تحرير مسألة البيع بالتقسيط
فالبيع بالتقسيط جائز بالنص والإجماع، وإنما دخلت الشبة على البعض بسبب التفسير الخاطئ لحديث أبي هريرة، ولعدم فهم مراد الإمام الشافعي في النهي عن البيع الآجل، ولخفاء الفارق بين الربا والبيع.
أمتلك محلات لبيع الأجهزة الكهربائية والمنزلية والمفروشات، وغيرها ؛ فهل يجوز البيع بالتقسيط مع زيادة ثمن السلعة؟ وقد سمعت أن بعض أهل العلم يحرمون البيع بالتقسيط.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبيع السلع بالتقسيط جائز مع زيادة الثمن، إذا كان البيع مستوفيًا الشروط، وكانت العين المباعة مباحة؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275]، واتفق الطرفان على الثمن الآجل، وعلى طريقة الدفع قبل إبرام العقد، وأن تكون الأقساط معلومة والأجل مسمى؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:281]، وأن تكون الزيادة على السعر واقعة قبل العقد لا بعده؛ بحيث يقع العقد على سعر محدد ومعلوم لطرفي التعاقد، وغير قابل للزيادة عند التأخر في سداد الأقساط.
والزيادة في مقابل الأجل في البيوع من العدل؛ لأن الأجل يأخذ قسطًا من الثمن، وهو مما تقتضيه قواعد الشرع وتتحقق به مصالح الناس، وإن كان في الديون محرماً وربا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (29/ 302-303): "وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان قصد المشتري الانتفاع بالسلعة والتجارة فيها، جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إن كان مقصوده الدراهم فيشتري بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء". اهـ.
ثم نقل إجماع الأئمة على صحة البيع بالتقسيط فقال في "مجموع الفتاوى" (29/ 30) - في معرض كلامه على مسألة التورق -: "ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها، فهذا يسمى: "التورق"، ففي كراهته عن أحمد روايتان، والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك فيما أظن؛ بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القُنية، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق". اهـ.
أما من ذهب من المعاصرين إلى المنع من البيع الآجل فقد احتجوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه – قال رسول الله - صلىالله عليه وسلم -:"من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"؛ رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث ضعيف، وقد تكلم فيه غير واحد من أهل العلم؛ والمشهور في الحديث هو رواية الدراوردي ومحمد بن عبد الله الأنصاري بلفظ: "نهى عن بيعتين في بيعة"، كما قال قال المنذري.
وكلا اللفظتين لا حجة فيها على التحريم، كما سيأتي بيانه.
وقد فسره الإمام الشافعي كما في "الوسيط في المذهب" (3/ 71): "نهيه عن بيعتين في بيعة ذكر الشافعي رضي الله عنه تأولين:
أحدهما: أن تقول، بعتك بألفين نسيئة، أو بألف نقدًا، أيهما شئت أخذت به، فأخذ بأحدهما، فهو فاسد لأنه إبهام، وتعليق.
والآخر: أن تقول، بعتك عبدي على أن تبيعني فرسك، وهو فاسد؛ لأنه شرط لا يلزم، ويتفاوت بعدمه مقصود العقد، وقد نهى مطلقًا عن بيع وشرط، وكذلك نهى عن بيع وسلف ومعناه أن يشترط فيه قرضًا". اهـ.
وقد فسره غيره بأن النهي عن البيعتين في بيعة؛ لأنه ذريعة إلى الربا، فيكون قصد الآخذ والمعطي المال وليس قصدهما البيع، وإن أخرجاه في صورة البيع تحايلاً، و"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، فهذان إنما قصدا الربا ولم يقصدا البيع والشراء، ومن ثمّ فسره كثير من الأئمة ببيع العينة، وغيره من البيوع الصورية والتي مقصودها أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، كما قال حبر الأمة عبدالله ابن عباس لما قيل له: "رجل باع حريرة إلى أجل ثم ابتاعها بأقل من ذلك؟ فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة".
هذا؛ ومن راجع كلام الأئمة المحققين وشراح الحديث علم أنهم أجمعوا على صحة البيع بالتقسيط، وأن الحديث ورد في حق كل من يحتال لأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، مثل بيع العينة، أو في البيوع الفاسدة بسبب جهالة الثمن، أو جهالة الثمن مع اشتراط ما لا يلزم ويتفاوت، كما فسره الشافعية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/ 73): "... وكذلك المعاملات الربوية سواء كانت ثنائية أو ثلاثية إذا كان المقصود بها جميعها أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، فالثنائية ما يكون بين اثنين: مثل أن يجمع إلى القرض بيعًا أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك"؛ قال الترمذي حديث صحيح.
ومثل أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يعيدها إليه؛ ففي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا".
والثلاثية مثل أن يدخل بينهما محللاً للربا، يشتري السلعة منه آكل الربا، ثم يبيعها المعطي للربا إلى أجل، ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستفيدها المحلل". اهـ.
وقال (29/ 432): "... فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل - فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى - فسواء باع المعطي الأجل، أو باع الأجل المعطى ثم استعاد السلعة؛ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، وفيه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله، أرسل الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"، وهذا كله في بيع العينة وهو بيعتان في بيعة". اهـ.
وقال أيضًا (20/ 349): "والله سبحانه وتعالى أحل البيع، وأحل التجارة، وحرم الربا، فالمبتاع يبتاع ما يستنفع به، كطعام ولباس ومسكن ومركب وغير ذلك، والتاجر يشتري ما يريد أن يبيعه ليربح فيه.
وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيُلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له، لم يبع ولم يتَّجر، والمربي آكل مال بالباطل بظلمه، ولم ينفع الناس لا بتجارة ولا غيرها؛ بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له ولا للناس، فإذا كان هذا مقصودهما، فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم، مثل إن تواطآ على أن يبيعه ثم يبتاعه فهذه بيعتان في بيعة؛ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، مثل أن يدخل بينهما محللاً يبتاع منه أحدهما ما لا غرض له فيه؛ ليبيعه آكل الربا لموكله في الربا، ثم الموكل يرده إلى المحلل بما نقص من الثمن". اهـ.
إذا تقرر هذا؛ فالبيع بالتقسيط جائز بالنص والإجماع، وإنما دخلت الشبة على البعض بسبب التفسير الخاطئ لحديث أبي هريرة، ولعدم فهم مراد الإمام الشافعي في النهي عن البيع الآجل، ولخفاء الفارق بين الربا والبيع، وأن غرض المرابين هو المال والسلعة مجرد صورة، وغرض التاجر والمشتري هو السلعة؛ والأمور بمقاصدها،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: