استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب

منذ 2014-03-30
السؤال:

ذكرت بعض كتب التفسير أن قَوْل الله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} قد نزلت في قصة عم النبي أبو طالب مع أن الآية في سورة التوبة وهي متأخرة النزول أفيدونا؟

 

الإجابة:

 الجواب: روى الإمام البخاري بإسناده عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه «أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [سورة التوبة الآية 113]. ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [سورة القصص الآية 56]» .

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أما نزول هذه الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول التي قبلها ففيه نظر, ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة, وهي عامة في حقه وفي حق غيره، ويوضح ذلك ما سيأتي في التفسير بلفظ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} فأنزل الله بعد ذلك الآية . وأنزل في أبي طالب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. ولأحمد من طريق أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة أبي طالب قال: فأنزل الله {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وهذا كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام] فتح الباري 7/245.

 وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً: [قوله: فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي ما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي ... وروى الطبري من طريق شبل عن عمرو بن دينار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال استغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه، فنزلت» وهذا فيه إشكال، لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية والأصل عدم تكرر النزول. وقد أخرج الحاكم وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود قال: «خرج رسول الله  يوماً إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم بكى، فبكينا لبكائه، فقال:  إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل عليَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} » وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه وفيه (نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب) ولم يذكر نزول الآية. وفي رواية الطبري من هذا الوجه (لما قدم مكة أتى رسم قبر ) ، ومن طريق فضيل بن مرزوق عن عطية (لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت) وللطبراني من طريق عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث ابن مسعود وفيه (لما هبط من ثنية عسفان) وفيه نزول الآية في ذلك. فهذه طرق يعضد بعضها بعضاً، وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب، ويؤيده أيضاً أنه  قال يوم أحد بعد أن شج وجهه: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصاً بالأحياء وليس البحث فيه، ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم، ويكون لنزولها سببان:  متقدم وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر آمنة. ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره  للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب، ويشير إلى ذلك أيضاً قوله في حديث الباب: (وأنزل الله في أبي طالب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره والثانية نزلت فيه وحده، ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد من طريق أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي قال: (سمعت رجلاً يستغفر لوالديه وهما مشركان، فذكرت ذلك للنبي  فأنزل الله: ما كان للنبي الآية) وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: وقال المؤمنون ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم لأبيه؟ فنزلت...] فتح الباري 8/644-645.

[ومما يؤكد تأخر نزول قولـه تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} عن قصة أبي طالب:

1. قولـه في الآية:   {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وهذا يدل على أن الاستغفار وقع من النبي، ومن بعض المؤمنين، وقصة أبي طالب لم يكن الاستغفار فيها إلا من قبل النبي.

2. أن هذه الآية وردت في سورة التوبة، وسورة التوبة مدنية، ومن أواخر ما نزل.

3. أن الله تعالى لم يُعاتب النبي في صلاته على عبد الله بن أبي، وإنما أنزل النهي فقط، ولو كان قد سبق النهي عن الاستغفار لمن مات على الكفر؛ لعاتب الله تعالى نبيه على ذلك] ملتقى أهل التفسير عن شبكة الإنترنت.

ومن أهل العلم من يرى أن نزول الآية لم يكن في قصة أبي طالب حيث إنها في سورة براءة كما قرره الحافظ ابن حجر العسقلاني وهي من أواخر ما نزل من القرآن.

قال الألوسي: [واستبعد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة. قال الواحدي: وهذا الاستبعاد مستبعد فأي بأس أن يقال: كان  يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة، وذكر نحواً من هذا صاحب التقريب، وعليه لا يراد بقوله: فنزلت في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو توجيه وجيه، خلا أنه يعكر عليه ما أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن علي قال:  أخبرت رسول الله  بموت أبي طالب فبكى فقال: (اذهب فغسِّله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه) ففعلت وجعل رسول الله  يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل  بهذه الآية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} ...الخ فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت فيه مغياً به، اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض له، والأولى في الجواب عن أصل الاستبعاد أن يقال:  إن كون هذه السورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي نزول شيء منها في المدينة. والآية على هذا دليل على أن أبا طالب مات كافراً وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة] تفسير روح المعاني 6/32.

ومن أهل العلم من قال بتعدد سبب نزول الآية كالسيوطي حيث قال: [الحال السادس: أن لا يمكن ذلك فيحمل على تعدد النزول وتكرره.

مثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال:  لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية فقال: (أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله:  يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية. وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت:  تستغفر لأبويك وهما مشركان فقال:  استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال:  خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقابر فجلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم بكى فقال:  إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي فأنزل علي: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} فجمع بين هذه الأحاديث بتعدد النزول] الإتقان في علوم القرآن 1/ 132-133.

إذا تقرر هذا فنعود إلى ما تدل عليه الآية الكريمة وهو تحريم الاستغفار والترحم على من مات كافراً من المغضوب عليهم ومن الضالين المضلين الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة البقرة الآية 161]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [سورة آل عمران الآية 91]. وهذا محل اتفاق بين أهل العلم ولا يغترنَّ أحدٌ بما يقوله بعض الشيوخ الذين انزلقوا في هذا المنزلق الخطير فخالفوا الأدلة الصريحة من الكتاب والسنة، قَال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} قال القرطبي: [هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز] تفسير القرطبي8/273.

وقال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة التوبة الآية 84].

وثبت في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده؛ لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (رواهُ مسلم).

قال الإمام النووي: [وقوله (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى. والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 1/342.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم -ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً- فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخليل إبراهيم وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى عنه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}. وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداءً بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/145-146.

وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}: [هذا نفي بمعنى النهي، فهو أبلغ من النهي المجرد، وهذا التعبير فيه يسمى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الشيء نفسه، لأنه نفي معلل بالسبب المقتضي له. والمعنى: ما كان من شأن النبي ولا مما يصح أن يصدر عنه من حيث هو نبي -ولا من شأن المؤمنين ولا مما يجوز أن يقع منهم من حيث هم مؤمنون- أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} لهم في الأصل حق البر وصلة الرحم وكانت عاطفة القرابة تقتضي الغيرة عليهم وحب المغفرة لهم (ولو) هذه تفيد الغاية لمعطوف عليه يحذف حذفاً مطرداً للعلم به، والمراد أنه ليس مما تبيحه النبوة ولا الإيمان ولا مما يصح وقوعه من أهلهما: الاستغفار للمشركين في حال من الأحوال، حتى لو كانوا أولي قربى، فإن لم يكونوا كذلك فعدم جوازه أولى. ثم قيد الحكم بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أهل النار الخالدين فيها بأن ماتوا على شركهم وكفرهم ولو بحسب الظاهر كاستصحاب حالة الكفر إلى الموت] ثم قال: [والآية نص في تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة وكذا وصفه بذلك كقولهم المغفور له المرحوم فلان، كما يفعله بعض المسلمين الجغرافيين الآن، لعدم تحققهم بمقتضى الإيمان، وتقيدهم بأحكام الإسلام، ومنهم بعض المعممين والحاملين لدرجة العالمية من الأزهر] تفسير المنار 11/56-57.

وقال الشيخ محمد صالح العثيمين: [فيا عباد الله إن الله تعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ} وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} وقال الله تعالى: ِ {إنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} والآيات في هذا معلومة فعلينا أن نتخذ الخطوات الآتية: إن الكافرين سواء كانوا من اليهود أو من النصارى أو من الوثنيين أو من الشيوعيين أو من أي صنف من أصناف الكفار هم أعداؤُنا إنهم كانوا لنا عدواً مبينا هكذا قال الله عز وجل الذي هو العالم بالخفيات وبما في القلوب كانوا أعداء عداوة بينة ظاهرة ولكنهم قد ينافقون أحياناً من أجل حظوظ أنفسهم فقط لا من أجل فائدة المسلمين.

ثانياً: أن نعلم أن الكفار مهما كانوا فإن ما يقدموا من خير لن ينفعهم عند الله تعالى لقول الله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} هذا إذا تيقن أن فيه خيراً للإسلام والمسلمين فأما إذا كان فيه احتمال إن هذا الخير من أجل إبراز الدعوة النصرانية لمبرز ظاهر إنساني فان ذلك لا يكون فيه خير للمسلمين بل هو ضد المسلمين في الواقع.

ثالثاً: أن نعلم أنه لا يجوز لنا أن نترحم أو نستغفر لأحد من الكافرين المشركين أو اليهود أو النصارى لأن ذلك خلاف هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلاف هدي الذين آمنوا قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} هكذا نفى الله تعالى هذا الأمر نفياً قاطعاً لأن ما كان كذا يعني أنه ممتنع شرعاً فلا يجوز لأحد من المؤمنين أن يدعو لكافر بالمغفرة أو بالرحمة لأن هذا خلاف منهج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومنهج الذين آمنوا ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب حينما دعاه للإسلام ولكن آخر ما قال إنه على ملة عبد المطلب ولم يقل لا إله إلا الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك فنهاه الله تعالى أن يستغفر لعمه أبي طالب مع أن عمه أبا طالب نصره نصراً مؤزراً ودافع عنه وكان يقول فيه القصائد العصماء ومع ذلك نهاه الله عز وجل أن يستغفر له وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} مع أن أبا طالب كان قد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم وأفاد الرسالة النبوية وأفاد المسلمين ولكن ذلك لم ينفعه قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وإذا كان هذا في عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي دافع عنه وناصره فكيف في من لم يكن هذه حاله ولقد ثبت عن النبي  في صحيح مسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة- يعني أمة الدعوة- يهودياً أو نصرانياً ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار» هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن المعلوم أن اليهود والنصارى كثير منهم قد سمع بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا ماتوا ولم يؤمنوا به فهم من أصحاب النار وإذا كانوا من أصحاب النار فإنه لا يجوز لنا أن ندعو الله لهم بالرحمة والمغفرة لأن هذا ضد حكم الله تبارك وتعالى فالله حكم بأنهم في النار فكيف نسأل الله أن يجعلهم في رحمته ومغفرته؟ هذا من المضادة لحكم الله تبارك وتعالى ولكننا مع ذلك لا نشهد لأحد بعينه من الكفار أنه في النار ولكننا نقول كل كافر من يهودي أو نصراني أو مشرك أو ملحد فإنه من أصحاب النار لكن الشهادة بالعين أمرها عظيم فلا يشهد لأحد بعينه بجنة ولا نار إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن من مات على الكفر فإننا نجري عليه أحكام الكافرين فلا نستغفر له و لا نسأل الله له الرحمة.

أيها الإخوة إن هذا الأمر يخفى على كثير من الناس يظنون أن الدعاء بالمغفرة والرحمة لمن يظن أنه أحسن إلى الإنسانية يظنون أنه لا بأس به ولكن كما سمعتم آيات الله عز وجل في النهي عن الاستغفار والاسترحام للمشركين فمن كان قد استغفر لأحد من اليهود أو النصارى أو المشركين فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل وعليه أن لا يعود إلى ذلك ليحقق إيمانه وليكن على جادة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به...] عن موقع الشيخ على شبكة الإنترنت.

وخلاصة الأمر أن من أهل العلم من يرى أن الآية نزلت في قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنافي بين كونه قد مات قبل الهجرة وكون الآية في سورة التوبة وهي من أواخر ما نزل وقد نصت الآية على حرمة الاستغفار لمن مات كافراً.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 16
  • 7
  • 300,066

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً