هل يحرم القتال إذا كان مقابل كل شخص أكثر من عشرة؟
لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الثبات في الجهاد ، وتحريم الفرار ؛ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الأنفال:15، 16] ، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأنفال:45] .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « » رواه البخاري (2560) ومسلم (129).
إلا أنه يستثنى من ذلك ثلاثة مواضع :
الأول : أن يكون الفرار تحرُّفا لقتال ، ويأتي بيان التحرّف .
الثاني : أن يكون الفرار تحيزا إلى فئة من المسلمين ، ولو بَعُدَت
.
الثالث : أن يزيد عدد الكفار على ضعف المسلمين ، فيجوز الفرار حينئذ .
وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة ، واستدل
الجمهور بقوله تعالى : { الْآنَ خَفَّفَ
اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال:66] .
فلا يجوز لعشرة أن يفروا من عشرين ، ولا لمائة أن يفروا من مائتين ،
فإن زاد الكفار عن الضعف جاز الفرار .
وهذا تخفيف من الله تعالى ، وهو نسخ لوجوب مصابرة العشرين للمائتين ،
والمائة للألف ، الوارد في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَفْقَهُونَ } [الأنفال:65] .
وقول السائل : إنه لا يجوز أن نشارك في الحرب حينئذ ، غير صحيح .
ففرق بين قولنا : يجوز الفرار ، وقولنا : يجب الفرار أو يحرم القتال .
فلو أن المسلمين ثبتوا مع أضعافهم جاز ذلك ، وهذا ما كان عليه حال
المسلمين في أكثر معاركهم ، لا سيما المعارك العظيمة الفاصلة
كالقادسية واليرموك .
وينبغي التنبه إلى أنه إن هجم العدو على بلاد المسلمين ، وجب الدفع ،
ولو كان الكفار أضعاف المسلمين ، ولا يجوز الفرار حينئذ إلا للتحرف
لقتال أو التحيز إلى فئة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقتال الدفع : مثل أن يكون
العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به ، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف
العدو على من يخلّفون من المسلمين . فههنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن
يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَموا . ونظيرها :
أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتِلة أقل من النصف ، فإن
انصرفوا استولوا على الحريم ، فهذا وأمثاله قتال دفع ، لا قتال طلب ،
لا يجوز الانصراف فيه بحال ، ووقعة أحد من هذا الباب " انتهى من
"الاختيارات الفقهية" ص 258 .
وإليك كلاما نافعا لابن قدامة رحمه الله ، يبين هذه المسألة ،
ويوضح معنى التحرّف والتحيز ، قال رحمه الله : "إذا التقى المسلمون
والكفار وجب الثبات ، وحرم الفرار ، بدليل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا
زحفا فلا تولوهم الأدبار .. } الآية .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا
لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } وذكر
النبي صلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف ، فعده من الكبائر ...
وإنما يجب الثبات بشرطين :
- أحدهما : أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين ، فإن زادوا
عليه جاز الفرار ، لقول الله تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن
منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } . وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر
، فهو أمر ... قال ابن عباس : نزلت : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا
مائتين } فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا
يفر واحد من عشرة ، ثم جاء تخفيف فقال : { الآن خفف الله عنكم } إلى قوله
: { يغلبوا مائتين }
فلما خفف الله عنهم من العدد ، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد .
رواه أبو داود .
وقال ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فما فر
.
- الثاني : أن لا يقصد بفراره التحيّز إلى فئة ، ولا التحرف لقتال ، فإن قصد أحد هذين : فهو مباح له ؛ لأن الله تعالى قال : { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } . ومعنى التحرّف للقتال : أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن ، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما ، أو من نزلة إلى علو ، أو من معطشة إلى موضع ماء ، أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم ، أو تنفرد خيلهم من رجالتهم ، أو ليجد فيهم فرصة ، أو ليستند إلى جبل ، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب ...
- وأما التحيز إلى فئة : فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون
معهم ، فيقوى بهم على عدوهم ، وسواء بعدت المسافة أو قربت . قال
القاضي : لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز ، جاز التحيز إليها ،
ونحوه ذكر الشافعي ، لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: « إني فئة لكم » وكانوا
بمكان بعيد منه. وقال عمر : أنا فئة كل مسلم ، وكان بالمدينة وجيوشه
بمصر والشام والعراق وخراسان . رواهما سعيد .
وقال عمر : رحم الله أبا عبيدة لو كان تحيز إلي لكنت له فئة " .
ثم قال ابن قدامة رحمه الله : "وإذا كان العدو أكثر من ضعف
المسلمين ، فغلب على ظن المسلمين الظفر ، فالأولى لهم الثبات ؛ لما في
ذلك من المصلحة ، وإن انصرفوا جاز ؛ لأنهم لا يأمنون العطب ، والحكم
عُلق على مظنته ، وهو كونهم أقل من نصف عددهم ، ولذلك لزمهم الثبات
إذا كانوا أكثر من النصف وإن غلب على ظنهم الهلاك فيه .
ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر ؛ لما فيه من المصلحة
.
وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة ، والنجاة في الانصراف ، فالأولى
لهم الانصراف ، وإن ثبتوا جاز ، لأن لهم غرضا في الشهادة ، ويجوز أن
يغلبوا أيضا" انتهى من "المغني" (9/254) .
وكلامه الأخير واضح في جواز القتال مع القلّة ، بل ومع غلبة الظن
بحصول الهلاك ، خلافا لما ظنه السائل .
والله أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب
محمد صالح المنجد
أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية. وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.
- التصنيف: