حصرُ الإرث ليس وسيلةً لإثبات الملكية

منذ 2013-05-29
السؤال:

توفي جدي في أوائل الثلاثينيات من القرن الميلادي الماضي، وتم تقسيم ميراثه بين ورثته، وتصرف كلُّ وراثٍ بحصته منذ ذلك الحين دونما اعتراض من أحدٍ، وبعد مضي هذه المدة الطويلة، أراد بعض أبناء الورثة بيع بعض حصصهم، فاعترض بعض أبناء الورثة الآخرين ومنعوا إتمام البيع لأن أسماء آبائهم وردت في حجة حصر إرث الجد، فهل ورود أسمائهم في الحجة المذكورة يعطيهم حق الملكية في أراضي الجد، وبالتالي يحق لهم الاعتراض على البيع ومنع تمام إجرائه؟

الإجابة:

حصرُ الإرث هو وثيقةٌ تصدرها المحاكمُ الشرعية لبيان الورثة وبيان حصة كلٍ منهم. وحصرُ الإرث بذاته لا يعتبر إثباتاً للتملك، ففرقٌ بين كون الشخص وارثاً وبين كونه مالكاً، وما دام أن أراضي المتوفى قد قُسمت بين الورثة وتصرف كلٌّ منهم في حصته، فلا يملك أحدٌ نقض تلك القسمة أو المطالبة بحصة فيما تمًّ تقسيمه.

وقد عرَّفت مجلةُ الأحكام العدلية القسمةَ في المادة (1114): القسمةُ هي تعيين الحصة الشائعة, يعني إفراز وتمييز الحصص بعضها عن بعض بمقياس ما كالكيل والوزن والذراع.

وقد اتفق الفقهاء على أن القسمة بعد تمامها عقدٌ لازمٌ. قال ابن رشد الحفيد: "والقسمةُ من العقود اللازمة لا يجوز للمتقاسمين نقضُها ولا الرجوعُ فيها إلا بالطوارئ عليها" (بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/218).

وقال الدكتور وهبة الزحيلي: "القسمة من العقود اللازمة باتفاق الفقهاء، لا يجوز نقضُها، ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ، ولكن لبعض المذاهب تفصيلٌ في مبدأ اللزوم: قال الحنفية: تلزم قسمة التراضي وقسمة التقاضي بعد تمامها، فلا يجوز الرجوع عنها إذا تمت.أما قبل التمام، فكذلك تلزم قسمة التقاضي، فلو قسم القاضي المال المشترك بين قوم، فخرجت السهام كلها بالقرعة، لا يجوز لهم الرجوع، وكذا لا رجوع إذا لم تتم القسمة، كأن خرج بعض السهام دون بعض.

وأما قسمة التراضي: فيجوز للشركاء الرجوع عنها قبل تمامها؛ لأن قسمة التراضي لا تتم إلا بعد خروج السهام كلها، كما هو الشأن في كل عقدٍ كالبيع مثلاً، يجوز الرجوع عنه قبل تمامه. إلا أنه إذا خرج جميع السهام إلا واحداً، لم يجز الرجوع في قسمة التراضي، لصيرورة السهم متعيناً لمن بقي من الشركاء أو لتعيين نصيب ذلك الواحد. وأطلق المالكية القول باللزوم فقالوا: ولزم ما خرج بالقسمة، فليس لأحدهم نقضها،وكذا يلزم الشريك في قسمة التراضي، فمن أراد الفسخ لم يكن منه. وقال الشافعية: تلزم قسمة الإجبار من غير تراضٍ، ومن المعلوم أن قسمة الإفراز والتعديل فيهما الإجبار، وأما قسمة التراضي قسمة رد دون غيرها، فالأرجح عندهم أنه لا بد من الرضا بها بعد خروج القرعة، ولا يلزم حكم القاسم إلا برضا الشركاء؛ لأنه لما اعتبر الرضا بالقسمة ابتداءً، اعتبر بعد خروج القرعة. والحنابلة قالوا: تلزم عندهم قسمة الإجبار، فهم كالشافعية، وفي قسمة التراضي عندهم وجهان كالشافعية، لكن الأرجح عندهم أنه إذا خرجت القرعة لزمت القسمة؛ لأن القاسم كالحاكم، وقرعته كالحاكم ،لأنه مجتهدٌ في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق، فوجب أن تلزم قرعته". (الفقه الإسلامي وأدلته 5/683-684).

وقد قررت المادة (1157) من المجلة لزوم القسمة وعدم الرجوع عنها حيث ورد فيها: لا يسوغ الرجوع عن القسمة بعد تمامها.

وجاء في شرح المادة السابقة: أي بعد تمامها على الوجه الآنف الذكر، أي ليس للمقسوم له أن يرجع عن القسمة، كما أنه ليس لورثته بعد وفاته الرجوع عنها (علي أفندي). لا يجوز الرجوع عن القسمة الصحيحة والتامة التي جرت على الوجه السالف الذكر. (درر الحكام3/161).

وورد في القانون المدني الأردني المادة (1048): لا يسوغ الرجوع عن القسمة بعد تمامها إلا أنه يجوز لجميع الشركاء فسخ القسمة وإقالتها برضائهم وإعادة المقسوم مشتركاً بينهم كما كان.

ومما قرره الفقهاء يتضح أن القسمة إذا وقعت صحيحةً، فإنه يترتب عليها استقلالُ كل واحدٍ من الشركاء بعد القسمة بملك نصيبه، والتصرف فيه كأي مالكٍ فيما يملك، لأن هذا هو ثمرة القسمة ومقصودها (الموسوعة الفقهية الكويتية 33/247) وانظر (مجلة الأحكام العدلية المادة 1162).

وينبغي أن يُعلم أن القوانين المطبقة في فلسطين تُلزم أن تكون القسمةُ المتعلقةُ بالأراضي مسجلةً لدى دوائر تسجيل الأراضي (الطابو) حتى تكون القسمةُ نافذةً وتترتب عليها آثارها، ولكن هذا الإلزام خاصٌ بالأراضي التي خضعت للتسوية -أي تمَّ تسجيلُها لدى دوائر تسجيل الأراضي (الطابو) أثناء العهد الأردني في الضفة الغربية قبل عام 1967م وهنالك أراضٍ لم تنته أعمال التسوية فيها في العهد الأردني بسبب الاحتلال الإسرائيلي عام 1967م- وأما الأراضي التي لم تتم التسوية فيها فلا يشترط تسجيل القسمة لنفاذها.

وبناءً على ذلك فإن قسمة الأراضي التي لم تتم تسويتها تكون صحيحةً وإن لم تسجل لدى دوائر تسجيل الأراضي (الطابو)، وما نتج عن هذه القسمة من التصرف فيها مدةً طويلةَ الأمد تترتب عليه آثاره شرعاً، فيصح البيع والهبة والوقف ونحوها.

وكذلك فإن تصرف المالك في ملكه مدةً طويلةً دونما اعتراض من أحدٍ، يمنع رفع قضية أمام القضاء للمطالبة بحق ما، حيث إن الفقهاء قد بيّنوا أن حق التقادم يكون سبباً في منع الاستماع للدعوى بعد مضيّ مدةٍ معينةٍ كست وثلاثين سنة أو ثلاثين سنة أو خمس عشرة سنة أو غير ذلك، لأن إهمال صاحب الحق لحقه هذه السنوات الطويلة بلا عذرٍ، مع تمكنه من التقاضي يدل على عدم الحق غالباً. وهذا ما عليه العمل في القوانين المطبقة في بلادنا.

وأخيراً لا بد من التنبيه إلى أنه في ظل ارتفاع أسعار الأراضي في بلادنا قام أناسٌ ومن باب الجشع والطمع، بالمطالبة بأراضٍ ليست لهم، واستعملوا وسائل غير شرعية للوصول إلى ذلك، وعلى هؤلاء أن يدركوا حرمة أعمالهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أشدَّ التحذير من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حقٍ، فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم قيدَ شبرِ من الأرض طُوقه من سبع أرضين" (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه طُوقه من سبع أرضين" (رواه أحمد بإسنادين أحدهما صحيح، ورواه مسلم إلا أنه قال: "لا يأخذ أحدٌ شبراً من الأرض بغير حقه إلا طُوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة").

وقوله: (طُوقه من سبع أرضين) قيل: أراد طوق التكليف لا طوق التقليد، وهو أن يطوق حملها يوم القيامة، وقيل: إنه أراد أنه يخسف به الأرض فتصير البقعة المغصوبة في عنقه كالطوق.

وجاء في الحديث عن سالم عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين" (رواه البخاري).

وعن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما رجلٍ ظلم شبراً من الأرض كلَّفه اللهُ عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يُطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس" (رواه أحمد والطبراني وابن حبان)، وفي رواية لأحمد والطبراني عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ أرضاً بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر" (وقال العلامة الألباني: صحيح).

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم الغلول عند الله عز وجل ذراعٌ من الأرض،تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً، إذا اقتطعه طُوقه من سبع أرضين" (رواه أحمد بإسناد حسن والطبراني في الكبير. وقال العلامة الألباني: حسن صحيح).

وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غصب أرضاً ظلماً لقي الله وهو عليه غضبان" (رواه الطبراني، وقال العلامة الألباني :صحيح. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/379-381).

وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن أروى بنت أويس خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وإياها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ شبراً من الأرض بغير حقٍ طُوقه في سبع أرضين يوم القيامة، اللهم إن كانت كاذبةً فاعم بصرها واجعل قبرها في دارها. قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوةُ سعيد بن زيد. فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها" (رواه البخاري ومسلم) وغير ذلك من النصوص.

وخلاصة الأمر أن حصر الإرث ما هو إلا وثيقةٌ تصدرها المحاكمُ الشرعية لبيان الورثة وبيان حصة كل منهم.

وحصرُ الإرث بذاته لا يعتبر إثباتاً للتملك، وأن أراضي الشخص المتوفي إذا قُسمت بين الورثة وتصرف كلٌّ منهم في حصته، فلا يملك أحدٌ نقضَ القسمة أو المطالبة بحصةٍ فيما تمًّ تقسيمه، لأن القسمة من العقود اللازمة باتفاق الفقهاء، ولا يجوز نقضُها، ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ التي بينها الفقهاء.

وأن القوانين المطبقة في فلسطين تُلزم أن تكون القسمةُ المتعلقةُ بالأراضي مسجلةً لدى دوائر تسجيل الأراضي (الطابو) حتى تكون القسمةُ نافذةً وتترتب عليها آثارها، ولكن هذا الإلزام خاصٌ بالأراضي التي خضعت للتسوية، وأما الأراضي التي لم تتم التسوية فيها فلا يشترط تسجيل القسمة لنفاذها. وعليه فإن قسمة الأراضي التي لم تتم تسويتها تكون صحيحةً، وإن لم تسجل لدى دوائر تسجيل الأراضي، وما نتج عن هذه القسمة من التصرف فيها مدةً طويلةَ الأمد تترتب عليه آثاره شرعاً، فيصح البيع والهبة والوقف ونحوها.

وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل وأن يحذروا من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حقٍ فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أشد التحذير.

تاريخ الفتوى: 8-2-2013.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 3
  • 1
  • 94,256

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً