أسباب كثرة البكاء
دائمًا أَشْعُر بِأَنَّني أُرِيدُ البُكاءَ كثيرًا، ولا أَعْلَمُ السَّبَبَ، كَمَا أَنَّنِي لا أُرِيد أن أَفْعَلَ الذُّنُوبَ.
أَمَّا حَالَتِي النَّفسيَّة فَأَشعُرُ أَنَّنِي مُقَصِّرٌ دَائمًا، كما أرِيد أن يَرضَى اللهُ عَنِّي، ولا أشْعُرُ بَالرِّضَا، كَمَا أُرِيد أن أعْرِفَ هل صَلاتِي تُقْبَل أم لا؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فنسأل الله أن يتقبَّل منك ويسدِّد خُطاكَ، ويُلهمنا جميعًا رُشْدَنا، ويُعيذَنا من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، وأن يرضى عنا.
واعلم رحِمك الله: أنَّ هذا البكاءَ قد يكون من شدَّة الخوف من الله عزَّ وجلَّ وهو في تلك الحال أَمارةُ خيْرٍ لا سيَّما إن كان مشفوعًا بعملٍ صالح، فقد وصف اللهُ أهْلَ الإيمان، فقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ} [النجم: 59].
وعن أنس رضي الله عنه قال: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خُطبةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قَطُّ، فقال: ~")" قال: فغطَّى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوهَهُم، ولهم خنين" (متَّفق عليه).
وقال صلَّى الله عليه وسلم: "سبعةٌ يُظِلُّهم اللَّه في ظِلِّه يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه ... -ثم ذكر منهم رجلاً- ذكر الله خاليًا ففاضتْ عيناه" (متَّفق عليه).
وعن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: "أتيتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يُصَلِّي، ولِجوفِه أزيزٌ كأزيزِ المِرجَل من البكاء" (رواهُ أبو داود، والترمذي في الشمائل، وصحَّحه النووي).
وقال صلَّى الله عليْهِ وسلَّم: "مَنْ خاف أَدْلَج، ومَنْ أَدْلَج بلَغَ المنْزِلة، ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنَّة" (رواه التِّرمذيُّ، والحاكِمُ في المستدرك، وصحَّحه الألبانيُّ في السلسلة الصحيحة).
وقد صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قولُه: "عيْنَانِ لا تَمَسُّهما النار، عينٌ بَكَتْ من خشية الله، وعينٌ باتَتْ تَحرسُ في سبيل الله" (رواه الترمذيُّ بسندٍ حسنٍ عن ابن عباس).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يَلِجُ النَّارَ أحدٌ بكى من خشية الله، حتَّى يعود اللَبَن في الضَّرع" (رواه الترمذي وأحمد بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة).
فالخوف، والشعور بالتَّقصير، واتِّهام النَّفس، والرغبة في الكمال: كلها من الأخلاق الطَّيِّبة، الَّتِي تَدُلُّ على صِدْقِ صاحِبِها، ونُبْل مَقصِده إن شاء اللَّهُ تَعالى.
ولقدْ ماتَ هذا الشُّعور عند كثيرٍ منَ الناس -إلاَّ مَنْ رحم الله- حتى ظنُّوا أنهم على خيرٍ عظيم، فعَدَمُ الشعور بأَلَمِ الذنوب الصغيرة –مثلاً- وسيلةٌ كُبرى إلى اقْتِراف ذُنوبٍ كبيرة، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "إيَّاكم ومحقّرات الذُّنوب؛ فإنَّها إذا اجتمعت على العبد أهلكته".
وأيضًا الشعور بالتقصير في العبادات يَجعل صاحِبَها يبتغي الكمال، وإصلاح النفس وهكذا.
وأيضًا؛ فإنَّ الشُّعور بِالتَّقصير منطلَق لكلِّ خير، ودافعٌ إلى الاستغفار والتوبة والخوف من عقاب الله، والشعور بالحاجة له والفقر إليه، والتذلُّل له والمَسْكَنة بين يديه.
وكلُّ هذه عبادات جليلة يُحرَم منها العبد يومَ أن يشعُرَ بأنَّه قد وفَّى الله عزَّ وجلَّ حقَّه، وقام بما له عليه.
والسَّلفُ الصالح رضوان الله عليهم جَمعوا إحسانًا وخوفًا، بِخلاف المنافِق؛ فيجمع إساءةً وأمنًا؛ كما قال الحسن البصريُّ.
وقال عبدالله بن مسعود: "إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه قاعد تَحت جبل يَخاف أن يَقَعَ عليْه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذُبابٍ مرَّ على أنفه" (رواه البُخاريُّ).
ولَمَّا نزل قولُه تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بكى أبو بكر الصديق رضيَ الله عنه وقال: يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ فقال:" أصلحك الله يا أبا بكر، ألستَ تنصَب، ألستَ تحزن، أليستْ تُصيبُك اللأْواءُ –الشِّدَّة وضيقُ العيش-؟" قال: نعم. قال: "فذلك جزاؤه" (رواه أحمد، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الترغيب).
وكان شيْخُ الإسلام ابْنُ تيمية على استقامته، وتبحُّره في علوم الإسلام، وجهادِه في سبيل الله، حتَّى صار عَلمًا على السنَّة وعقيدة السَّلف، وأياديه البيضاء لا يُنْكِرها إلا جاهلٌ أو معاند - يقول: "لا زلتُ حتى اليوم أجدِّد إيماني، ولم أُسلِم بعدُ إسلامًا صحيحًا"!! وكان يقول: "أنا المُكْدي وابن المُكْدي، وكذلك كان أبي وجدِّي".
ولا شكَّ أنَّ العبد مهما عمِل واجتَهَدَ فلن يُكافِئَ نعمةً واحدةً من نعم الله عليه، ولكنَّ فضل الله علينا عظيمٌ ورحْمتَه واسعة.
فالمسلم لا يزال بخيرٍ مادام يشعر بأنه مفرِّط مذنب، شريطة أن يدفعه ذلك الشعور إلى العمل والاستزادة من الصالحات، والإكثار من الاستغفار، وعدم القنوط، فيخشى الله ويرجوه في آنٍ واحدٍ ولعلَّه بعد ذلك يَحظى بالقبول عند الله تعالى.
قال الإمام النَّووي في "رياض الصالحين": "اعلَمْ أنَّ المُختارَ لِلعبد في حال صِحَّتِه أن يكون خائفًا راجيًا، ويكون خوفُه ورجاؤُه سواءً، وفي حال المرض يُمحِّض الرَّجاء، وقواعد الشرع من نصوص الكتاب والسُّنة وغير ذلك متظاهرة على ذلك؛ قال الله تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ} [آل عمران: 106]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: 167]، وقال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ . فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6-9] والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ فيجتمع الخوف والرجاء في آيتَيْنِ مقترنتين أو آيات أو آية.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم قال : "لو يعلم المؤمنُ ما عند الله من العقوبة، ما طمِع بِجنَّته أحد، ولو يعلم الكافرُ ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنَّته أحد" (رواه مسلم) اهـ.
وأمَّا إن كان الشعور بِالخوف سلبيًّا ولا يصحبه عملٌ؛ فهو شعورٌ مَرَضِيٌّ، يجب -والحال كذلك- المجاهدةُ مع طلب العلم النافع، والإكثار من قراءة القرآن بتدبُّر، مع المحافظة على الأذكار والدعاء والتضرع إلى الله تعالى.
أمَّا معرفة قبول الأعمال من صلاة وغيرها؛ فالمكلَّف ليس عليه أكثر من إحسان العمل، وأن يأتِي بالعبادة على أحسن وجه، ويُتِمَّ الشروط والأركان والواجبات، ثُمَّ يَستَغْفِر اللَّه عُقيبَ العبادة، ويسأل الله القبول؛ كما كان يصنع سيِّدُ البَشَر صلَّى الله عليه وسلَّم ثُمَّ تابعَهُ على ذلك صالحو الأمَّة، حشرنا الله معهم، وعاملنا بعفوه، وأدخلنا جميعًا ببرِّه وجودِه ورحمته في عباده الصالحين.
وإن كانت أمارات القَبول لا تَخفى؛ ومنها ظُهور أثر الطاعة على سَمْتِ وخلق العبد، وأن تَهدي الطاعة لطاعةٍ أُخْرَى، وهكذا حتَّى يلقى اللهَ غدًا مُسلمًا،، آمين.
وهذا كله إن كانت حالتك خالية من الأمراض النفسية، أما إن كنت مريضًا، فعليك بمراجعة طبيب نفسي ثقة، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: