فَصــل في:{لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
منذ 2008-02-16
السؤال: فَصــل في قوله تعالى ـ في قصة فرعون ـ: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ
أَوْ يَخْشَى}
الإجابة:
وأما قوله في قصة فرعون : {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 3- 4]، فلا يناقض هذه الآية؛ لأنه لم يقل في هذه الآية [سيخشى من يذكر]، بل ذَكَرَ أن كل من خشى فإنه يتذكر؛ إما أن يتذكر فيخشى وإن كان غيره يتذكر فلا يخشى، وإما أن تدعوه الخشية إلى التذكر.
فالخشية مستلزمة للتذكر.
فكل خاش متذكر.
كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]، فلا يخشاه إلا عالم.
فكل خاش للّه فهو عالم.
هذا منطوق الآية.
وقال السلف وأكثر العلماء: إنها تدل على أن كل عالم فإنه يخشى اللّه، كما دل غيرها على أن كل من عصى اللّه فهو جاهل.
كما قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍُ} [النساء: 17]، فقالوا لي: [كل من عصى اللّه فهو جاهل].
وكذلك قال مجاهد، والحسن البَصْري، وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم.
وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء، والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء.
فنفي الخشية عمن ليس من العلماء؛ وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل، يخافونه.
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وأثبتها للعلماء.
فكل عالم يخشاه.
فمن لم يخش اللّه فليس من العلماء، بل من الجهال، كما قال عبد اللّه بن مسعود: [كفي بخشية اللّه علمًا، وكفي بالاغترار باللّه جهلًا].
وقال رجل للشَّعبي: [أيها العالم!] فقال: [إنما العالم من يخشى اللّه!].
فكذلك قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى: 10]، يقتضى أن كل من يخشاه فلابد أن يكون ممن تذكر.
وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى، فصار الذي يخشى ضد الأشقى.
فلذلك يقال: (كل من تذكر خشى).
والتحقيق أن التذكر سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية؛ كما أن العلم سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية.
وعلى هذا، فقوله في قصة فرعون: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد:
أحدها: أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن اللّه خالقه، وليس هو إلهًا وربّا كما ذكر، وذكر إحسان اللّه إليه.
فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية اللّه وتوحيده وإنعامه عليه.
فيقتضى الإيمان والشكر، وإن قدر أن اللّه لا يعذبه.
فإن مجرد كون الشيء حقًا ونافعًا يقتضى طلبه وإن لم يخف ضررًا بعدمه.
كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع وإن كان لا عقوبة في تركها كما يحب الإنسان علوما نافعة وإن لم يتضرر بتركها وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالى الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة وإن لم يخف ضررًا بتركها.
فهو إذا تذكر آلاء اللّه وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق اللّه وتوحيده وإحسانه إليه، ويقتضى شكره للّه وتسليم قوم موسى إليه وإن لم يخف عذابًا فهذا قد حصل بمجرد التذكر.
قال: {أَوْ يَخْشَى}.
ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده اللّه به من عذاب الدنيا والآخرة، فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر.
وقد يحصل تذكر بلا خشية، وقد يحصل خشية بلا تذكر، وقد يحصلان جميعا وهو الأغلب قال تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
وأيضًا، فَذِكْر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد.
فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها.
وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌِ} [ق: 36-37].
الفائدة الثانية: أن التذكر سبب الخشية، والخشية حاصلة عن التذكر.
فَذَكَرَ التذكر الذي هو السبب، وذَكَرَ الخشية التي هى النتيجة وإن كان أحدهما مستلزما للآخر كما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وكما قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وقـــال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر.
فالذي يسمع ما جاءت به الرسل سمعًا يعقل به ما قالوه ينجو.
وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه، كما قال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16]، وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع.
وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك: 9].
وكذلك المْعَتبِرين بآثار المعَذَّبين الذين قــال فيهم: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ} [الحــج: 46].
إنمــا ينتفعـــون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرســل والناجــين الذيــن صدقوهــم، فســمعوا قول الرسل وصدقوهم.
الفائدة الثالثة: أن الخشية أيضًا سبب للتذكر كما تقدم. فكل منهما قد يكون سببًا للآخر.
فقد يخاف الإنسان فيتذكر، وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها، ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله.
فإن قيل: مجرد ظن المخوف قد يوجب الخوف، فكيف قال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] ؟ قيل: النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن، وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة.
وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه؛ ولهذا قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].
وقال تعالى في ذم الكفار: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون.
ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة، وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق، فقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقال: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية
وأما قوله في قصة فرعون : {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 3- 4]، فلا يناقض هذه الآية؛ لأنه لم يقل في هذه الآية [سيخشى من يذكر]، بل ذَكَرَ أن كل من خشى فإنه يتذكر؛ إما أن يتذكر فيخشى وإن كان غيره يتذكر فلا يخشى، وإما أن تدعوه الخشية إلى التذكر.
فالخشية مستلزمة للتذكر.
فكل خاش متذكر.
كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]، فلا يخشاه إلا عالم.
فكل خاش للّه فهو عالم.
هذا منطوق الآية.
وقال السلف وأكثر العلماء: إنها تدل على أن كل عالم فإنه يخشى اللّه، كما دل غيرها على أن كل من عصى اللّه فهو جاهل.
كما قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍُ} [النساء: 17]، فقالوا لي: [كل من عصى اللّه فهو جاهل].
وكذلك قال مجاهد، والحسن البَصْري، وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم.
وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء، والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء.
فنفي الخشية عمن ليس من العلماء؛ وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل، يخافونه.
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وأثبتها للعلماء.
فكل عالم يخشاه.
فمن لم يخش اللّه فليس من العلماء، بل من الجهال، كما قال عبد اللّه بن مسعود: [كفي بخشية اللّه علمًا، وكفي بالاغترار باللّه جهلًا].
وقال رجل للشَّعبي: [أيها العالم!] فقال: [إنما العالم من يخشى اللّه!].
فكذلك قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى: 10]، يقتضى أن كل من يخشاه فلابد أن يكون ممن تذكر.
وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى، فصار الذي يخشى ضد الأشقى.
فلذلك يقال: (كل من تذكر خشى).
والتحقيق أن التذكر سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية؛ كما أن العلم سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية.
وعلى هذا، فقوله في قصة فرعون: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد:
أحدها: أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن اللّه خالقه، وليس هو إلهًا وربّا كما ذكر، وذكر إحسان اللّه إليه.
فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية اللّه وتوحيده وإنعامه عليه.
فيقتضى الإيمان والشكر، وإن قدر أن اللّه لا يعذبه.
فإن مجرد كون الشيء حقًا ونافعًا يقتضى طلبه وإن لم يخف ضررًا بعدمه.
كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع وإن كان لا عقوبة في تركها كما يحب الإنسان علوما نافعة وإن لم يتضرر بتركها وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالى الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة وإن لم يخف ضررًا بتركها.
فهو إذا تذكر آلاء اللّه وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق اللّه وتوحيده وإحسانه إليه، ويقتضى شكره للّه وتسليم قوم موسى إليه وإن لم يخف عذابًا فهذا قد حصل بمجرد التذكر.
قال: {أَوْ يَخْشَى}.
ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده اللّه به من عذاب الدنيا والآخرة، فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر.
وقد يحصل تذكر بلا خشية، وقد يحصل خشية بلا تذكر، وقد يحصلان جميعا وهو الأغلب قال تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
وأيضًا، فَذِكْر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد.
فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها.
وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌِ} [ق: 36-37].
الفائدة الثانية: أن التذكر سبب الخشية، والخشية حاصلة عن التذكر.
فَذَكَرَ التذكر الذي هو السبب، وذَكَرَ الخشية التي هى النتيجة وإن كان أحدهما مستلزما للآخر كما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وكما قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وقـــال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر.
فالذي يسمع ما جاءت به الرسل سمعًا يعقل به ما قالوه ينجو.
وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه، كما قال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16]، وقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع.
وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك: 9].
وكذلك المْعَتبِرين بآثار المعَذَّبين الذين قــال فيهم: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ} [الحــج: 46].
إنمــا ينتفعـــون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرســل والناجــين الذيــن صدقوهــم، فســمعوا قول الرسل وصدقوهم.
الفائدة الثالثة: أن الخشية أيضًا سبب للتذكر كما تقدم. فكل منهما قد يكون سببًا للآخر.
فقد يخاف الإنسان فيتذكر، وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها، ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله.
فإن قيل: مجرد ظن المخوف قد يوجب الخوف، فكيف قال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] ؟ قيل: النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن، وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة.
وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه؛ ولهذا قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].
وقال تعالى في ذم الكفار: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون.
ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة، وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق، فقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقال: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية
- التصنيف: