جواز الرهن قبل ثبوت الحق

منذ 2014-05-24
السؤال:

في معاملات البنوك الإسلامية كالمرابحة، يطلبُ البنكُ الإسلامي ضماناتٍ لحقوقه، ومنها رهنُ عقاراتٍ وأراضٍ، فهل يجوز شرعاً أن يتقدم الرهنُ على ثبوت الحق؟ 

الإجابة:

أولاً: الرهن هو: جعل عينٍ ماليةٍ أو ما في حكمها وثيقةً بدينٍ يُستوفى منها أو من ثمنها إذا تعذَّر الوفاء. المعيار الشرعي رقم (٣٩) ”الرهن وتطبيقاته المعاصرة” وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية 23/175. 

وعقد الرهن مشروعٌ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [سورة البقرة الآية283]،
وثبت في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: «رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعاً عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيراً لأهله» (رواه البخاري)، وعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهوديٍ إلى أجلٍ ورهنه درعاً من حديد» (رواه البخاري ومسلم)،
وفي رواية أخرى في الصحيحين: «توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعهُ مرهونةٌ عند يهوديٍ بثلاثين صاعاً من شعير».
والرهنُ جائزٌ في السفر والحضر عند جمهور الفقهاء، والتنصيص على السفر في الآية الكريمة: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} نظراً لقلة الكاتب في السفر، قال الشيخ السعدي: [ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضراً وسفراً، وإنما نصَّ اللهُ على السفر، لأنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه] تفسير السعدي1/119.

ثانياً: قال الفقهاء للرهن أحوالٌ ثلاثةٌ: أن يكون مع العقد المنشئ للدَّين، أو بعد العقد المنشئ للدَّين، أو قبل العقد المنشئ للدَّين، وقد اتفق العلماء على جواز الرهن في الحالتين الأوليين، واختلفوا في جواز الثالثة،
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا يخلو الرهن من ثلاثة أحوال أحدها: أن يقع بعد الحق، فيصح بالإجماع، لأنه دينٌ ثابتٌ تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجاز أخذها به كالضمان، ولأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجلعه بدلاً عن الكتابة، فيكون في محلها، ومحلُّها بعد وجوب الحق، وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فجعله جزاءً للمداينة مذكوراً بعدها بفاء التعقيب. الحال الثاني: أن يقع الرهنُ مع العقد الموجب للدَّين، فيقول بعتك ثوبي هذا بعشرةٍ إلى شهرٍ ترهنني بها عبدك سعداً، فيقول قبلت ذلك، فيصح أيضاً، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، لأن الحاجة داعيةٌ إلى ثبوته، فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق ويشترطه فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده، وكانت الخِيَرةُ إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله، فتفوت الوثيقةُ بالحق. الحال الثالث: أن يرهنه قبل الحق، فيقول رهنتك عبدي هذا بعشرةٍ تقرضنيها، فلا يصح في ظاهر المذهب – الحنبلي- وهو اختيار أبي بكرٍ والقاضي، وذكر القاضي أن أحمد نصَّ عليه في رواية ابن منصور، وهو مذهب الشافعي. واختار أبو الخطاب أنه يصح، فمتى قال رهنتك ثوبي هذا بعشرةٍ تقرضنيها غداً وسلَّمه إليه، ثم أقرضه الدراهم لزم الرهن، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لأنه وثيقةٌ بحقٍ فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان أو فجاز انعقادها على شيءٍ يحدث في المستقبل كضمان الدرك. ولنا أنه وثيقة لا يلزم قبله، فلم تصح قبله كالشهادة، ولأن الرهن تابعٌ للحق، فلا يسبقه كالشهادة، والثمن لا يتقدم البيع، وأما الضمان فيحتمل أن يمنع صحته، وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الضمان التزام مال تبرعاً بالقول، فجاز من غير حقٍ ثابت كالنذر بخلاف الرهن]المغني 4/498.
والقول بجواز الرهن قبل ثبوت الحق هو القول الراجح، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة في قولٍ عندهم،
قال د. وهبة الزحيلي: [الرهن بالدَّين الموعود به أو بما سيقرضه المرتهن للراهن: مقتضى هذا الشرط - كون المرهون به حقاً واجب التسليم إلى صاحبه - ألا يصح الرهن بالدَّين الموعود به، أو بما سيقرضه المرتهن للراهن؛لأن الدَّين لا وجود له عند عقد الرهن، حتى يكون واجب التسليم. ولكن الحنفية والمالكية: أجازوا الرهن بالدَّين الموعود به الذي سيقرض في المستقبل، استحساناً لحاجة الناس إليه، أما إذا ارتهن المرتهن بما يثبت له على الراهن في المستقبل بدون وعدٍ فلا يجوز، ولا يصح الرهن عند الشافعية، والحنابلة في ظاهر المذهب بما سيقرضه، أي بدينٍ مستقبلٍ؛لأنه ليس بحقٍ ثابتٍ في الذمة عند عقد الرهن، وقد شرع الرهن عند ثبوت الدَّين، لا عند الوعد به] الفقه الإسلامي وأدلته 5/197.
وقال العلامة العثيمين: [وقيل: إنه يصح قبل الحق، وكونه قبل السبب لا يضر، كما لو أن الإنسان اشترط في المبيع شرطاً قبل العقد، فإنه يصح، وهذا أيضاً إذا اتفقا على الرهن قبل العقد فما المانع؟فلا مانع في الحقيقة، ولو أننا فتحنا الباب، وقلنا: إنه لا يصح لتحيَّل المتحيِّلون، فجاء المستدين للدائن وقال: أريد منك مائة ألف ولكني أعرف أنك لن تقرضني إلا برهنٍ، وأنا الآن أكتب لك رهن بيتي، فرهنتك بيتي بالمائة ألف التي تقرضني، فقال: لا مانع ما دمت رهنتني البيت هذه المائة ألف، ولما انتهى العقد قال له المستدين: الرهن غير صحيح، وليس لك رهنٌ، فيكون بهذا فتحُ بابٍ لأهل الحيل. فالصواب: أن الرهن جائزٌ مع الحق وقبل الحق وبعد الحق، وأنه لا مانع؛لأنه عقد توثقة] الشرح الممتع 9/133.
ومما يدل على الجواز أن الرهن وثيقةٌ بالدين، فجاز عقدها قبل وجوب الحق، كما يصح الضمان قبل وجوب الدَّين، ولأن الدَّين الموعود جُعل كالموجود باعتبار الحاجة، فإن الرجل يحتاج إلى استقراض شيءٍ، وصاحب المال لا يعطيه قبل قبض الرهن، فيجعل الدَّين الموعود موجوداً دفعاً للحاجة عن المستقرض. انظر الرهن العقاري في الفقه الإسلامي ص22.
كما أن الأصل في العقود الصحة، ولا دليل على اشتراط تقدم ثبوت الدَّين على الرهن. قال العلامة العثيمين: [... لأن المعاملات الممنوعة -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله -وقوله صحيح - مبناها على ثلاثة أشياء: الظلم، والغرر، والميسر، فإذا وجدت معاملةٌ تشتمل على واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة فاعلم أن الشرع لا يقرها، وأما ما عدا ذلك مما ينفع الناس، وييسر أحوالهم فاستعن بالله وأفتِ بحله، حتى يتبين لك التحريم، وأنت إذا أفتيت بحل ما لم يتبين تحريمه، فأنت على حقٍ؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ويوم القيامة سوف يسألُك اللهُ عزَّ وجلَّ لماذا حرمت على عبادي ما لم أحرمه؟ فماذا يكون الجواب؟ ليس عندك جواب، لكن لو أحللت لهم شيئاً لا تعلم أنه حرام قلتَ: يا ربي مشيت على قاعدة شرعية«أن الأصل الإباحة»] الشرح الممتع 9/133.
وقد أخذت بهذا القول هيئةُ المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، كما في المعيار الشرعي رقم (٣٩) “الرهن وتطبيقاته المعاصرة” حيث ورد فيه: [أحكام الدَّين المرهون به... ولا يشترط لصحة الرهن أن يكون الدَّين ثابتاً في الذمة، بل يصح الرهن قبل العقد الذي يثبت به الدَّين أو معه] المعايير الشرعية ص 536.

ثالثاً: يجوز شرعاً للبنك الإسلامي أن يطلب رهناً لضمان ديونه في المرابحة وغيرها، ورد في معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية: [ينبغي أن تطلب المؤسسة من العميل ضماناتٍ مشروعةٍ في عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء. ومن ذلك حصول المؤسسة على كفالة طرف ثالث، أو رهن الوديعة الاستثمارية للعميل أو رهن أي مالٍ منقولٍ أو عقار، أو رهن سلعة محل العقد رهنا ائتمانياً رسمياً دون حيازة، أو مع الحيازة للسلعة وفك الرهن تدريجياً حسب نسبة السداد] المعايير الشرعية ص 115.
وجاء في ضوابط عقد المرابحة الصادرة عن الهيئة الشرعية لبنك البلاد الإسلامي السعودي: [للبنك أن يطلب من العميل ضماناتٍ مشروعةٍ في عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء. ومن ذلك: كفالة طرف ثالث، أو رهن أي منقول أو عقار للعميل، ولو كان المرهون مبلغاً في حسابٍ جارٍ أو استثماري له، أو كان المرهون هو السلعة محل العقد سواءٌ كان الرهن حيازياً، أو رسمياً دون حيازة. وينبغي فك الرهن تدريجياً حسب نسبة السداد] موقع بنك البلاد على الإنترنت.

وخلاصة الأمر أن الرهن هو: جعل عينٍ ماليةٍ أو ما في حكمها وثيقةً بدينٍ يُستوفى منها أو من ثمنها إذا تعذر الوفاء. وأن عقد الرهن مشروعٌ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه يجوز شرعاً للبنك الإسلامي أن يطلب رهناً لضمان ديونه. وأن للرهن أحوالاً ثلاثةً: أن يكون مع العقد المنشئ للدَّين، أو بعد العقد المنشئ للدَّين، أو قبل العقد المنشئ للدَّين، وقد اتفق العلماء على جواز الرهن في الحالتين الأوليين، والراجح جواز الثالثة، لأن الأصل في المعاملات الحل، ولأن الرهن وثيقة بالدين فجاز عقدها قبل وجوب الحق.

والله الهادي إلى سواء السبيل. 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 1
  • 0
  • 21,062

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً