الصيام في بلد آخرَ هربًا من مشقة الصوم في بلد الإقامة
يقوم بعضُ الإخوة في أوروبا، خلال شهر رمضانَ، بالسفر إلى دولٍ أخرى؛ لتَجَنُّب مشقة الصيام، وذلك لطول النهار في فصل الصيف في تلك البلاد.
فهم يصومون رمضان في البلد الذي سافروا إليه، علمًا بأنهم يفعلون ذلك هربًا من طول الوقت، فهل يجوز فعلُ ذلك ؟
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فيجب على جميع المسلمين الصوم في البلاد التي يعيشون فيها، وإن طال النهار عليهم، فإن شقَّ عليهم الصوم مشقة غير محتملة، أو لم يُطيقوه، أو خافوا على أنفسهم الهلاك، أفطروا، وقضوا تلك الأيام؛ قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَااسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فإن وجدوا أنهم يستطيعون الصيام المشروع وتخفيف المشقة التي تلحقهم؛ بأن يكون صيامهم في بلد يسافرون إليه يكون النهار فيه أقصر من النهار في بلدهم, فلا بأس بذلك؛ لأنهم قاموا بما أوجب الله عليهم, وليست المشقة مقصودة لذاتها, ومثلهم كمن ينتقل من بلد حرارتها مرتفعة ليصوم في بلاد باردة, فكل هذا مما لا بأس به, وليس فيه تحايل على فعل محرم, أو إسقاط واجب, ولأن حفظ النفس من الضروريات الشرعية التي تقدم عند التعارض، ومن المقررِ عند علماءِ الشريعة، أن التشريعَ الإسلاميَّ، ومنه الصومُ، بني على السماحة والتيسير والرفق بالمكلفين، فلا إعناتَ ولا إرهاقَ، ولا تضييقَ؛ كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقال سبحانه بخصوص الصوم: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتُكم بأمرٍ فأْتوا منه ما استطعتُم" (متفقٌ عليه).
وترخيص الشارع في الفطر للمسافر، ولو كان صحيحًا؛ لما يُلازم السفرَ غالبًا من المشقات والمتاعب، وللمريض؛ لضعف احتماله وحاجته إلى الغذاء والدواء، حتى لا تتفاقمَ علتُه أو يتأخرَ بُرْؤه، ولمن ماثَلَهما فى الضرورة والاحتياج إلى الفطر، كالحاملِ التى تخاف على نفسها أو جنينها المرض، أو الضعف، والمُرضِعِ التى تخشى ذلك على نفسها، أو رضيعها، والطاعنِ فى السن الذى لا يقدر على الصوم، فأباح الإسلام لهؤلاء فطر رمضان، ولكن لم يبح الشرع الاحتيال على الصيام بالسفر لبلد آخر لتقليل ساعات الصوم.
وقد سُئلت اللجنةُ الدائمةُ: أن الدولَ الإسكندنافيةَ، يكون النهار أطولَ من الليل بكثيرٍ على مدار السنة، حيثُ يكون الليلُ ثلاثَ ساعاتٍ فقط، في حينِ يكونُ النهارُ واحدًا وعشرين ساعةً، وذَكَرَ أنه إذا صادف أن قدِم شهرُ رمضانَ في الشتاء، فإن المسلمين فيها يصومون مدةَ ثلاثِ ساعاتٍ فقط، كيف والنهار يكون أطولَ من الليل بكثيرٍ على مدار السنة؟ وأما إذا كان شهر رمضان في فصل الصيف، فإنهم يتركون الصوم؛ لعدم قدرتِهم عليه؛ نظرًا لطول النهار.
وبعد دراسة اللجنة للسؤال، أجابت بما يلي: شريعة الإسلام كاملة وشاملة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [سورة المائدة الآية: 3]، وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ...الآية [الأنعام: 19]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
وقد خاطب الله المؤمنين بفرض الصيام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وبين ابتداء الصيام وانتهاءه فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
ولم يُخصِّصْ هذا الحكم ببلد، ولا بنوع من الناس، بل شَرَعَه شرعًا عامًّا، وهؤلاء المسؤول عنهم، داخلون في هذا العموم، والله جلَّ وعلا لطيف بعباده، شَرَعَ لهم من طُرُق اليُسر والسُّهولة، ما يساعدُهم على فعل ما وجب عليهم، فشرع للمسافر والمريض مثلًا الفطرَ في رمضانَ؛ لدفع المشقة عنهما، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ... الآية [البقرة: 185].
فمن شَهِدَ رمضان من المكلفين، وَجَبَ عليه أن يصومَ، سواءٌ طال النهارُ أو قَصُر، فإن عجز عن إتمام صيام يوم، وخاف على نفسه الموتَ، أو المرضَ، جاز له أن يُفطِر بما يسُدُّ رمَقَه، ويدفعُ عنه الضرر، ثم يُمسِكُ بقيةَ يومِه، وعليه قضاءُ ما أفطره في أيامٍ أُخَرَ يتمكنُ فيها من الصيام". انتهى, والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: