حكم الهدية التي تقدمها الشركات لموظفي جهات أخرى
ذهبنا إلى إحدى الدول الأوربيَّة لزيارة، وذلك بتكليفٍ من العمل؛ لزيارة إحدى الشَّركات المتقدِّمة بعرْضِها لتنفيذ أحد المشاريع، وقد قامت الشَّركة بإنزالنا في أحد الفنادق، وبعد انتِهاء الزِّيارة قام مدير الشَّركة بتوزيع ظرفٍ مُغلقٍ لكلِّ شخصٍ منَّا؛ على أساس تغطية مصاريفِ الأكل، بدون طلب من أي شخص، وعند عودتِنا إلى الفندق وجدْنا مبلغًا في كل ظرف يُعادل 2500 يورو، علمًا بأنَّ هذه الشَّركة تُعتَبَر من أفضَلِ الشَّركات التي قُمْنا بِزيارتِها؛ من حيثُ تطبيقُها للأسس العلميَّة لتنفيذ هذا المشروع إذا ما أرسي عليْها العرض، نأمُل توضيحَ حُكْم هذا المبلغ، علمًا بأنَّ الأعضاء من الأشخاص الموثوق فيهم، أحسبهم كذلك.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فالظَّاهر من كلام السائل الكريم: أنَّ الذي أعطاهُم المالَ هو مديرُ الشَّركة الأوربيَّة، فإن كان كذلك، فلا يحلُّ لهم أخذُ ذلك المالِ، حتَّى وإن كان إعطاءُ المال بدون طلبٍ منكم؛ فإنَّ هدايا العمَّال غلول -أي: خيانة- كما صحَّ في المُسْند وغيرِه، من حديث أبي حُميدٍ الساَّعدي، وفي الصَّحيحَيْن عنه قال: استعمل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم رجلاً من بني أسدٍ يُقالُ له ابن اللُّتْبية على صدقة، فلمَّا قدِم قال: هذا لكم وهذا أُهْدِي لي، فقام النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على المنبر - قال سفيان أيضًا: فصعِد المنبر - فحمِد الله وأثْنى عليْه، ثُمَّ قال: "ما بالُ العامل نبعَثُه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلاَّ جلس في بيتِ أبيهِ وأُمِّه، فينظُر: أيُهْدى أم لا؟! والَّذي نفسي بيده، لا يأتي بشيءٍ إلا جاء به يومَ القِيامة يَحملُه على رقبتِه، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرةً لها خُوار، أو شاةً تَيْعر"، ثمَّ رفع يديْه حتَّى رأيْنا عُفْرتَي إبْطيْه: "ألا هل بلَّغت؟" ثلاثًا.
ولأنَّ تِلك النُّقود ستوجِب المودَّة، التي يُخشى معها مُحاباة تلك الجهة، فحسَمَ الشَّرع مادَّة الشَّرِّ من أصلِها؛ ولذلك وجب أن ترفُض الهديَّة وتقول: لا أقبل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما أخذه العمَّال وغيرُهم من مال المسلمين بغير حقٍّ، فلوليّ الأمر العادل استخراجُه منهم؛ كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل؛ قال أبو سعيد الخُدْري رضي الله عنه: "هدايا العمَّال غلول"، وروى إبراهيم الحربي - في كتاب الهدايا - عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "هدايا الأُمراء غُلول"، ثم ذكر حديث الصحيحين".
وقال الشَّيخ ابن عثيمين في فتاواه: "هدايا العمَّال من الغلول، يعني: إذا كان الإنسان في وظيفةٍ حكوميَّة، وأهدى إليْه أحدٌ مِمَّن له صلة بِهذه المُعاملة، فإنَّه من الغُلول، ولا يحلُّ له أن يأخذ من هذا شيئًا، ولو بطيب نفسٍ منه.
مثال ذلك: لنفْرِضْ أنَّ لك معاملةً في دائرة ما، وأهدَيْتَ لمدير هذه الدائرة، أو لموظَّفيها هديةً، فإنَّه يحرم عليهم قبولُها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعث عبدالله بن اللُّتْبِيَّة على الصدقة، فلمَّا رجع قال: هذا أُهْدِيَ إليَّ وهذا لكم، فقام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم فخطَب النَّاس، وقال: "ما بالُ الرَّجُل منكم نستعمِلُه على العمل، فيأتي ويقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ، فهلا جلس في بيت أبيه وأمِّه، فينظر: أيُهدى له أم لا؟!".
فلا يحلُّ لأحدٍ موظَّف في دائرةٍ من دوائِر الحكومة أن يقبل الهديَّة، في معاملة تتعلَّق بهذه الدائرة، ولأنَّنا لو فتحْنا هذا الباب وقلنا: يَجوز للموظَّف قبول هذه الهديَّة، لكُنَّا قد فتحنا بابَ الرِّشوة التي يرشي بها صاحبُ الحقِّ مَن يلزمه الحق، والرِّشوة خطيرةٌ جدًّا، وهي من كبائر الذُّنوب، فالواجب على الموظَّفين -إذا أُهْدِي لهم هديَّة فيما يتعلَّق بعملهم - أن يردُّوا هذه الهديَّة، ولا يَحلُّ لهم أن يقبلوها، سواءٌ جاءتْهم باسم هديَّة، أو باسم الصَّدقة، أو باسم الزَّكاة، ولا سيَّما إذا كانوا أغْنياء؛ فإنَّ الزَّكاة لا تحلُّ لهم كما هو معلوم،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: