صدقات بالغة التأثير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الترغيب في الصدقات:
عباد الله: كلما علم المقرض بأن المقترض غني، وأن ماله مضمون، كلما ازدادت الرغبةً في الإقراض وتشجع على ذلك، فكيف إذا كان المقترض سيأخذ مال المقرض وينميه له أضعافًا مضاعفة، ويحفظه له ثم يزيده فوق ذلك من عنده شيئًا عظيمًا؟
{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ...} [الحديد: 11]، والله هو الغني، وكل غني من البشر غناه ناقص سيفارق المال أو المال يفارقه.
{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} له ثلاثة شروط: من مال طيب، ونفس طيبة، ولا يحلقه من ولا أذى.
{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} تلطف إلى عباده، وقال: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ} والله غني، ولا يحتاج إلى قرض، لكن كرم المتصدقين، فقال: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ} هذا يتضمن حفظ الأصل، والعمل فيه، حتى يتضاعف، وليس فقط ذلك قال في الآية: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] زيادة على مضاعفات القرض.
مضاعفة أجر المتصدِّق:
قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ...} [البقرة: 261]، ضرب المثل بالمنفق، ما هو الممثل به، والمشبه به؟ حبة، إذن هذا المثل، فيه اختصار مثل صدقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل باذر، فلاح، بذر حبة، فأسقط من كل طرف الأقل أهمية وأبقى الأهم.
فقال: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ...} [البقرة: 261]، تصوير الشيء كأنه رأي العين أمامك، سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، سبعة في مائة بسبعمائة، هل هذا فقط؟ لا: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} الله فوق السبعمائة، إذا كانت الصدقة من مال طيب، والنفس طيبة، تجود لله، وفيها سخاء له، ابتغاء الأجر عنده، وإيمانًا بثوابه ومعوده يوم القيامة، فإن الله يضاعف فوق السبعمائة: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
أهمية الإخلاص في الصدقة:
والإخلاص شأنه عظيم؛ لأن الرياء يبطل إبطالاً شنيعًا: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ...} [البقرة: 266]، بستان عظيم من نخيل وأعناب، من أطيب الثمار، تنفع صيفًا وشتاء، وعلى مدار العام، وثمرها يؤكل، فاكهة وطعامًا، ويخزن للحاجة، التمر والزبيب، وليس فقط من نخيل وأعناب: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} من كل الأنواع، وهذه الثمرة، وهذا البستان تجري من تحتها الأنهار، فليس هناك حاجة لعناء أو تعب في حفر الماء، واستخراجه: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} فهو عاجز عن العمل، وليس له بعد الله إلا هذا البستان، يعيش منه: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء} عنده مرضى، عنده نساء، ذرية ضعفاء، صغار، لو مات الآن، مالهم بعد الله إلا بستان أبيهم.
فمن كم ناحية تعلقت نفسه بهذا البستان؟ من جهة جودة البستان نفسه، ومن جهة حاله هو، وفجأة: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} عجبًا! ما المقصود؟
قال المفسرون: صدقة المرائي، يوم القيامة يأتي أحوج ما يكون إليها أشد حاجة من ذلك الرجل، فيجد هباء منثورًا، إعصار الرياء، أحرق أجر الصدقة.
أنواع الصدقات:
عباد الله! الصدقات كثيرة، صدقات المال، لكن هناك صدقات البدن، تحمل معه، تعينه، تدله على حاجة قد علمت مكانها وجهل ذلك المكان.
وصدقة بالشفاعة والجاه، الشفاعة الحسنة، ليست هي اعتداء على حقوق الآخرين.
وأنواع الصدقات كثيرة، ومنها: القرض يجري مجرى شطر الصدقة، فإذا زاد على المدة، ولم يعده لفقره –مثلاً- كان لك بكل يوم مثليه صدقة، فهناك أجر الإقراض، وأجر الإمهال، ولذلك قال المرابون: ثمن الوقت، نقول: في الشريعة ثمن الوقت أجر، ولا يشترط أن يكون كل شيء في هذه الدنيا.
((في بضع أحدكم صدقة)) [رواه مسلم: 1006]، مع أنها شهوة، لكن لأنه يعف نفسه، ويعفها كانت صدقة عظيمة.
الصدقة على كل من الثلاثمائة والستين مفصل عظم في أجسادنا، في جسد الواحد منا ركعتا الضحى تقوم مقامه.
الصدقة بالعرض، لو سامح من اغتابه وآذاه، سمع أحدهم الحسن البصري يدعو لمن ظلمه دعاء عظيمًا، ويجتهد في الدعاء، فقال: يا أبا عبد الله! رويدك، سمعت دعاءك لمن ظلمك حتى تمنيت أكون أنا الذي ظلمتك، ما هذا؟ قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
الصدقة بالجسد، وقد جاء في الحديث: أن الذي يصير له حق قصاص في جناية، فيعفو فإنها صدقة عظيمة عند الله.
تصدق بشيء من بدنه، أسقط القصاص، عفا، ومن ذلك عفو أولياء القتيل عن الدية من قاتل الخطأ –مثلاً- أجرها عظيم.
الصدقة من إنسان صلى مع الجماعة، فدخل أخوه المسلم بعد الجماعة وحيدًا فريدًا، يتلفت ينظر عمن يصلي معه، فلم يجد فقام فصلى معه، حديث: ((من يتصدق على هذا)) [رواه أحمد: 11408، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: 535] له أجر عظيم.
أبواب الصدقة كثيرة، اللهم اجعلنا من أهل الجود والكرم في سبيلك، يا رب العالمين، واغفر لنا يا أرحم الراحمين، اللهم اجزنا الجزاء الأوفى، وأدخلنا جنات النعيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الغني الكريم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صادق الوعد، الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين، وأزواجه، وذريته، وخلفائه الميامين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك، اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، وأوردنا حوضه، واجمعنا به يوم الدين، واجعلنا من جيرانه في جنات الخلد، يا رب العالمين.
نماذج من المتصدقين:
عباد الله: هذه الصدقات عندما تكون من نفس خالصة، كم يكون لها أجر؟
كان يسير على الطريق الترابية للفقراء البعيدين عن المدن، يوزع عليها الطعام، ويصر على البقاء مدرسًا في مكان نائي، مع إمكان نقله ليبقى نافعًا لأولئك القوم المغفول عنهم.
تاجر قبل موته أخرج أمام أولاده دفتر ديون الفقراء، ثم رمى به في النار أمامهم، وآخر عقيم لا ينجب عجل همته في بناء المساجد، وقال: هذه ذريتي من بعدي.
ومدرسة تزود الطالبات بالماء البارد أيام الاختبارات على مدار الأسبوعين، في كل فصل دراسي من كل سنة، ولم يكن يعلم بها.
ومدرس يعرف الفقراء في مدرسته، فيدور بخبز الشطائر قبل الفجر على بيوتهم، ليجد أهلوهم ما يعطونهم لفسحة المدرسة.
وغني لا يموت عنده في الخدمة سائق ولا خادمة، ولا موظف، ولا عامل، إلا وراتبه يستمر لأهله.
وامرأة عجوز ترمي بجيد القمح أمام بيتها للطيور، فيقول أولادها: يكفيهم الشعير، وأرخص فتقول: أخشى على حلوقها.
وعندما يوجد الإنسان بماله، ولو بدينار، درهم واحد، فقد يسبق الدرهم مائة ألف درهم، رجل له درهمان أخرج أحدهما في سبيل الله، و الآخر عنده ملايين الملايين، فأخرج من عرضها مائة ألف، سبق درهم مائة ألف درهم.
عباد الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 54-55].
نسأل الله أن يجعلنا منهم، اللهم اغفر لنا أجمعين، اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تكتبنا من عتقائك من النار، وأن تدخلنا الجنة مع الأبرار.
اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وتفرج همومنا، وتهدي ضالنا، وترد غائبنا، وتشفي مريضنا، وترحم ميتنا، وتجمع على الحق كلمتنا.
اللهم اسلل سخائم صدورنا، سدد ألسنتنا، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا.
اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تكشف الغمة عن الأمة، نسألك أن تكشف الغمة عن الأمة، نسألك أن تكشف الغمة عن الأمة.
يا رب العالمين، اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، من أراد بلدنا هذا بسوء فابطش به، من أراد بلاد المسلمين وبلدنا بشر فاقطع دابره، واجعل كيده في نحره.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
محمد صالح المنجد
أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية. وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.
- التصنيف:
- المصدر: