الشرع، لا بالمنسوخ المبدل.
وأيضًا، فالرب الذي يزعمون أنهم يقصدون عبادته، هو عندهم رب لم ينزل الإنجيل ولا القرآن، ولا أرسل المسيح ولا محمدًا.
بل هو عند بعضهم فقير، وعند بعضهم بخيل، وعند بعضهم عاجز، وعند بعضهم لا يقدر أن يغير ما شرعه.
وعند جميعهم أنه أيد الكاذبين المفترين عليه، الذين يزعمون أنهم رسله وليسوا رسله، بل هم كاذبون سحرة.
قد أيدهم ونصرهم، ونصر أتباعهم على أوليائه المؤمنين؛ لأنهم عند أنفسهم أولياؤه دون الناس. فالرب الذي يعبدونه هو دائمًا ينصر أعداءه.
فهم يعبدون هذا الرب، والرسول والمؤمنون لا يعبدون هذا المعبود الذي تعبده اليهود.
فهو منزه عما وصفت به اليهود معبودها من جهة كونه معبودًا لهم منزه عن هذه الإضافة.
فليس هو معبودًا لليهود، وإنما في جبلاتهم صفات ليست هي صفاته زينها لهم الشيطان.
فهم يقصدون عبادة المتصف بتلك الصفات، وإنما هو الشيطان.
فالرسول والمؤمنون لا يعبدون شيئًا تعبده اليهود وإن كانوا يعبدون من يعبدونه، وهذا مما يظهر به فائدة ما ذكرنا.
وعلى هذا فقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}،، خطاب لجميع الكفار كما دلت عليه الآية. وبهذا يظهر خطأ من قال: إنه خطاب للمشركين والنصارى دون اليهود، كما في قول ابن زيد: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، قال: للمشركين والنصارى، واليهود، لا يعبدون إلا الله، ولا يشركون، إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء بما جاؤوا به من عند الله، ويكفرون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وقتلوا طوائف الأنبياء ظلمًا وعدوانًا.
قال: إلا العصابة التي تقول حيث خرج بُخْت نَصَّر، وقيل: من سموا عزيرًا [ابن الله] ولم يعبدوه.
ولم يفعلوا كما فعلت النصارى قالت: المسيح ابن الله، وعبدته.
فهذا الذي ذكره من أن اليهود لا تشرك كما أشركت العرب والنصارى صحيح، لكنهم مع هذا لا يعبدون الله، بل يستكبرون عن عبادته، ويعبدون الشيطان، لا يعبدون الله. ومن قال: إن اليهود تعبد الله فقد غلط غلطًا قبيحًا. فكل من عبد الله، كان سعيدًا من أهل الجنة، وكان من عباد الله الصالحين. قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن وفي رواية فلا يعبد إلا الله بعد أن أرسل محمدًا وعرفت رسالته وبلغت؛ ولهذا اتفق العلماء على أن أعمالهم حابطة.
ولو عبدوا الله لم تحبط أعمالهم. فإن الله لا يظلم أحدًا.
وقبل إرسال محمد، إنما كان يعبد الله من عبده بما أمر به.
فأما من ترك عبادته بما أمر به واتبع هواه، فهو لا يعبد الله، إنما يعبد الشيطان، ويعبد الطاغوت. وقد أخبر الله عن اليهود بأنهم عبدوا الطاغوت، وأنه لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
وهـو اسم جنس يدخل فيه الشيطان، والوثن، والكهان، والدرهم، والدينار، وغير ذلك.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، وقال: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} الآية [البقرة: 101 -102].
وهـم أشـد عداوة للمـؤمنين من النصارى، وكفرهم أغلظ،وهم مغضوب عليهم.
ولهـذا قيـل:إنهم تحت النصارى في النار.
واليهود إن لم يعبـدوا المسـيح، فقـد افتروا عليه وعلى أمه بما هو أعظم من كفر النصارى.
ولهذا جعل الله النصارى فوقهم إلى يوم القيامة.
فالنصارى مشركون يعبدون الله ويشركون به.
وأما اليهود فلا يعبدون الله، بل هم معطلون لعبادته، مستكبرون عنها كلما جاءهم رسول بما لا تهوي أنفسهم استكبروا ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون.
بل هم متبعون أهواءهم، عابدون للشيطان.
فالنبي والمؤمنون لا يعبدون ما تعبده اليهود.
وهم وإن وصفوا الله ببعض ما يستحقه فهم يصفونه بما هو منزه عنه.
وليس في قلوبهم عبادة له وحده.
فإن ذلك لا يكون إلا لمن عبده بما أمره به.
والسورة لم يقل فيها: [يا أيها المشركون] حتى يقال فيها: إنها إنما تناولت من أشرك.
بل قال: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، فتناولت كل كافر، سواء كان ممن يظهر الشرك، أو كان فيه تعطيل لما يستحقه الله واستكبار عن عبادته.
والتعطيل شر من الشرك، وكل معطل فلابد أن يكون مشركًا.
والنصارى مع شركهم لهم عبادات كثيرة، واليهود من أقل الأمم عبادة وأبعدهم عن العبادة الله وحده.
لكن قد يعرفون مالا تعرفه النصارى، لكن بلا عبادة وعمل بالعلم.
فهم مغضوب عليهم، وأولئك ضالون.
وكلاهما قد برأ الله منهم رسوله والمؤمنين.
وفي هـذه الأمـة مـن يعرف مـا لا تعرفه اليهود والنصارى بلا عمل بالعلم، ففيهم شـبه، كما قال سُفيان بن عُيَيْنة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد مـن عبادنا كـان فيـه شـبه مـن النصارى.
بل قد قال أبو هريرة: ما أقرب الليلة من البارحـة، أنتم أشبه الناس ببني إسـرائيل. بـل في الحـديث الصحيح وفي رواية: .
وقـال" .
وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن فيه حال الفرقة الناجية الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومما يوضح ما تقدم أن قوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:2-3]، معناه المعبود.
ولكن هو لفظ مطلق يتناول الواحد والكثير، والمذكر والمؤنث.
فهو يتناول كل معبود لهم.
والمعبود هو الإله، فكأنه قال:لا أعبد إلهكم، ولا تعبدون إلهي،كما ذكر الله في قصة يعقـوب.
قـال تعالى:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقـرة: 133]، واسم الإلـه والمعبـود يتضمن إضافـة إلى العابـد.
وقـال:{إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ}، هو الذي يعبده هؤلاء صلوات الله وسلامه عليهم ويألهونه.
وإنما يعبده من كان على ملتهم، كما قال يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} إلى قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 37 -40].
فتبين أن ملة آبائه هي عبادة الله، وهي ملة إبراهيم.
وقد قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى قوله : {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 130-132].
وإذا كان كذلك، فاليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم، وإذا لم يكونوا على ملته، لم يكونوا يعبدون إله إبراهيم.
فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملته، قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 135-137]، فقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيم}، يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملة إبراهيم.
وهذا بعد مبعث محمد مما لا ريب فيه، فإنه هو الذي بعث بملة إبراهيم. والطائفتان كانتا خارجتين عنها بما وقع منهم من التبديل.
قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [آل عمران: 68]، وقال: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ّ} الآية [الأنعام: 161].
وقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
وقوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}، يبين أن كل من رغب عنها فقد سفه نفسه.
وفيه من جهة الإعراب والمعنى قولان:
أحدهما وهو قول الفراء وغيره من نحاة الكوفة واختيار ابن قتيبة وغيره، وهو معنى قول أكثر السلف: أن النفس هي التي سفهت.
فإن [سفه] فعل لازم لا يتعدي، لكن المعنى: إلا من كان سفيهًا فجعل الفعل له ونصب النفس على التمييز لا النكرة، كقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4].
وأما الكوفيون فعرفوا هذا وهذا. قال الفراء: نصب النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعـًا، معناه: ضاق ذرعي به.
ومثله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، أي: اشتعل الشيب في الرأس.
قال: ومنه قوله: ألم فلان رأسه، ووجع بطنه، ورشد أمره.
وكان الأصل: سفهت نفس زيد، ورشد أمره، فلما حول الفعل إلى زيد انتصب ما بعده على التمييز.
فهذه شواهد عرفها الفراء من كلام العرب.
ومثله قوله: غُبِنَ فلان رأيه، وبطر عيشه.
ومثل هذا قوله: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]، أي: بطرت نفس المعيشة.
وهذا معنى قول يَمَان بن رباب: حمق رأيه ونفسه، وهو معنى قول ابن السائب: ضل من قبل نفسه، وقول أبي روق: عجز رأيه عن نفسه.
والبصريون لم يعرفوا ذلك.
فمنهم من قال: جهل نفسه، كما قاله ابن كَيسان، والزجّاج.
قال: لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه، لأنه لم يعلم خالقها.
وهذا الذي قالوه ضعيف.
فإنه إن قيل: إن المعنى صحيح، فهو إنما قال: [سفه]، و[سفـه] فعـل لازم، ليس بمتعدٍ، و[جهل] فعل متعد.
وليس في كلام العرب [سفهت كذا] البتة بمعنى: جهلتـه.
بل قالوا: سَفُه ـ بالضم ـ سفاهة، أي صار سفيهًا، وسفِه ـ بالكسـر ـ أي: حصل منـه سفه، كما قالوا في [فقُه وفقِه].
ونقل بعضهم: سفهت الشرب إذا أكثرت منـه.
وهـو يوافق مـا حكاه الفـراء، أي: صار شـربه سفيهـًا، فسفه شربه لما جاوز الحد.
وقال الأخفش، ويونس: نصب بإسقاط الخافض، أي: سفه في نفسه.
وقولهم [بإسقاط الخافض]، ليس هو أصلا فيعتبر به، ولكن قد تنزع حروف الجر في مواضع مسموعة، فيتعدي الفعل بنفسـه.
وإن كان مقيسًا في بعض الصور، فـ [سفه] ليس من هذا، لا يقال:سفهـت أمر الله، ولا ديـن الإسلام، بمعنى: جهلته، أي: سفهت فيه.
وإنما يوصف بالسفه وينصب على التمـييز مـا خـص بـه، مثل نفسه أو شربه، ونحو ذلك.
والمقصود أن كل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه.
قال أبو العالية: رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا دين إبراهيم.
وكذلك قال قتادة: بدلوا دين الأنبياء واتبعوا المنسوخ.
فأما موسي والمسيح، ومن اتبعهما، فهم على ملة إبراهيم متبعون له، وهو إمامهم.
وهذا معنى قوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [آل عمران: 68].
فهو يتناول الذين اتبعوه قبل مبعث محمد وبعد مبعثه.
وقيل: إنه عام، قال الحسن البصري: كل مؤمـن ولي إبراهيـم مـمن مضي وممن بقي.
وقال الربيع بن أنس:هم المؤمنون الذين صدقـوا نبـي الله واتبعـوه،وكان محمـد والـذين معه من المؤمنين أولي الناس بإبراهيم.
وهذا وغيره مما يبين أن اليهود والنصارى لا يعبدون الله، وليسوا على ملة إبراهيم.
فإن قيل: فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قـول الخليـل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75-77]، فقد استثناه مما يعبدون، فدل على أنهم كانوا يعبدون الله.
وكذلك قوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26-27]، واستثناه أيضًا.
وفي المسند وغيره حديث حُصَين الخُزَاعي لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم .
قيل: هذا قول المشركين، كما تقول اليهود والنصارى: نحن نعبد الله.
فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا.
وأما قول الخليل، ففيه قولان؛ قال طائفة: إنه استثناء منقطع، وقال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يعبدون الله مع آلهتهم.
وعلى هذا، فهذا لفظ مقيد.
فإنـه قال: {مَا تَعْبُدُونَ}.
فسماه عبادة إذا عرف المراد، لكن ليست هي العبادة التي هي عنــد الله عبـادة.
فـإنـه كما قـال تعالى: (أنـا أغني الشركاء عـن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك).
وهـذا كقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
سماه إيمانًا مـع التقييـد، وإلا فالمشرك الذي جعل مع الله إلهًا آخر لا يدخل في مسمي الإيمان عند الإطلاق.
وقد قال: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
فهذا مع التقييد.
ومع الإطلاق.
فالإيمان هو الإيمان بالله، والبشارة بالخير.
وقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3]، نفي العبادة مطلقًا، ليس هو نفي لما قد سمي عبادة مع التقييد.
والمشرك إذا كان يعبد الله ويعبد غيره فيقال: إنه يعبد الله وغيره، أو يعبده مشركًا به.
لا يقال: إنه يعبد مطلقًا.
والمعطل الذي لا يعبد شيئًا شر منه.
والعبادة المطلقة المعتدلة هي المقبولة،وعبادة المشرك ليست مقبولة.
ومما يوضح هـذا قولـه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} الآية [البقرة: 133]، قالوا فيها: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ}، ثم قالوا: {إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، فهذا بدل من الأول في أظهر الوجهين.
فإن النكرة تبدل من المعرفة، كما في قوله: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 15-16]، فذكرت معرفة وموصوفة.
كذلك قالوا: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ} فعرفوه.
ثم قالوا: {إِلَـهًا وَاحِدًا} فوصفوه.
والبدل في حكم تكرير العامل أحيانًا، كما في قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75]، فالتقدير: نعبد إلهك، نعبد إلهًا واحدًا، ونحن له مسلمون.
فجمعوا بين الخبرين بأمرين بأنهم يعبدون إلهه، وأنهم إنما يعبدون إلهًا واحدًا.
فمن عبد إلهين لم يكن عابدًا لإلهه وإله آبائه.
وإنما يعبد إلهه من عبد إلهًا واحدًا.
ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابدًا له، لكانت عبادته نوعين؛ عبادة إشراك، وعبادة إخلاص.
وإذا كان كذلك لم يكن قوله: {إِلَـهًا وَاحِدًا} بدلًا؛ لأن هذا كل من كل، ليس هو بدل بعض من كل.
فَعُلِم أن إلهه وإله آبائه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
والوجه الثاني:قوله:{إِلَـهًا وَاحِدًا} نصب على الحال، لكنها حال لازمة فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
كقوله:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]، وهو لا يكون إلا مصدقًا.
ومنه: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[البقرة: 135]، {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21].
فمن عبد معه غيره، فما عبـده إلهـًا واحـدًا، ومن أشـرك به فما عبده.
وهو لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له، لم تكن له حال أخرى يعبده فيها، فما عبده.
فـإن قيل: المشرك يجعل معه آلهة أخرى، فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد، قيل: هـذا غلط منشؤه أن لفـظ [الإلـه] يراد بـه المستحـق للإلهيـة، ويراد به ما اتخذه الناس إلهًا وإن لم يكن إلهًا في نفس الأمر، بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم.
فتلك ليست في نفسها آلهـة، وإنمـا هـي آلهـة في أنفـس العابـدين.
فإلهيتهـا أمر قـدره المشركون، وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقًا للخارج، كالذي يجعل من ليس بعالم عالمًا، ومن ليس بحي حيـًا، ومـن ليس بصـادق ولا عـدل صـادقًا وعـدلًا فيقال: هذا عندك صادق، وعادل، وعالـم، وتلـك اعتقادات غير مطابقة، وأقوال كاذبة غير لائقة.
ولهذا يجعل سبحانه ذلك من باب الافتراء والكذب كما قال أصحاب الكهف: {هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]، وقال الخليل: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17].
وقال: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: 66]، أي: أي شيء يتبع الذين يشركون؟ وإنما يتبعون الظن والخرص، وهو الحزْرُ.
هذا صواب، وإن ما استفهامية.
وقد قيل: إنها نافية.
وبعضهم لم يذكر غيره، كأبي الفرج.
وهو ضعيف كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع.
وقال هود: {اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود:50].
وإذا كانـت إلهية مـا سوى الله أمـرًا مختلقـًا يوجـد فـي الـذهن واللسان لا وجود له في الأعيان.
هـو مـن بـاب الكـذب والاعتقـاد الباطـل الذي ليس بمطابـق.
ومـا عنـد عابديها من الحب والخوف والرجاء لهـا تابـع لذلك الاعتقـاد الباطـل.
كمـن اعتقـد فـي شخص أنه صادق فصدقه فيما يقـول، وبني على إخباره أعمالًا كثـيرة.
فلما تبين كـذبه، ظهر فساد تلك الأعمـال كأتبـاع مسيلمـة،والأسـود، وغيرهمـا من أصحـاب الزوايا والتُّرهَات، وما يشـرعونـه لأتباعهـم مما لـم يـأذن به الله، بخلاف الصادق والصدق.
ولهذا كانت كلمة التوحيد {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [إبراهيم: 24].
وقال في كلمة الشرك: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 26].
فليس لها أساس ثابت، ولا فرع ثابت؛ إذ كانت باطلة، كأقوال الكاذبين وأعمالهم، بل هي أعظم الكذب والافتراء مع الحب لها.
والشرك أعظم الظلم.
قال ابن مسعود: قلت " فنفس تألههم لها، وعبادتهم إياها، وتعظيمها، وحبها، ودعائها، واعتقادها آلهة، والخبر عنها بأنها آلهة موجود، كما كان اعتقاد الكذابين موجودًا.
وأما نفس اتصافها بالإلهية، فمفقود، كاتصاف مسيلمة بالنبوة.
فهنا حالان: حال للعابد.
وحال للمعبود.
فأما العابدون فكلهم في قلوبهم عبادة وتأله لمن عبدوه.
وأما المعبودون، فالرحمن له الإلهية، وما سواه لا إلهية له، بل هو ميت لا يملك لعابديه ضرًا ولا نفعا. {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، وهو في أصح القولين {سَبِيلًا} بالتقرب بعبادته وذكره.
ولهذا قال بعدها:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] ، فأخبر عن الخلائق كلها أنها تسبح بحمده.
وقد بسط هذا في موضع آخر.
فقوله: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ... إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، إذا قيل: إنه منصوب على الحال، فإما أن يكون حالًا من الفاعل العابد، أو من المفعول المعبود.
فالأول: نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه.
والثاني نعبده في الحال اللازمة له، وهو أنه إله واحد، فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه.
فإن كان التقدير هذا الثاني، امتنع أن يكون المشرك عابدًا له.
فإنه لا يعبده في هذه الحال، وهو سبحانه ليست له حال أخرى نعبده فيها.
وإن كان التقدير الأول، فقد يمكن أن نعبده في حال أخرى نتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا.
لكن قوله: {إِلَـهًا وَاحِدًا} دليل على أنها حال من المعبود، بخلاف ما إذا قيل: نعبده مخلصين له الدين، فإن هذه حال من الفاعل.
ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيرًا، كقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} [الزمر: 14].
فهذا حال من الفاعل فإنه يكون تارة مخلصا، وتارة مشركا.
وأما الرب تعالى فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
والحال وإن كانت صفة للمفعول فهي أيضًا حال للفاعل.
فإنهم قالوا: نعبده في هذه الحال.
فلزم أن عبادتهم له ليست في غير هذا الحال.
وبين أن قوله:{نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ... إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، هي حال متعلقة بالفاعل والمفعول جميعًا بالعابد والمعبود.
فإن العامل فيها المتعلق بها العبادة، وهي فعل العابد، والذي يقال له المفعول في العربية هو المعبود.
كما قيل في الجملة: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] قيل: هي واو العطف.
وقيل: واو الحال.
أى: نعبده في هذه الحال.
قالوا: وهي حال من فاعل [نعبد] أو مفعوله لرجوع الهاء إليه في [له].
وهذا التقدير غلط؛ إذ هي حال منهما جميعًا.
فإنهم إذا عبدوه وهم مسلمون فهم مسلمون حال كونهم عابدين، وحال كونه معبودًا؛ إذ كونهم عابدين وكونه معبودًا ليس مختصًا بمقارنة أحدهما دون الآخر.
فالظرف والحال هنا كلمة وليست مفردًا؛ ولهذا اشتبه عليهم.
فإن المفرد لا يمكن أن يكون في اللفظ صفة لهذا وهذا.
فإذا قلت:ضربت زيدًا قاعدًا، فالقعود حال للفاعل أو المفعول.
وإذا قلت:ضربته والناس قعود، فليس هذه الحال من أحدهما دون الآخر، بل هي مقارنة للضرب المتعلق بها، كأنه قال: ضربته في زمان قعود الناس.
فهو ظرف للفعل المتعلق بالفاعل والمفعول، بخلاف ما إذا قلت: ضربته في حال قعودي أو قعوده، فهذا يختلف.
والآية فيها {إِلَـهًا وَاحِدًا}. فهذه حال من المعبود بلا ريب.
فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلهًا واحدًا، وهذه لازمة له.
وإذا قيل: المراد في حال كونه معبودًا واحدًا لا نتخذ معه معبودًا آخر، فهذه حال ليست لازمة، لكنه صفة للعابدين، لا له. قيل: هذا ليس فيه مدح له، ولا وصف له بأنه يستحق الإلهية.
لكن فيها وصفهم فقط.
وأيضًا فقوله:{إِلَـهًا وَاحِدًا}، كقوله: {وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] فهو في نفسه إله واحد وإن جعل معه المشركون آلهة بالافتراء والحب.
فيجب أن يكون المراد ما دل عليه هذا الاسم.
ولو أرادوا ذلك المعني لقالوا: نعبده مخلصين له الدين.
وهذا المعني قد ذكروه في الجملة الثانية، وهي قولهم: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، لا سيما إذا جعلت حالا، أى: نعبده إلها واحدًا في حال إسلامنا له.
وإسلامهم له يتضمن إخلاص الدين له، وخضوعهم، واستسلامهم لأحكامه، بخلاف غير المسلمين.
ولهذا قال آمرًا للمؤمنين أن يقولوا: {آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
ثم قال: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 138- 139].
وفي هذه الآيات معان جليلة ليس هذا موضع استيفائها.
_______________
<مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)
إذا تبين هذا فنقول: القرآن تنزيل من حكيم حميد، وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت.
ولو أن رجلًا من بني آدم له علم، أو حكمة، أو خطبة، أو قصيدة، أو مصنف، فهذب ألفاظ ذلك وأتي فيه بمثل هذا التغاير، لعلم أنه قصد في ذلك حكمة، وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدي.
فكيف بكلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين؟ لا سيما وقد قال فيه: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
فنقول: الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي، فيعم الحاضر والمستقبل، كما قال سِيبَويه: وبنوه لِمَا مضي من الزمان، ولما هو دائم لم ينقطع، ولما لم يأت بمعنى الماضي، والمضارع وفعل الأمر.
فجعل المضارع لما هو من الزمان دائمًا لم ينقطع، وقد يتناول الحاضر والمستقبل.
فقوله: {لَا أَعْبُدُ}، يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل.
وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ}، يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل.
كلاهما مضارع.
وقال في الجملة الثانية عن نفسه: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}.. فلم يقل: [لا أعبد]، بل قال:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ}، ولم يقل: [ما تعبدون]، بل قال: {مَّا عَبَدتُّمْ}.
فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأول.
والنفي بهذه الجملة الثانية، أعم من النفي بالأولي.
فإنه قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} بصيغة الماضي.
فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي؛ لأن المشركين يعبدون آلهة شتي.
وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى.
فقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}،، براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة الماضية، كما تبرأ أولا مما عبدوه في الحال والاستقبال.
فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماض، وحاضر، ومستقبل.
وقوله أولا: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، لا يتناول هذا كل.
وقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ}،، اسم فاعل قد عمل عمل الفعل، ليس مضافًا، فهو يتناول الحال والاستقبال أيضًا لكنه جملة اسمية، والنفي بما بعد الفعل فيه زيادة معنى، كما تقول: ما أفعل هذا، ما أنا بفاعله.
وقولك: [ما هو بفاعل هذا أبدًا] أبلغ من قولك: [ما يفعله أبدًا].
فإنه نفي عن الذات صدور هذا الفعل عنها، بخلاف قولك: [ما يفعل هذا]، فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه.
ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له، بخلاف قوله: [ما هو فاعلا، وما هو بفاعل]، كما في قوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النحل:71].
وقوله: {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22]، وقوله: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]، {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ} [النمل: 81]، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة:102] ولا يقال: الجملة الاسمية ترك الثبـوت، ونفي ذلك لا يقتضي نفي العارض.
فـإن هـذه الجملة في معنى الفعلية نفي؛لكونها عملت عمل الفعل.
لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا، فنفت عن الذت أن يعرض لها هذا الفعل تنزيهًا للذات، ونفيًا لقبولها لذلك.
فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل، والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل.
فقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 4]، أي: نفسي لا تقبل ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط.
ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط.
فأي معبود عبدتموه في وقت، فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات.
ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل، ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان، ما ليس في الجملة الأولى.
تلك تضمنت نفي الفعل في الزمـان غير الماضي، وهـذه تضمنت نفي إمكانـه وقبـولـه لما كـان معبـودًا لهم ولو في بعض الزمـان الماضي فقـط.
والتقـدير: مـا عبدتمـوه ولو في بعض الأزمـان الماضيـة فـأنـا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدًا.
ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل؛ لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال. وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها.
فهـو يتبرأ في الحاضـر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان، وينفي جواز عبادته لمعبـودهم،ويبين أن مثـل هـذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ.
فهو ينفي جوازه شـرعًا ووقـوعًا.
فـإن مثـل هـذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال، كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقـال: [أنا أفعـل هـذا؟ مـا أنا بفاعـل هذا أبدًا].
فهو أبلغ من قوله: [لا أفعـله أبدًا].
وهـذا كقـولـه: {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة: 145].
فهو يتضمن نفي الفعل بغضًا فيه وكراهة له بخلاف قوله: [لا أفعل].
فقد يتركه الإنسان وهو يحبه لغرض آخر.
فإذا قال: [ما أنا عابد ما عبدتم]، دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه.
وهذه هي البراءة.
ولهذا تستعمل في ضد الولاية فيقال: تول فلانًا، وتبرأ من فلان.
كما قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} الآية [الممتحنة: 4].
وأمـا قولـه عـن الكفار: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}،،فهـو خطاب لجنس الكفار.
إن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارًا.
فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك.
فإنهم حينئذ مؤمنون، لا كافرون،وإن كانوا منافقين، فهم كافرون في الباطن، فيتناولهم الخطاب.
وهذا كما يقال: قل يا أيها المحاربون، والمخاصمون، والمقاتلون، والمعادون.
فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة.
وما دام الكافر كافرًا، فإنه لا يعبد الله، وإنما يعبد الشيطان، سواء كان متظاهرًا، أو غير متظاهر به كاليهود.
فإن اليهود لا يعبدون الله، وإنما يعبدون الشيطان؛ لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر.
وهم وإن زعموا أنهم يعبدونه فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها، فليست عبادة.
فكل كافر بمحمد، لا يعبد ما يعبده محمد ما دام كافرًا.
والفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع.
فهو ما دام كافرًا، لا يعبد معبود محمد صلى الله عليه وسلم، لا في الحاضر، ولا في المستقبل.
ولم يقل عنهم: [ولا تعبدون ما أعبد]، بل ذكر الجملة الاسمية ليبين أن نفس نفوسكم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله محمد، لا يمكن أن تعبده ما دامت كافرة؛ إذ لا تكون عابدته إلا بأن تعبده وحده بما أمر به على لسان محمد.
ومن كان كافرًا بمحمد، لا يكون عمله عبادة الله قط.
وتبرئتهم من عبادة الله، جاءت بلفظ واحد، بجملة اسمية تقتضي براءة ذواتهم من عبادة الله، لم تقتصر على نفي الفعل.
ولم يحتج أن يقول فيهم: [ولا أنتم عابدون ما عبدت]، كما قال في نفسه: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} لوجهين:
أحدهما: أن كل مؤمن فهو مأمور بقراءة هذه السورة، ومنهم من كان معبوده غير الله.
فلو قال: [ولا أنتم عابدون ما عبدت]، لقالوا: بل نحن نعبد ما كنت تعبد لما كنت مشركًا، بخلاف ما إذا قال: [ولا أنتم عابدون ما أعبده في هذا الوقت].
ولم يقل: [ما أنا عابد له] إذ نفسه قد لا تكون عابدة له مطلقًا.
وقد يجوز أن يعبد الواحد من الناس غير الله في المستقبل، فلا يكون من لم يعبد ما يعبده في المستقبل مذمومًا، بخلاف المؤمن الذي يخاطب بهذه السورة غيره، فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله.
فهو يقول للكفار: [ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن].
وذكر النفي عن الكفار في الجملتين لتقارب كل جملة جملة.
فلما قال: {لا أّعبد ما تعبدون} فنفي الفعل، قال: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}.
ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه، ونفي أن يعبد شيئًا مما عبدوه ولو في بعض الزمان قال: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، بل أنتم بريؤون من عبادة ما أعبده.
فليس لبراءتي، وكمال براءتي، وبُعْدِي من معبودكم، وكمال قربي إلى الله في عبادتي له وحده لا شريك له، يكون لكم نصيب من هذه العبادة.
بل أنتم أيضًا في هذه الحال لا تعبدون ما أعبد لا في الحال الأولى، ولا في الثانية.
ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولي، لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية.
فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولي الخاصة، وحين البراءة الثانية العامة القاطعة.
وهم لم يختلف حالهم في الحالين، بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد.
فلم يكن في تغيير العبارة فائدة، وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنىين.
والإنسان يقوي يقينه، وإخلاصه، وتوحيده، وبراءته من الشرك وأهله، وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم، فرفع درجته في ذلك.
وهو في ذلك يقول للكفار: [لا تعبدون ما أعبد] في هذه الحال سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له أو لم يزد.
فالمقصـود بالسورة: أن المؤمن يتبرأ منهم، ويخبرهم أنهم برآء منه، وتبريه منهم إنشاء ينشئه، كما ينشئ المتكلم بالشهادتين.
وهذا يزيد وينقص.
ويقوي ويضعف.
وأما هم، فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال، لا ينشئ شيئًا لم يكن فيهم.
فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم، والخبر مطابق للمخبر عنه، فلم يتغير لفظ خبره عنهم، إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته الله لا يعبدون ما يعبد.
فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات زادوا أو نقصوا.
ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم، فإن ذلك محرم.
بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان.
وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به.
فلم يكن في الإخبار عن حالهم زيادة فيما هم عليه ولا نقص.
فلم يغير لفظ الخبر في الحالين بلفظ واحد.
وأما المؤمن نفسه فهو مأمور بأن ينشئ قوة الإخلاص الله وحده، وعبادته وحده، والبراءة من كل معبود سواه وعبادته، وبراءته منه ومن عابديه.
وقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}،، وإن كان لفظها خبرًا، ففيها معنى الإنشاء، كسائر ألفاظ الإنشاءات، كقوله: [أشهد أن لا إله إلا الله]، وقوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 -27]، وقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]، فكل هذه الأقوال فيها معنى الإنشاء لما ينشئه المؤمن في نفسه من زيادة البراءة من الشرك وهي المقَشْقِشَة التي تُقَشْقِشُ من الشرك، كما يُقَشْقَشُ المريض من المرض. فإن الشرك والكفر أعظم أمراض القلوب.
فأمر المؤمن بقول يوجب في قلبه من البراءة من الشرك ما لم يكن في قلبه قبل ذلك.
وكلما قاله ازداد براءة من الشرك، وقلبه شفاء من المرض، وإن كان الكَفَرة المخاطبون لا يزدادون بالإخبار عنهم إلا كفرًا.
فالجمل الخبرية تطابق المخبر عنه، والإنشاء يوجب إحداث ما لم يكن.
فقيل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2]، أي: أنا ممتنع من هذا، تارك له، ثم قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 4] أي: أنا بريء من هذا متنزه عنه.
مزكٍ لنفسي منه.
فإن الشرك أعظم ما تنجس به النفس، وأعظم تزكية النفس وتطهيرها، تزكيتها منه وتطهيرها منه.
فما أنا عابد قط ما عبدتم في وقت من الأوقات.
وأنتم مع ذلك ما أنتم عابدون ما أعبد، بل أنتم بريؤون مما أعبد.
وأنا بريء مما تعبدون، مأمور بالبراءة منه، وطالب زيادة البراءة منه، ومجتهد في ذلك.
وأنا أخبر عنكم بأنكم بريؤون مما أعبد، إما لكونكم تأمرون بذلك، وإما لكونكم تعبدونه، فلا أخبر به، فإنه كذب.
وإما لكونكم تجتهدون في البراءة وتبالغون فيها، فبها تختلف فيه أحوالكم.
وأنا لا يسوغ لي أن أذكر ما يزيل براءتكم، ولا أكذب عليكم، فإنكم تنقصون منها إذا تبرأت، بل التبري منها داع وباعث لمن له عقل أن ينظر في سبب هذه البراءة، لا سيما في حق الرسول الذي خوطب أولًا بقوله: {قُلْ} فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه، واختياري به عداوتكم، والصبر على أذاكم.
واحتمالي هذه المكاره العظيمة.
بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم، وتصفوني بالأمانة، وتسموني [الأمين] وتفضلوني على غيري، ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان، وأني لا أختار لأحد منكم سوءًا، ولا أريد أن أصيب أحدًا بِشَرٍّ.
فاختياري للبراءة مما تعبدون، وإظهاري لسبهم وشتمهم، أهو سُدي ليس له موجب أوجبه؟ فانظروا في ذلك.
ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته، مع ما فيها من كمال البراءة منهم.
ومعانيها كثيرة شريفة يطول وصفها.
وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، يتناول كل كافر.
فهو لا يعبد ما يعبده أحد من الكفار، ولا مشركي العرب، ولا غيرهم من المشركين والكفار أهل الكتاب لا اليهود ولا النصارى، ولا غيرهم من أصناف الكفار وذلك أنه قال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}.
فذكر لفظ [ما]، ولم يقل: [من تعبدون].
و[ما] تدل على الصفة كما تقدم وما ذكره المهدوي وغيره من أنه قال: {مَا أَعْبُدُ} ولم يقل: [من أعبد] يقابل به {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} الذي يراد به الأصنام، فضعيف جدًا يغيِّر اللغة ويخص عموم القرآن وهو عموم مقصود ويزيل المعنى الذي به تعلقت هذه البراءة.
فإن [ما] في اللغة إما لما لا يعلم، ولصفات ما يعلم، كما في قوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ} [النساء: 3] {وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [الليل: 3]، وفي التسيبح المأثور أنه يقال عند سماع الرعد: [سبحان ما سبحت له] ومثله كثير.
فقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}،، جار على أصل اللغة.
وأيضًا، فقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}،، خطاب للكفار مطلقًا، فهو لا يعبد الملائكة، ولا غير ذلك مما عبد من دون الله وإن كان ما عبد أهل العلم والعقل فَعَبَّر عن ذواتهم بـ[من] فتخصيص البراءة من الشرك بشرك مشركي العرب غلط عظيم، وإنما هي براءة من كل شرك.
وكون الرب يتصف بما تتصف به الأصنام من عدم العلم ما لا يجوز عليه، ولا تصح المقابلة في مثل ذلك، بل المقصود ذكر الصفات والإخبار بمعبود الرسول والمؤمنين ليتبرأ من معبدوهم ويبرئهم من معبوده.
وإذا قال اليهود: نحن نقصد عبادة الله، كانوا كاذبين، سواء عرفوا أنهم كاذبون أو لم يعرفوا، كما يقول النصارى: إنا نعبد الله وحده وما نحن بمشركين، وهم كاذبون؛ لأنهم لو أرادوا عبادته لعبدوه بما أمر به، وهو الشرع، لا بالمنسوخ المبدل.
وأيضًا، فالرب الذي يزعمون أنهم يقصدون عبادته، هو عندهم رب لم ينزل الإنجيل ولا القرآن، ولا أرسل المسيح ولا محمدًا.
بل هو عند بعضهم فقير، وعند بعضهم بخيل، وعند بعضهم عاجز، وعند بعضهم لا يقدر أن يغير ما شرعه.
وعند جميعهم أنه أيد الكاذبين المفترين عليه، الذين يزعمون أنهم رسله وليسوا رسله، بل هم كاذبون سحرة.
قد أيدهم ونصرهم، ونصر أتباعهم على أوليائه المؤمنين؛ لأنهم عند أنفسهم أولياؤه دون الناس. فالرب الذي يعبدونه هو دائمًا ينصر أعداءه.
فهم يعبدون هذا الرب، والرسول والمؤمنون لا يعبدون هذا المعبود الذي تعبده اليهود.
فهو منزه عما وصفت به اليهود معبودها من جهة كونه معبودًا لهم منزه عن هذه الإضافة.
فليس هو معبودًا لليهود، وإنما في جبلاتهم صفات ليست هي صفاته زينها لهم الشيطان.
فهم يقصدون عبادة المتصف بتلك الصفات، وإنما هو الشيطان.
فالرسول والمؤمنون لا يعبدون شيئًا تعبده اليهود وإن كانوا يعبدون من يعبدونه، وهذا مما يظهر به فائدة ما ذكرنا.
وعلى هذا فقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}،، خطاب لجميع الكفار كما دلت عليه الآية. وبهذا يظهر خطأ من قال: إنه خطاب للمشركين والنصارى دون اليهود، كما في قول ابن زيد: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، قال: للمشركين والنصارى، واليهود، لا يعبدون إلا الله، ولا يشركون، إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء بما جاؤوا به من عند الله، ويكفرون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وقتلوا طوائف الأنبياء ظلمًا وعدوانًا.
قال: إلا العصابة التي تقول حيث خرج بُخْت نَصَّر، وقيل: من سموا عزيرًا [ابن الله] ولم يعبدوه.
ولم يفعلوا كما فعلت النصارى قالت: المسيح ابن الله، وعبدته.
فهذا الذي ذكره من أن اليهود لا تشرك كما أشركت العرب والنصارى صحيح، لكنهم مع هذا لا يعبدون الله، بل يستكبرون عن عبادته، ويعبدون الشيطان، لا يعبدون الله. ومن قال: إن اليهود تعبد الله فقد غلط غلطًا قبيحًا. فكل من عبد الله، كان سعيدًا من أهل الجنة، وكان من عباد الله الصالحين. قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن وفي رواية فلا يعبد إلا الله بعد أن أرسل محمدًا وعرفت رسالته وبلغت؛ ولهذا اتفق العلماء على أن أعمالهم حابطة.
ولو عبدوا الله لم تحبط أعمالهم. فإن الله لا يظلم أحدًا.
وقبل إرسال محمد، إنما كان يعبد الله من عبده بما أمر به.
فأما من ترك عبادته بما أمر به واتبع هواه، فهو لا يعبد الله، إنما يعبد الشيطان، ويعبد الطاغوت. وقد أخبر الله عن اليهود بأنهم عبدوا الطاغوت، وأنه لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
وهـو اسم جنس يدخل فيه الشيطان، والوثن، والكهان، والدرهم، والدينار، وغير ذلك.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، وقال: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} الآية [البقرة: 101 -102].
وهـم أشـد عداوة للمـؤمنين من النصارى، وكفرهم أغلظ،وهم مغضوب عليهم.
ولهـذا قيـل:إنهم تحت النصارى في النار.
واليهود إن لم يعبـدوا المسـيح، فقـد افتروا عليه وعلى أمه بما هو أعظم من كفر النصارى.
ولهذا جعل الله النصارى فوقهم إلى يوم القيامة.
فالنصارى مشركون يعبدون الله ويشركون به.
وأما اليهود فلا يعبدون الله، بل هم معطلون لعبادته، مستكبرون عنها كلما جاءهم رسول بما لا تهوي أنفسهم استكبروا ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون.
بل هم متبعون أهواءهم، عابدون للشيطان.
فالنبي والمؤمنون لا يعبدون ما تعبده اليهود.
وهم وإن وصفوا الله ببعض ما يستحقه فهم يصفونه بما هو منزه عنه.
وليس في قلوبهم عبادة له وحده.
فإن ذلك لا يكون إلا لمن عبده بما أمره به.
والسورة لم يقل فيها: [يا أيها المشركون] حتى يقال فيها: إنها إنما تناولت من أشرك.
بل قال: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، فتناولت كل كافر، سواء كان ممن يظهر الشرك، أو كان فيه تعطيل لما يستحقه الله واستكبار عن عبادته.
والتعطيل شر من الشرك، وكل معطل فلابد أن يكون مشركًا.
والنصارى مع شركهم لهم عبادات كثيرة، واليهود من أقل الأمم عبادة وأبعدهم عن العبادة الله وحده.
لكن قد يعرفون مالا تعرفه النصارى، لكن بلا عبادة وعمل بالعلم.
فهم مغضوب عليهم، وأولئك ضالون.
وكلاهما قد برأ الله منهم رسوله والمؤمنين.
وفي هـذه الأمـة مـن يعرف مـا لا تعرفه اليهود والنصارى بلا عمل بالعلم، ففيهم شـبه، كما قال سُفيان بن عُيَيْنة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد مـن عبادنا كـان فيـه شـبه مـن النصارى.
بل قد قال أبو هريرة: ما أقرب الليلة من البارحـة، أنتم أشبه الناس ببني إسـرائيل. بـل في الحـديث الصحيح وفي رواية: .
وقـال" .
وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن فيه حال الفرقة الناجية الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومما يوضح ما تقدم أن قوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:2-3]، معناه المعبود.
ولكن هو لفظ مطلق يتناول الواحد والكثير، والمذكر والمؤنث.
فهو يتناول كل معبود لهم.
والمعبود هو الإله، فكأنه قال:لا أعبد إلهكم، ولا تعبدون إلهي،كما ذكر الله في قصة يعقـوب.
قـال تعالى:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقـرة: 133]، واسم الإلـه والمعبـود يتضمن إضافـة إلى العابـد.
وقـال:{إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ}، هو الذي يعبده هؤلاء صلوات الله وسلامه عليهم ويألهونه.
وإنما يعبده من كان على ملتهم، كما قال يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} إلى قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 37 -40].
فتبين أن ملة آبائه هي عبادة الله، وهي ملة إبراهيم.
وقد قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى قوله : {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 130-132].
وإذا كان كذلك، فاليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم، وإذا لم يكونوا على ملته، لم يكونوا يعبدون إله إبراهيم.
فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملته، قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 135-137]، فقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيم}، يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملة إبراهيم.
وهذا بعد مبعث محمد مما لا ريب فيه، فإنه هو الذي بعث بملة إبراهيم. والطائفتان كانتا خارجتين عنها بما وقع منهم من التبديل.
قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [آل عمران: 68]، وقال: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ّ} الآية [الأنعام: 161].
وقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
وقوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}، يبين أن كل من رغب عنها فقد سفه نفسه.
وفيه من جهة الإعراب والمعنى قولان:
أحدهما وهو قول الفراء وغيره من نحاة الكوفة واختيار ابن قتيبة وغيره، وهو معنى قول أكثر السلف: أن النفس هي التي سفهت.
فإن [سفه] فعل لازم لا يتعدي، لكن المعنى: إلا من كان سفيهًا فجعل الفعل له ونصب النفس على التمييز لا النكرة، كقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4].
وأما الكوفيون فعرفوا هذا وهذا. قال الفراء: نصب النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعـًا، معناه: ضاق ذرعي به.
ومثله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، أي: اشتعل الشيب في الرأس.
قال: ومنه قوله: ألم فلان رأسه، ووجع بطنه، ورشد أمره.
وكان الأصل: سفهت نفس زيد، ورشد أمره، فلما حول الفعل إلى زيد انتصب ما بعده على التمييز.
فهذه شواهد عرفها الفراء من كلام العرب.
ومثله قوله: غُبِنَ فلان رأيه، وبطر عيشه.
ومثل هذا قوله: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]، أي: بطرت نفس المعيشة.
وهذا معنى قول يَمَان بن رباب: حمق رأيه ونفسه، وهو معنى قول ابن السائب: ضل من قبل نفسه، وقول أبي روق: عجز رأيه عن نفسه.
والبصريون لم يعرفوا ذلك.
فمنهم من قال: جهل نفسه، كما قاله ابن كَيسان، والزجّاج.
قال: لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه، لأنه لم يعلم خالقها.
وهذا الذي قالوه ضعيف.
فإنه إن قيل: إن المعنى صحيح، فهو إنما قال: [سفه]، و[سفـه] فعـل لازم، ليس بمتعدٍ، و[جهل] فعل متعد.
وليس في كلام العرب [سفهت كذا] البتة بمعنى: جهلتـه.
بل قالوا: سَفُه ـ بالضم ـ سفاهة، أي صار سفيهًا، وسفِه ـ بالكسـر ـ أي: حصل منـه سفه، كما قالوا في [فقُه وفقِه].
ونقل بعضهم: سفهت الشرب إذا أكثرت منـه.
وهـو يوافق مـا حكاه الفـراء، أي: صار شـربه سفيهـًا، فسفه شربه لما جاوز الحد.
وقال الأخفش، ويونس: نصب بإسقاط الخافض، أي: سفه في نفسه.
وقولهم [بإسقاط الخافض]، ليس هو أصلا فيعتبر به، ولكن قد تنزع حروف الجر في مواضع مسموعة، فيتعدي الفعل بنفسـه.
وإن كان مقيسًا في بعض الصور، فـ [سفه] ليس من هذا، لا يقال:سفهـت أمر الله، ولا ديـن الإسلام، بمعنى: جهلته، أي: سفهت فيه.
وإنما يوصف بالسفه وينصب على التمـييز مـا خـص بـه، مثل نفسه أو شربه، ونحو ذلك.
والمقصود أن كل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه.
قال أبو العالية: رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا دين إبراهيم.
وكذلك قال قتادة: بدلوا دين الأنبياء واتبعوا المنسوخ.
فأما موسي والمسيح، ومن اتبعهما، فهم على ملة إبراهيم متبعون له، وهو إمامهم.
وهذا معنى قوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [آل عمران: 68].
فهو يتناول الذين اتبعوه قبل مبعث محمد وبعد مبعثه.
وقيل: إنه عام، قال الحسن البصري: كل مؤمـن ولي إبراهيـم مـمن مضي وممن بقي.
وقال الربيع بن أنس:هم المؤمنون الذين صدقـوا نبـي الله واتبعـوه،وكان محمـد والـذين معه من المؤمنين أولي الناس بإبراهيم.
وهذا وغيره مما يبين أن اليهود والنصارى لا يعبدون الله، وليسوا على ملة إبراهيم.
فإن قيل: فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قـول الخليـل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75-77]، فقد استثناه مما يعبدون، فدل على أنهم كانوا يعبدون الله.
وكذلك قوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26-27]، واستثناه أيضًا.
وفي المسند وغيره حديث حُصَين الخُزَاعي لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم .
قيل: هذا قول المشركين، كما تقول اليهود والنصارى: نحن نعبد الله.
فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا.
وأما قول الخليل، ففيه قولان؛ قال طائفة: إنه استثناء منقطع، وقال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يعبدون الله مع آلهتهم.
وعلى هذا، فهذا لفظ مقيد.
فإنـه قال: {مَا تَعْبُدُونَ}.
فسماه عبادة إذا عرف المراد، لكن ليست هي العبادة التي هي عنــد الله عبـادة.
فـإنـه كما قـال تعالى: (أنـا أغني الشركاء عـن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك).
وهـذا كقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
سماه إيمانًا مـع التقييـد، وإلا فالمشرك الذي جعل مع الله إلهًا آخر لا يدخل في مسمي الإيمان عند الإطلاق.
وقد قال: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
فهذا مع التقييد.
ومع الإطلاق.
فالإيمان هو الإيمان بالله، والبشارة بالخير.
وقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3]، نفي العبادة مطلقًا، ليس هو نفي لما قد سمي عبادة مع التقييد.
والمشرك إذا كان يعبد الله ويعبد غيره فيقال: إنه يعبد الله وغيره، أو يعبده مشركًا به.
لا يقال: إنه يعبد مطلقًا.
والمعطل الذي لا يعبد شيئًا شر منه.
والعبادة المطلقة المعتدلة هي المقبولة،وعبادة المشرك ليست مقبولة.
ومما يوضح هـذا قولـه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} الآية [البقرة: 133]، قالوا فيها: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ}، ثم قالوا: {إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، فهذا بدل من الأول في أظهر الوجهين.
فإن النكرة تبدل من المعرفة، كما في قوله: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 15-16]، فذكرت معرفة وموصوفة.
كذلك قالوا: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ} فعرفوه.
ثم قالوا: {إِلَـهًا وَاحِدًا} فوصفوه.
والبدل في حكم تكرير العامل أحيانًا، كما في قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75]، فالتقدير: نعبد إلهك، نعبد إلهًا واحدًا، ونحن له مسلمون.
فجمعوا بين الخبرين بأمرين بأنهم يعبدون إلهه، وأنهم إنما يعبدون إلهًا واحدًا.
فمن عبد إلهين لم يكن عابدًا لإلهه وإله آبائه.
وإنما يعبد إلهه من عبد إلهًا واحدًا.
ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابدًا له، لكانت عبادته نوعين؛ عبادة إشراك، وعبادة إخلاص.
وإذا كان كذلك لم يكن قوله: {إِلَـهًا وَاحِدًا} بدلًا؛ لأن هذا كل من كل، ليس هو بدل بعض من كل.
فَعُلِم أن إلهه وإله آبائه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
والوجه الثاني:قوله:{إِلَـهًا وَاحِدًا} نصب على الحال، لكنها حال لازمة فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
كقوله:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]، وهو لا يكون إلا مصدقًا.
ومنه: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[البقرة: 135]، {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21].
فمن عبد معه غيره، فما عبـده إلهـًا واحـدًا، ومن أشـرك به فما عبده.
وهو لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له، لم تكن له حال أخرى يعبده فيها، فما عبده.
فـإن قيل: المشرك يجعل معه آلهة أخرى، فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد، قيل: هـذا غلط منشؤه أن لفـظ [الإلـه] يراد بـه المستحـق للإلهيـة، ويراد به ما اتخذه الناس إلهًا وإن لم يكن إلهًا في نفس الأمر، بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم.
فتلك ليست في نفسها آلهـة، وإنمـا هـي آلهـة في أنفـس العابـدين.
فإلهيتهـا أمر قـدره المشركون، وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقًا للخارج، كالذي يجعل من ليس بعالم عالمًا، ومن ليس بحي حيـًا، ومـن ليس بصـادق ولا عـدل صـادقًا وعـدلًا فيقال: هذا عندك صادق، وعادل، وعالـم، وتلـك اعتقادات غير مطابقة، وأقوال كاذبة غير لائقة.
ولهذا يجعل سبحانه ذلك من باب الافتراء والكذب كما قال أصحاب الكهف: {هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]، وقال الخليل: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17].
وقال: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: 66]، أي: أي شيء يتبع الذين يشركون؟ وإنما يتبعون الظن والخرص، وهو الحزْرُ.
هذا صواب، وإن ما استفهامية.
وقد قيل: إنها نافية.
وبعضهم لم يذكر غيره، كأبي الفرج.
وهو ضعيف كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع.
وقال هود: {اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود:50].
وإذا كانـت إلهية مـا سوى الله أمـرًا مختلقـًا يوجـد فـي الـذهن واللسان لا وجود له في الأعيان.
هـو مـن بـاب الكـذب والاعتقـاد الباطـل الذي ليس بمطابـق.
ومـا عنـد عابديها من الحب والخوف والرجاء لهـا تابـع لذلك الاعتقـاد الباطـل.
كمـن اعتقـد فـي شخص أنه صادق فصدقه فيما يقـول، وبني على إخباره أعمالًا كثـيرة.
فلما تبين كـذبه، ظهر فساد تلك الأعمـال كأتبـاع مسيلمـة،والأسـود، وغيرهمـا من أصحـاب الزوايا والتُّرهَات، وما يشـرعونـه لأتباعهـم مما لـم يـأذن به الله، بخلاف الصادق والصدق.
ولهذا كانت كلمة التوحيد {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [إبراهيم: 24].
وقال في كلمة الشرك: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 26].
فليس لها أساس ثابت، ولا فرع ثابت؛ إذ كانت باطلة، كأقوال الكاذبين وأعمالهم، بل هي أعظم الكذب والافتراء مع الحب لها.
والشرك أعظم الظلم.
قال ابن مسعود: قلت " فنفس تألههم لها، وعبادتهم إياها، وتعظيمها، وحبها، ودعائها، واعتقادها آلهة، والخبر عنها بأنها آلهة موجود، كما كان اعتقاد الكذابين موجودًا.
وأما نفس اتصافها بالإلهية، فمفقود، كاتصاف مسيلمة بالنبوة.
فهنا حالان: حال للعابد.
وحال للمعبود.
فأما العابدون فكلهم في قلوبهم عبادة وتأله لمن عبدوه.
وأما المعبودون، فالرحمن له الإلهية، وما سواه لا إلهية له، بل هو ميت لا يملك لعابديه ضرًا ولا نفعا. {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، وهو في أصح القولين {سَبِيلًا} بالتقرب بعبادته وذكره.
ولهذا قال بعدها:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] ، فأخبر عن الخلائق كلها أنها تسبح بحمده.
وقد بسط هذا في موضع آخر.
فقوله: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ... إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، إذا قيل: إنه منصوب على الحال، فإما أن يكون حالًا من الفاعل العابد، أو من المفعول المعبود.
فالأول: نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه.
والثاني نعبده في الحال اللازمة له، وهو أنه إله واحد، فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه.
فإن كان التقدير هذا الثاني، امتنع أن يكون المشرك عابدًا له.
فإنه لا يعبده في هذه الحال، وهو سبحانه ليست له حال أخرى نعبده فيها.
وإن كان التقدير الأول، فقد يمكن أن نعبده في حال أخرى نتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا.
لكن قوله: {إِلَـهًا وَاحِدًا} دليل على أنها حال من المعبود، بخلاف ما إذا قيل: نعبده مخلصين له الدين، فإن هذه حال من الفاعل.
ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيرًا، كقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} [الزمر: 14].
فهذا حال من الفاعل فإنه يكون تارة مخلصا، وتارة مشركا.
وأما الرب تعالى فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
والحال وإن كانت صفة للمفعول فهي أيضًا حال للفاعل.
فإنهم قالوا: نعبده في هذه الحال.
فلزم أن عبادتهم له ليست في غير هذا الحال.
وبين أن قوله:{نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ... إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، هي حال متعلقة بالفاعل والمفعول جميعًا بالعابد والمعبود.
فإن العامل فيها المتعلق بها العبادة، وهي فعل العابد، والذي يقال له المفعول في العربية هو المعبود.
كما قيل في الجملة: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] قيل: هي واو العطف.
وقيل: واو الحال.
أى: نعبده في هذه الحال.
قالوا: وهي حال من فاعل [نعبد] أو مفعوله لرجوع الهاء إليه في [له].
وهذا التقدير غلط؛ إذ هي حال منهما جميعًا.
فإنهم إذا عبدوه وهم مسلمون فهم مسلمون حال كونهم عابدين، وحال كونه معبودًا؛ إذ كونهم عابدين وكونه معبودًا ليس مختصًا بمقارنة أحدهما دون الآخر.
فالظرف والحال هنا كلمة وليست مفردًا؛ ولهذا اشتبه عليهم.
فإن المفرد لا يمكن أن يكون في اللفظ صفة لهذا وهذا.
فإذا قلت:ضربت زيدًا قاعدًا، فالقعود حال للفاعل أو المفعول.
وإذا قلت:ضربته والناس قعود، فليس هذه الحال من أحدهما دون الآخر، بل هي مقارنة للضرب المتعلق بها، كأنه قال: ضربته في زمان قعود الناس.
فهو ظرف للفعل المتعلق بالفاعل والمفعول، بخلاف ما إذا قلت: ضربته في حال قعودي أو قعوده، فهذا يختلف.
والآية فيها {إِلَـهًا وَاحِدًا}. فهذه حال من المعبود بلا ريب.
فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلهًا واحدًا، وهذه لازمة له.
وإذا قيل: المراد في حال كونه معبودًا واحدًا لا نتخذ معه معبودًا آخر، فهذه حال ليست لازمة، لكنه صفة للعابدين، لا له. قيل: هذا ليس فيه مدح له، ولا وصف له بأنه يستحق الإلهية.
لكن فيها وصفهم فقط.
وأيضًا فقوله:{إِلَـهًا وَاحِدًا}، كقوله: {وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] فهو في نفسه إله واحد وإن جعل معه المشركون آلهة بالافتراء والحب.
فيجب أن يكون المراد ما دل عليه هذا الاسم.
ولو أرادوا ذلك المعني لقالوا: نعبده مخلصين له الدين.
وهذا المعني قد ذكروه في الجملة الثانية، وهي قولهم: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، لا سيما إذا جعلت حالا، أى: نعبده إلها واحدًا في حال إسلامنا له.
وإسلامهم له يتضمن إخلاص الدين له، وخضوعهم، واستسلامهم لأحكامه، بخلاف غير المسلمين.
ولهذا قال آمرًا للمؤمنين أن يقولوا: {آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
ثم قال: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 138- 139].
وفي هذه الآيات معان جليلة ليس هذا موضع استيفائها.
_______________
<مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)
- التصنيف: