حكم من تعاون مع الكفار لإيذاء المسلمين
ما حكم من قال لجماعة من المسلمين: إنكم مرتدون، بسبب تعاونهم مع الكافر لإيذاء المسلمين؟ وهل تنطبق عليهم الآية: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}؟ أرجو الإجابة.وشكرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن أجبنا الأخ السائل عن معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: 51]. ونبهناه إلى ضرورة مراعاة أن هذه الموالاة المنهي عنها، منها ما يكون معصية فقط، ومنها ما يصل إلى الكفر.
وأما الحكم على جماعة من المسلمين بالردة، بسبب تعاونهم مع الكافر لإيذاء المسلمين، فإن كان المراد بذلك الحكم على أعيانهم بالكفر، فهذا لا بد فيه ـ وإن وقعوا في الكفر الأكبر ـ من توفر شروط التكفير، وانتفاء موانعه، ومن ذلك أن يكون بالغا، عاقلا، مختارا، غير معذور بجهل، أو تأويل.
وقد سبق لنا بيان ذلك، وبيان ضوابط التكفير، وخطر الكلام فيه، وأنه ليس كل من وقع في الكفر، وقع الكفر عليه، وذلك في عدة فتاوى.
وأما كفر النوع، أو الحكم على هذا الفعل دون فاعله بأنه من أنواع الكفر الأكبر، ففي هذا تفصيل، ذكره الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين في بحثه: (الولاء والبراء، وأحكام التعامل مع الكفار والمبتدعة والفساق) المنشور في مجلة البحوث الإسلامية -وهي مجلة دورية، تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، والإفتاء، والدعوة والإرشادـ فقال: إعانة الكفار على المسلمين، سواء أكانت بالقتال معهم، أم بإعانتهم بالمال، أو السلاح، أم كانت بالتجسس لهم على المسلمين، أم غير ذلك، تكون على وجهين:
ـ الوجه الأول: أن يعينهم بأي إعانة، محبة لهم، ورغبة في ظهورهم على المسلمين، فهذه الإعانة كفر مخرج من الملة.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي، في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: "وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليا تاما، كان ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ، وما هو دون ذلك".
وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}: "إن التولي التام، يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئا فشيئا حتى يكون العبد منهم".
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بعد ذكره لقصة حاطب، ونزول صدر سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}الآيات في شأن حاطب، قال: "فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب، الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: «صدقكم، خلوا سبيله» ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذ كان مؤمنا بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قال: (خلوا سبيله). ولا يقال: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه؛ فإن الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}، وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}والكفر محبط للحسنات، والإيمان بالإجماع؛ فلا يظن هذا.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وقوله:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة. وأصل الموالاة هو: الحب، والنصرة، والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب حظه، وقسط من الوعيد والذم" انتهى كلام الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله-.
وقد حكى غير واحد من أهل العلم إجماع العلماء على أن إعانة الكفار على المسلمين، محبة لهم، ورغبة في انتصارهم على الإسلام وأهله، كفر مخرج من الملة.
ـ الوجه الثاني: أن يعين الكفار على المسلمين بأي إعانة، ويكون الحامل له على ذلك مصلحة شخصية، أو خوفا، أو عداوة دنيوية بينه وبين من يقاتله الكفار من المسلمين، فهذه الإعانة محرمة، وكبيرة من كبائر الذنوب، ولكنها ليست من الكفر المخرج من الملة. ومن الأدلة على أن هذه الإعانة غير مكفرة: ما حكاه الإمام الطحاوي من إجماع أهل العلم على أن الجاسوس المسلم لا يجوز قتله، ومقتضى ما حكاه الطحاوي أنه غير مرتد. ومستند هذا الإجماع: أن حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- قد جس على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلمين في عزوة فتح مكة، فكتب كتابا إلى مشركي مكة يخبرهم فيه بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد أخفى وجهة سيره؛ لئلا تستعد قريش للقتال، وكان الدافع لحاطب، ولكتابة هذا الكتاب هو مصلحة شخصية، ومع ذلك لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بردته، ولم يقم عليه حد الردة، فدل ذلك على أن ما عمله ليس كفرا مخرجا من الملة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه على الكفار: "وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم، أو حاجة، فتكون ذنبا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرا، كما حصل من حاطب لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك، فقال لسعد بن معاذ: والله لا تقتله، ولا تقدر على قتله. قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية. ولهذه الشبهة سمى عمر حاطبا منافقا .. فكان عمر متأولا في تسميته منافقا للشبهة التي فعلها".
فإذا ثبت أن ما فعله حاطب ليس ردة -وهذا مجمع عليه-مع أن رسالته لو وصلت إلى مشركي مكة لاستعدت قريش للحرب، وهذا خلاف ما قصد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من تعمية خبر غزوه لهم، فما عمله حاطب إعانة عظيمة للكفار في حربهم للمسلمين في غزوة من أهم الغزوات الفاصلة في الإسلام -إذا ثبت ذلك، علم أن الإعانة لا تكون كفرا حتى يكون الحامل عليها محبة الكفار، والرغبة في انتصارهم على المسلمين. اهـ.
والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: