سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (3-4) • تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ الحمد لله رب العالمين، ...
منذ 17 ساعة
سلسلة علمية
في بيان مسائل منهجية
(3-4)
• تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
ففي هذه الحلقة نبدأ الحديث -بعون الله تعالى- عن تكفير المشـركين، وسنتكلم عن مسألتين:
المسألة الأولى: سنجيب فيها على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟
المسألة الثانية: نذكر فيها العلة أو المناط أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.
وقبل الشـروع في ذلك نذكر بعض نصوص أهل العلم في كفر من لم يكفر الكافر...
قال أبو الحسين الملطي الشافعي -رحمه الله-: "جميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر". (1) انتهى كلامه.
وقال القاضـي عياض -رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". (2) انتهى كلامه.
وقال النووي -رحمه الله-: "من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر". (3)
ونص الحجاوي -رحمه الله- على أن من "لم يكفر من دان بغير الإسلام؛ كالنصارى، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم... فهو كافر".(4) انتهى كلامه.
ونص البهوتي -رحمه الله- على تكفير من "لم يكفر من دان بغير دين الإسلام كأهل الكتاب، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم".(5)
وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "من لم يكفر المشـركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا". ا.هـ(6)
انتهى كلامهم رحمهم الله.
ونشـرع الآن في بيان المسألة الأولى: وهي الإجابة على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟
والجواب هو أن التكفير حكم شـرعي محض، لا مدخل للعقل فيه، ولا يدخل تحت مسائل ومعاني أصل الدين، والتي سبق وأن بيناها في الحلقة السابقة.
إذن تكفير المشـركين من واجبات الدين وليس من أصل الدين.
طيب ما الفرق؟
الفرق أن ما كان من أصل الدين، فإنه لا يعذر المرء فيه بجهل، ولا تشترط إقامة الحجة على تاركه أو تارك بعضه.
أما التكفير فهو حكم شـرعي قد يعذر فيه بالجهل والتأويل.
ثم إن التكفير ليس على مستوى واحد، بل له مراتب، فأعلاها ما هو معلوم من الدين بالضـرورة؛ كتكفير من كفرهم الله تعالى في كتابه على التعيين؛ كإبليس وفرعون وكل من دان بغير الإسلام؛ كاليهود والنصارى وعباد الأصنام.
وأدناها ما اختلف في تكفير مرتكبه؛ كتارك الصلاة وغير ذلك، وبينهما مراتب متفاوتة، وهو ما سوف نتناوله في حلقة قادمة بإذن الله تعالى.
قلنا: إن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي، وليس له مورد سوى الأدلة الشـرعية، ولا مدخل للعقل فيه، وقد تتابع أهل العلم على تقرير ذلك وتأكيده، وإليكم بعض أقوالهم:
قال القاضـي عياض -رحمه الله-: "فصل في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه، وما ليس بكفر: اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشـرع، ولا مجال للعقل فيه".(7) انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية".(8)
وقال -رحمه الله-: "فإن الكفر والفسق أحكام شـرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل؛ فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما..-إلى أن قال: - فهذه المسائل كلها ثابتة بالشـرع".(9)
وقال -رحمه الله-: "الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشـرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الأدلة العقلية". (10) انتهى كلامه.
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- :
الكفر حق الله ثم رسوله
بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده
قد كفراه فذاك ذو الكفران(11)
وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله: "أن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعيا قطعيا، ولا نزاع في ذلك".(12) انتهى كلامه
وعليه نقول: إن من جهل حكم الشـرع في أحد الكفار أو المشـركين أو إحدى طوائفهم: لا يكون حكمه كحكم من أشـرك، لأن الذي أشـرك نقض أصل الدين؛ كما ذكرنا في الحلقة السابقة، وإنما حكمه كحكم كل من جهل شـريعة أو فريضة من فرائض الإسلام، فمن قامت عليه الحجة الرسالية في ذلك كفر، ومن لم تبلغه الحجة الرسالية في ذلك فليس بكافر، بخلاف من جهل التوحيد؛ الذي هو أصل الدين؛ فإنه كافر كفر جهل.
هذا وقد تتابع أهل العلم على تقرير الفرق بين الجهل بأصل الدين والجهل بالواجبات الشـرعية:
فقد نقل الإمام محمد بن نصـر المروزي عن طائفة من أهل الحديث قولهم: "ولما كان العلم بـالله إيمانا والجهل به كفرا، وكان العمل بالفرائض إيمانا والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر... إلى أن قالوا: وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرا، وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرا، والجهل بـالله في كل حال كفر، قبل الخبر وبعد الخبر". (13) انتهى كلامه -رحمه الله-
وأما صفة قيام الحجة وكيفية تحقيق هذا الشـرط قبل التكفير، فإن ذلك يختلف بحسب ظهور المسألة وخفائها، فقد تقوم الحجة بمجرد وجود المتوقف عن التكفير في مظنة العلم، بحيث يكون بتوقفه معرضا لا جاهلا، وبحيث لا يعذر إلا من كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين النص الشـرعي الدال على كفر من فعل كذا أو قال كذا، ولا يكتفى بمجرد البلوغ العام للقرآن، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين الدليل مع إزالة الشبهة والإجابة عن الدليل المعارض، وسيأتي مزيد توضيح لهذه المسألة عند الحديث عن مراتب المتوقفين.
ويستدل على التفريق بين الجهل بالشـرائع والجهل بأصل الدين أو على أن تكفير المشـركين من الشـرائع ليس من أصل الدين بعدة من الأدلة، أذكر منها:
إن جميع الأنبياء عليهم السلام بدءوا أقوامهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شـريك له، ولو أن الجهل بأحكام التكفير كفر لما تأخر بيانها عن بيان أصل الدين لحظة واحدة.
ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين ما ثبت أن من الصحابة رضي الله عنهم، من توقف في تكفير قوم وقعوا في الردة، وسموهم مسلمين، ولما نزلت الآيات التي بينت كفر هؤلاء القوم لم يستتابوا من توقفهم، بينما ثبت أن أحد الصحابة وقع في الشـرك جاهلا، ومع ذلك كفره الصحابة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه، وهذا يدل على الفرق بين من وقع في الشـرك جاهلا، وبين من جهل الشـرائع.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97، 98]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: ١٠] الْآيَةَ".(14)
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله : "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار مع تكلمهم بالإسلام".(15) انتهى كلامه.
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: كنا نذكر بعض الأمر، وأنا حديث عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، ولا تعد له».(16)
وقال ابن الوزير الصنعاني-رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: "وهذا أمر بتجديد الإسلام".(17) انتهى كلامه.
وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله- "فمن قال في الإسلام في يمينه واللات والعزى مؤكدا ليمينه بذلك على معنى التعظيم فيه: كافر حقيقة". ا.هـ(18)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- : "أخذ به -يعني حديث سعد -رضي الله عنه- طائفة من العلماء فقالوا يكفر من حلف بغير الله كفر شـرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول لا إله إلا الله، فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك، وقال الجمهور: لا يكفر كفرا ينقله عن الملة، لكنه من الشـرك الأصغر".(19) انتهى كلامه.
فلم يعذر- رضي الله عنه- في ذلك مع أنه حديث عهد بجاهلية..
ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد: ما روي أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 88 - 89]
وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(20)
وصح عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(21)
وقد روي بهذا المعنى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس -رضي الله عنهم-، وصح بنحوه مرسلا عن عدة من التابعين وهم: عكرمة، والسدي، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي رحمهم الله.
وقال الإمام الطبري -رحمه الله- في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا { [النساء: ٨٨]، قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم". (22) انتهى كلامه.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(23) انتهى كلامه.
وقال ابن أبي زمنين -رحمه الله-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـارتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}".(24) انْتَهَىٰ كَلَامُهُ رحمه الله.
ومن الأدلة أيضا: ما رجحه طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر -رضي الله عنه- كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم.
فقد صح عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لأبي بكر -رضي الله عنه- في شأن "المرتدين" : كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(25)
وقد توقف بعض أئمة السلف -في بادئ الأمر- كفر من قال بخلق القرآن، ومنهم توقف في كفر الجهمية على الرغم من شدته، فلم يكونوا بذلك كفارا، ولما تبين لهم الدليل على كفرهم لم يتوقفوا فيهم، ولم يجددوا إسلامهم لأجل ما سبق من توقفهم.
فعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: "سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: "كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القرآن: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، وَقَوْلَهُ: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120[" وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166]" .(26)
وعن ابن عمار الموصلي -رحمه الله- قال: "يقول لي ابن المديني: ما يمنعك أن تكفرهم؟! -يعني: الجهمية- قال: وكنت أنا أولا أمتنع أن أكفرهم حتى قال ابن المديني ما قال، فلما أجاب إلى المحنة، كتبت إليه كتابا أذكره الله، وأذكره ما قال لي في تكفيرهم".(27)
وبذلك نكون قد انتهينا من المسألة الأولى...
ونشـرع الآن في بيان المسألة الثانية: وهي ما هو المناط أو العلة أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.
الجواب: هو تكذيب الشـرائع وردها.
فبالنظر إلى نصوص أهل العلم في هذا الناقض يظهر جليا ما قرروه من أن مناط الكفر في المتوقف في الكافر يرجع إلى تكذيب الشـرائع وردها، لا من جهة انتقاض أصل الدين.
وقد تتابع أكثر أهل العلم على ذكر هذا المناط بناء على أن الكفر إنما يكون بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها، أو بإنكار المعلوم من الدين ضـرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضـرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها ونحو ذلك". ا.هـ(28)
* وإليكم بعض ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم الذين نصوا على مناط كفر المتوقف في الكافر:
فقد علل القاضـي عياض تكفير المتوقف في اليهود والنصارى ومن فارق دين الإسلام بما نقله عن الباقلاني، قال: "لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف، أو شك فيه، والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر".(29) انتهى كلامه.
وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله- في تكفير الشاك في عابد الصنم ومن لم يكفره: "ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة". (30) انتهى كلامه.
وعلل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تكفير من قال: (أن من شهد الشهادتين لا يجوز تكفيره ولو عبد غير الله)، فقال: "لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله، وإجماع المسلمين". (31) انتهى كلامه
وقال بعض أئمة الدعوة النجدية: "فإن الذي لا يكفر المشـركين غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشـركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم".(32) انتهى كلامهم.
ونكتفي بهذا القدر، وإلى لقاء آخر في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى...
ونسأل الله تعالى العون والتوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا...
• ( الْحَلَقَةُ الرابعة )
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
فهذه حلقة نتناول فيها الحديث -بعون الله تعالى- عن مسألتين:
الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب...
والثانية: نذكر فيها مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...
ونشـرع الآن في المسألة الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب؟
• والجواب: نص أهل العلم على أن التكفير حكم شـرعي له مراتب بحسب أمرين:
فالأول: قوة ثبوته في الشـرع؛ أي وضوح وظهور الدليل الشـرعي على كفر فلان من الناس، وهو ما يعرف بمعرفة الحكم...
والثاني: قوة ثبوته على المعين الذي وقع في الشـرك أو الكفر، وهو ما يسمى بمعرفة الحال، ويكون من خلال الرؤية أو السماع أو شهادة الشهود...
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية، فتارة يدرك بيقين، وتارة يدرك بظن غالب، وتارة يتردد فيه، ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ".(1) انتهى كلامه رحمه الله.
وذلك بخلاف من زعم أن جميع صور الكفر أو الشـرك على مرتبة واحدة؛ بحيث يستوي في إدراكها العالم والجاهل، ولا شك في بطلان هذا القول، ومخالفته لما قرره أهل العلم في هذا الشأن، بل ومخالفته للنصوص التي دلت على أن الكفر بعضه أشد من بعض.
قَالَ تَعَالَىٰ: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97].
أما المسألة الثانية: وهي مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...
فنقول: إن للمتوقفين في المشـركين مراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك...
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس: كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر: فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه". (2) انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل كلامه؛ كيف أنه جعل للمتوقف في هؤلاء الطواغيت أحوالا أقلها الفسق، وهذا يؤكد على أن للمتوقفين في المشـركين أحوالا ومراتب.
* وهذه المراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك بغض النظر عن شدته؛ فقد يكون الشـرك أشد في حال من الأحوال، ولكنه في الظهور أقل مما هو أخف منه شدة.
مثال ذلك: شـرك عباد الأصنام مع شـرك الجهمية؛ فالحكم بتكفير المتوقف في عباد الأصنام أقوى من الحكم بتكفير المتوقف في الجهمية؛ وذلك لأن عبادة الأصنام أشد ظهورا من التجهم، مع أن التجهم أشد شـركا.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فإن المشـرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله... فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد، يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟ فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له".(3)
وقال أيضا رحمه الله: "فشـرك عباد الأصنام والأوثان والشمس والقمر والكواكب خير من توحيد هؤلاء بكثير، فإنه شـرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات، وتوحيد هؤلاء تعطيل لربوبيته وإلهيته وسائر صفاته، وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشـرك، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شـركا".(4) انتهى كلامه رحمه الله.
بناء على ما سبق؛ سنذكر مراتب المتوقفين في المشـركين أو الكفار بناء على ظهور الأدلة على كفرهم وشهرتها، معتمدين على نصوص أهل العلم في ذلك:
المرتبة الأولى- من توقف فيمن علم كفره بالضـرورة من دين أهل الملل، فمن ذلك:
أولا: من توقف في إبليس أو فرعون أو مدع الإلهية لنفسه أو لغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من لم يكفر فرعون: "وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل؛ المسلمين واليهود والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بـالله". (5) انتهى كلامه رحمه الله.
ثانيا: من توقف في عباد الأصنام، ولو انتسبوا للإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من صحح عبادة الأصنام: "ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام".(6) انتهى كلامه.
وقال ابن الوزير الصنعاني رحمه الله: "ولا شك أن من شك في كفر عابد الأصنام وجب تكفيره، ومن لم يكفره، ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة".(7) انتهى كلامه.
وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.
المرتبة الثانية- من توقف فيمن علم كفرهم بالضـرورة من دين المسلمين خاصة؛ كمن توقف في اليهود والنصارى، أو كل من فارق دين الإسلام.
قال القاضـي عياض رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم".(8) انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن لم يحرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم بـاتفاق المسلمين". (9) انتهى كلامه.
وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.
المرتبة الثالثة- من توقف فيمن ينتسب للإسلام ووقع في شـرك أو كفر مجمع على كفر من وقع فيه، وهؤلاء على مراتب:
الأول من المرتبة الثالثة: من لم يكن له تأويل؛ فإنه إما أن يقتصـر على تبيين الحال له، وإما أن يقتصـر على تبيين حكم الشـرع فيهم، وإما أن تبين له حالهم ويبين له حكم الشـرع فيهم، وهذا بناء على ظهور الشـرك وظهور حال المتوقف فيهم؛ فإن توقف بعد ذلك فهو كافر، وأما إن كان حالهم ظاهرا، وحكم الشـرع فيهم ظاهرا؛ فيحكم بكفر المتوقف من غير تبيين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم: عرف حالهم؛ فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم".(10) انتهى كلامه.
* فـانظر هنا كيف اقتصـر شيخ الإسلام في تكفير المتوقف في هذه الطائفة على تعريفه بحالهم.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله في بعض مرتدي زمانه: "فإن كان شاكا في كفرهم أو جاهلا بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء على: أن من شك في كفر الكافر فهو كافر".(11) انتهى كلامه رحمه الله.
* نلاحظ هنا أن الشيخ سليمان اشترط تبيين الحكم الشـرعي للمتوقف قبل تكفيره.
وقال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله فيمن قال بخلق القرآن: "ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر، ومن كان جاهلا علم؛ فإن أذعن بالحق بتكفيره وإلا ألزم الكفر". (12) انتهى كلامه رحمه الله.
* في هذه الصورة اشترط أبو حاتم تعليم المتوقف قبل تكفيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الحلولية: "ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر؛ كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشـركين".(13) انتهى كلامه.
* أما في هذه الصورة فقد اشترط تعريف الحال والحكم الشـرعي معا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "طائفة الدروز": "كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون؛ بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم". (14) انتهى كلامه.
* ونلاحظ في هذه الصورة أنه لم يشترط في تكفير المتوقف تبيين الحال، ولا تبيين الحكم؛ وذلك لظهور حال تلك الطائفة، وظهور الأدلة على كفرهم.
والقسم الثاني من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول فاسدة فتأول؛ فيؤثر في الحكم عليه شدة ظهور كفر المعين أو الطائفة، ففي حال شدة ظهور الكفر يعتبر كافرا معاندا متسترا بتأويله، وفي حالات أخرى اختلف بين تفسيقه وتكفيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "وأما من قال: (لكلامهم تأويل يوافق الشـريعة)؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى؛ فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلا، كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد".(15)
وقال أيضا رحمه الله: "وعنه -أي الإمام أحمد- في تكفير من لا يكفر روايتان؛ -يعني في تكفير من لم يكفر الجهمية- أصحهما لا يكفر".(16) انتهى كلامه.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: "نظرت في كلام اليهود، والنصارى، والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم -يعني الجهمية-، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم".(17) انتهى كلامه رحمه الله.
والظاهر من قول الإمام البخاري أنه يذهب إلى عدم تكفير المتوقف في الجهمية؛ كإحدى الروايتين عن أحمد.
وقال المرداوي رحمه الله: "وذكر ابن حامد في أصوله كفر الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، وقال: "من لم يكفر من كفرناه فسق وهجر، وفي كفره وجهان"، والذي ذكره هو وغيره من رواة المروذي، وأبي طالب، ويعقوب، وغيرهم: أنه لا يكفر -إلى أن قال:- وقال في إنكار المعتزلة استخراج قلبه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسـراء وإعادته: في كفرهم به وجهان، بناء على أصله في القدرية الذين ينكرون علم الله وأنه صفة له، وعلى من قال: لا أكفر من لا يكفر الجهمية".(18) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة -يعني الذين يفضلون عليا على سائر الصحابة بلا طعن فيهم- ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافا عنه أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشـريعة". (19) انتهى كلامه رحمه الله.
والقسم الثالث من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول صحيحة فتأول؛ كما جاء في خطأ بعض الصحابة رضي الله عنهم في تكفير بعض المرتدين؛ حيث بين الله تعالى خطأ من توقف، ولم يحكم عليهم بكفر.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] الآية".(20)
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار، مع تكلمهم بالإسلام".(21) انتهى كلامه.
وروي أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88].
وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(22)
وصح عن مجاهد رحمه الله، أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(23)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شـيء، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] الآية". (24)
وقال الإمام الطبري رحمه الله في تأويل قوله تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم".(25) انتهى كلامه رحمه الله.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(26) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال ابن أبي زَمَنِين رحمه الله -وهو من أئمة أهل السنة-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـرتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله -تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88]".(27) انتهى كلامه رحمه الله.
ورجح طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر رضي الله عنه كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم؛ فقد صح عن عمر رضي الله عنه، أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه في شأن "المرتدين": كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(28)
* والحكم في هذه الحال: أن المتوقف لا يكفر ابتداء، بل يحكم عليه بالخطأ، وهذا الحكم مبني على أن التكفير من الأحكام الشـرعية، وأن حكم المجتهد المخطئ فيه كحكم غيره ممن أخطأ في المسائل الشـرعية، فإذا بينت له الأدلة وانقطع تأويله ثم توقف بعد ذلك فهو كافر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة: هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين والجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه".(29) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "ثم لو قدر أن أحدا من العلماء توقف عن القول بكفر أحد من هؤلاء الجهال المقلدين للجهمية، أو الجهال المقلدين لعباد القبور، أمكن أن نعتذر عنه بأنه مخطئ معذور، ولا نقول بكفره لعدم عصمته من الخطأ، والإجماع في ذلك قطعي".(30) انتهى كلامه.
المرتبة الرابعة- من توقف فيمن وقع في كفر أو شـرك، وكان سبب توقفه غرضا شـرعيا مباحا، فمن ذلك:
1- من توقف فيمن وقع في نوع شـرك أو كفر مختلف في أنه مخرج من الملة؛ كترك الصلاة.
2- ومن ذلك من توقف فيمن انتسب للعلم الشـرعي بغرض الدفع عن تكفير علماء المسلمين.
وحكم المتوقف في هاتين الصورتين أنه مجتهد مأجور بإذن الله؛ إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشـرعية؛ حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصـرا لأخيه المسلم: لكان هذا غرضا شـرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد". (31) انتهى كلامه.
* وههنا سؤال مهم، وهو: أين مرتبة المتوقف في عباد القبور من هذه المراتب؟
• والجواب أن مرتبة المتوقف في القبورية تختلف بحسب ظهور الشـرك أو الاعتقاد في صاحب القبر، ولا شك أن منها ما يماثل عبادة الأصنام أو يزيد عليها، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما يقتصـر على الابتداع في الدين ولا يبلغ الشـرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمراتب في هذا الباب ثلاث:
إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصـرني على عدوي، ونحو ذلك فهذا هو الشـرك بالله...
* وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي؛ كما يفعله طائفة من الجهال المشـركين..
* وأعظم من ذلك: أن يسجد لقبره ويصلي إليه، ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص، والكعبة قبلة العوام..
* وأعظم من ذلك: أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول: (إن السفر إليه مرات يعدل حجة)، وغلاتهم يقولون: (الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة)، ونحو ذلك؛ فهذا شـرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه..
الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا؛ كما تقول النصارى لمريم وغيرها؛ فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة...
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شـيء من مصائب الدنيا والدين؛ ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته؛ فإن ذلك في حياته لا يفضـي إلى الشـرك، وهذا يفضـي إلى الشـرك..
الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه".(32) انتهى كلامه رحمه الله.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى التوفيق والعون والسداد، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 هـ
في بيان مسائل منهجية
(3-4)
• تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
ففي هذه الحلقة نبدأ الحديث -بعون الله تعالى- عن تكفير المشـركين، وسنتكلم عن مسألتين:
المسألة الأولى: سنجيب فيها على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟
المسألة الثانية: نذكر فيها العلة أو المناط أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.
وقبل الشـروع في ذلك نذكر بعض نصوص أهل العلم في كفر من لم يكفر الكافر...
قال أبو الحسين الملطي الشافعي -رحمه الله-: "جميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر". (1) انتهى كلامه.
وقال القاضـي عياض -رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". (2) انتهى كلامه.
وقال النووي -رحمه الله-: "من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر". (3)
ونص الحجاوي -رحمه الله- على أن من "لم يكفر من دان بغير الإسلام؛ كالنصارى، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم... فهو كافر".(4) انتهى كلامه.
ونص البهوتي -رحمه الله- على تكفير من "لم يكفر من دان بغير دين الإسلام كأهل الكتاب، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم".(5)
وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "من لم يكفر المشـركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا". ا.هـ(6)
انتهى كلامهم رحمهم الله.
ونشـرع الآن في بيان المسألة الأولى: وهي الإجابة على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟
والجواب هو أن التكفير حكم شـرعي محض، لا مدخل للعقل فيه، ولا يدخل تحت مسائل ومعاني أصل الدين، والتي سبق وأن بيناها في الحلقة السابقة.
إذن تكفير المشـركين من واجبات الدين وليس من أصل الدين.
طيب ما الفرق؟
الفرق أن ما كان من أصل الدين، فإنه لا يعذر المرء فيه بجهل، ولا تشترط إقامة الحجة على تاركه أو تارك بعضه.
أما التكفير فهو حكم شـرعي قد يعذر فيه بالجهل والتأويل.
ثم إن التكفير ليس على مستوى واحد، بل له مراتب، فأعلاها ما هو معلوم من الدين بالضـرورة؛ كتكفير من كفرهم الله تعالى في كتابه على التعيين؛ كإبليس وفرعون وكل من دان بغير الإسلام؛ كاليهود والنصارى وعباد الأصنام.
وأدناها ما اختلف في تكفير مرتكبه؛ كتارك الصلاة وغير ذلك، وبينهما مراتب متفاوتة، وهو ما سوف نتناوله في حلقة قادمة بإذن الله تعالى.
قلنا: إن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي، وليس له مورد سوى الأدلة الشـرعية، ولا مدخل للعقل فيه، وقد تتابع أهل العلم على تقرير ذلك وتأكيده، وإليكم بعض أقوالهم:
قال القاضـي عياض -رحمه الله-: "فصل في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه، وما ليس بكفر: اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشـرع، ولا مجال للعقل فيه".(7) انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية".(8)
وقال -رحمه الله-: "فإن الكفر والفسق أحكام شـرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل؛ فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما..-إلى أن قال: - فهذه المسائل كلها ثابتة بالشـرع".(9)
وقال -رحمه الله-: "الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشـرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الأدلة العقلية". (10) انتهى كلامه.
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- :
الكفر حق الله ثم رسوله
بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده
قد كفراه فذاك ذو الكفران(11)
وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله: "أن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعيا قطعيا، ولا نزاع في ذلك".(12) انتهى كلامه
وعليه نقول: إن من جهل حكم الشـرع في أحد الكفار أو المشـركين أو إحدى طوائفهم: لا يكون حكمه كحكم من أشـرك، لأن الذي أشـرك نقض أصل الدين؛ كما ذكرنا في الحلقة السابقة، وإنما حكمه كحكم كل من جهل شـريعة أو فريضة من فرائض الإسلام، فمن قامت عليه الحجة الرسالية في ذلك كفر، ومن لم تبلغه الحجة الرسالية في ذلك فليس بكافر، بخلاف من جهل التوحيد؛ الذي هو أصل الدين؛ فإنه كافر كفر جهل.
هذا وقد تتابع أهل العلم على تقرير الفرق بين الجهل بأصل الدين والجهل بالواجبات الشـرعية:
فقد نقل الإمام محمد بن نصـر المروزي عن طائفة من أهل الحديث قولهم: "ولما كان العلم بـالله إيمانا والجهل به كفرا، وكان العمل بالفرائض إيمانا والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر... إلى أن قالوا: وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرا، وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرا، والجهل بـالله في كل حال كفر، قبل الخبر وبعد الخبر". (13) انتهى كلامه -رحمه الله-
وأما صفة قيام الحجة وكيفية تحقيق هذا الشـرط قبل التكفير، فإن ذلك يختلف بحسب ظهور المسألة وخفائها، فقد تقوم الحجة بمجرد وجود المتوقف عن التكفير في مظنة العلم، بحيث يكون بتوقفه معرضا لا جاهلا، وبحيث لا يعذر إلا من كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين النص الشـرعي الدال على كفر من فعل كذا أو قال كذا، ولا يكتفى بمجرد البلوغ العام للقرآن، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين الدليل مع إزالة الشبهة والإجابة عن الدليل المعارض، وسيأتي مزيد توضيح لهذه المسألة عند الحديث عن مراتب المتوقفين.
ويستدل على التفريق بين الجهل بالشـرائع والجهل بأصل الدين أو على أن تكفير المشـركين من الشـرائع ليس من أصل الدين بعدة من الأدلة، أذكر منها:
إن جميع الأنبياء عليهم السلام بدءوا أقوامهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شـريك له، ولو أن الجهل بأحكام التكفير كفر لما تأخر بيانها عن بيان أصل الدين لحظة واحدة.
ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين ما ثبت أن من الصحابة رضي الله عنهم، من توقف في تكفير قوم وقعوا في الردة، وسموهم مسلمين، ولما نزلت الآيات التي بينت كفر هؤلاء القوم لم يستتابوا من توقفهم، بينما ثبت أن أحد الصحابة وقع في الشـرك جاهلا، ومع ذلك كفره الصحابة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه، وهذا يدل على الفرق بين من وقع في الشـرك جاهلا، وبين من جهل الشـرائع.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97، 98]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: ١٠] الْآيَةَ".(14)
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله : "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار مع تكلمهم بالإسلام".(15) انتهى كلامه.
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: كنا نذكر بعض الأمر، وأنا حديث عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، ولا تعد له».(16)
وقال ابن الوزير الصنعاني-رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: "وهذا أمر بتجديد الإسلام".(17) انتهى كلامه.
وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله- "فمن قال في الإسلام في يمينه واللات والعزى مؤكدا ليمينه بذلك على معنى التعظيم فيه: كافر حقيقة". ا.هـ(18)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- : "أخذ به -يعني حديث سعد -رضي الله عنه- طائفة من العلماء فقالوا يكفر من حلف بغير الله كفر شـرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول لا إله إلا الله، فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك، وقال الجمهور: لا يكفر كفرا ينقله عن الملة، لكنه من الشـرك الأصغر".(19) انتهى كلامه.
فلم يعذر- رضي الله عنه- في ذلك مع أنه حديث عهد بجاهلية..
ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد: ما روي أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 88 - 89]
وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(20)
وصح عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(21)
وقد روي بهذا المعنى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس -رضي الله عنهم-، وصح بنحوه مرسلا عن عدة من التابعين وهم: عكرمة، والسدي، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي رحمهم الله.
وقال الإمام الطبري -رحمه الله- في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا { [النساء: ٨٨]، قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم". (22) انتهى كلامه.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(23) انتهى كلامه.
وقال ابن أبي زمنين -رحمه الله-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـارتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}".(24) انْتَهَىٰ كَلَامُهُ رحمه الله.
ومن الأدلة أيضا: ما رجحه طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر -رضي الله عنه- كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم.
فقد صح عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لأبي بكر -رضي الله عنه- في شأن "المرتدين" : كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(25)
وقد توقف بعض أئمة السلف -في بادئ الأمر- كفر من قال بخلق القرآن، ومنهم توقف في كفر الجهمية على الرغم من شدته، فلم يكونوا بذلك كفارا، ولما تبين لهم الدليل على كفرهم لم يتوقفوا فيهم، ولم يجددوا إسلامهم لأجل ما سبق من توقفهم.
فعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: "سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: "كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القرآن: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، وَقَوْلَهُ: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120[" وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166]" .(26)
وعن ابن عمار الموصلي -رحمه الله- قال: "يقول لي ابن المديني: ما يمنعك أن تكفرهم؟! -يعني: الجهمية- قال: وكنت أنا أولا أمتنع أن أكفرهم حتى قال ابن المديني ما قال، فلما أجاب إلى المحنة، كتبت إليه كتابا أذكره الله، وأذكره ما قال لي في تكفيرهم".(27)
وبذلك نكون قد انتهينا من المسألة الأولى...
ونشـرع الآن في بيان المسألة الثانية: وهي ما هو المناط أو العلة أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.
الجواب: هو تكذيب الشـرائع وردها.
فبالنظر إلى نصوص أهل العلم في هذا الناقض يظهر جليا ما قرروه من أن مناط الكفر في المتوقف في الكافر يرجع إلى تكذيب الشـرائع وردها، لا من جهة انتقاض أصل الدين.
وقد تتابع أكثر أهل العلم على ذكر هذا المناط بناء على أن الكفر إنما يكون بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها، أو بإنكار المعلوم من الدين ضـرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضـرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها ونحو ذلك". ا.هـ(28)
* وإليكم بعض ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم الذين نصوا على مناط كفر المتوقف في الكافر:
فقد علل القاضـي عياض تكفير المتوقف في اليهود والنصارى ومن فارق دين الإسلام بما نقله عن الباقلاني، قال: "لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف، أو شك فيه، والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر".(29) انتهى كلامه.
وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله- في تكفير الشاك في عابد الصنم ومن لم يكفره: "ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة". (30) انتهى كلامه.
وعلل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تكفير من قال: (أن من شهد الشهادتين لا يجوز تكفيره ولو عبد غير الله)، فقال: "لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله، وإجماع المسلمين". (31) انتهى كلامه
وقال بعض أئمة الدعوة النجدية: "فإن الذي لا يكفر المشـركين غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشـركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم".(32) انتهى كلامهم.
ونكتفي بهذا القدر، وإلى لقاء آخر في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى...
ونسأل الله تعالى العون والتوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا...
• ( الْحَلَقَةُ الرابعة )
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
فهذه حلقة نتناول فيها الحديث -بعون الله تعالى- عن مسألتين:
الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب...
والثانية: نذكر فيها مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...
ونشـرع الآن في المسألة الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب؟
• والجواب: نص أهل العلم على أن التكفير حكم شـرعي له مراتب بحسب أمرين:
فالأول: قوة ثبوته في الشـرع؛ أي وضوح وظهور الدليل الشـرعي على كفر فلان من الناس، وهو ما يعرف بمعرفة الحكم...
والثاني: قوة ثبوته على المعين الذي وقع في الشـرك أو الكفر، وهو ما يسمى بمعرفة الحال، ويكون من خلال الرؤية أو السماع أو شهادة الشهود...
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية، فتارة يدرك بيقين، وتارة يدرك بظن غالب، وتارة يتردد فيه، ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ".(1) انتهى كلامه رحمه الله.
وذلك بخلاف من زعم أن جميع صور الكفر أو الشـرك على مرتبة واحدة؛ بحيث يستوي في إدراكها العالم والجاهل، ولا شك في بطلان هذا القول، ومخالفته لما قرره أهل العلم في هذا الشأن، بل ومخالفته للنصوص التي دلت على أن الكفر بعضه أشد من بعض.
قَالَ تَعَالَىٰ: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97].
أما المسألة الثانية: وهي مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...
فنقول: إن للمتوقفين في المشـركين مراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك...
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس: كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر: فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه". (2) انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل كلامه؛ كيف أنه جعل للمتوقف في هؤلاء الطواغيت أحوالا أقلها الفسق، وهذا يؤكد على أن للمتوقفين في المشـركين أحوالا ومراتب.
* وهذه المراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك بغض النظر عن شدته؛ فقد يكون الشـرك أشد في حال من الأحوال، ولكنه في الظهور أقل مما هو أخف منه شدة.
مثال ذلك: شـرك عباد الأصنام مع شـرك الجهمية؛ فالحكم بتكفير المتوقف في عباد الأصنام أقوى من الحكم بتكفير المتوقف في الجهمية؛ وذلك لأن عبادة الأصنام أشد ظهورا من التجهم، مع أن التجهم أشد شـركا.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فإن المشـرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله... فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد، يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟ فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له".(3)
وقال أيضا رحمه الله: "فشـرك عباد الأصنام والأوثان والشمس والقمر والكواكب خير من توحيد هؤلاء بكثير، فإنه شـرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات، وتوحيد هؤلاء تعطيل لربوبيته وإلهيته وسائر صفاته، وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشـرك، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شـركا".(4) انتهى كلامه رحمه الله.
بناء على ما سبق؛ سنذكر مراتب المتوقفين في المشـركين أو الكفار بناء على ظهور الأدلة على كفرهم وشهرتها، معتمدين على نصوص أهل العلم في ذلك:
المرتبة الأولى- من توقف فيمن علم كفره بالضـرورة من دين أهل الملل، فمن ذلك:
أولا: من توقف في إبليس أو فرعون أو مدع الإلهية لنفسه أو لغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من لم يكفر فرعون: "وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل؛ المسلمين واليهود والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بـالله". (5) انتهى كلامه رحمه الله.
ثانيا: من توقف في عباد الأصنام، ولو انتسبوا للإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من صحح عبادة الأصنام: "ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام".(6) انتهى كلامه.
وقال ابن الوزير الصنعاني رحمه الله: "ولا شك أن من شك في كفر عابد الأصنام وجب تكفيره، ومن لم يكفره، ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة".(7) انتهى كلامه.
وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.
المرتبة الثانية- من توقف فيمن علم كفرهم بالضـرورة من دين المسلمين خاصة؛ كمن توقف في اليهود والنصارى، أو كل من فارق دين الإسلام.
قال القاضـي عياض رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم".(8) انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن لم يحرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم بـاتفاق المسلمين". (9) انتهى كلامه.
وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.
المرتبة الثالثة- من توقف فيمن ينتسب للإسلام ووقع في شـرك أو كفر مجمع على كفر من وقع فيه، وهؤلاء على مراتب:
الأول من المرتبة الثالثة: من لم يكن له تأويل؛ فإنه إما أن يقتصـر على تبيين الحال له، وإما أن يقتصـر على تبيين حكم الشـرع فيهم، وإما أن تبين له حالهم ويبين له حكم الشـرع فيهم، وهذا بناء على ظهور الشـرك وظهور حال المتوقف فيهم؛ فإن توقف بعد ذلك فهو كافر، وأما إن كان حالهم ظاهرا، وحكم الشـرع فيهم ظاهرا؛ فيحكم بكفر المتوقف من غير تبيين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم: عرف حالهم؛ فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم".(10) انتهى كلامه.
* فـانظر هنا كيف اقتصـر شيخ الإسلام في تكفير المتوقف في هذه الطائفة على تعريفه بحالهم.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله في بعض مرتدي زمانه: "فإن كان شاكا في كفرهم أو جاهلا بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء على: أن من شك في كفر الكافر فهو كافر".(11) انتهى كلامه رحمه الله.
* نلاحظ هنا أن الشيخ سليمان اشترط تبيين الحكم الشـرعي للمتوقف قبل تكفيره.
وقال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله فيمن قال بخلق القرآن: "ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر، ومن كان جاهلا علم؛ فإن أذعن بالحق بتكفيره وإلا ألزم الكفر". (12) انتهى كلامه رحمه الله.
* في هذه الصورة اشترط أبو حاتم تعليم المتوقف قبل تكفيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الحلولية: "ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر؛ كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشـركين".(13) انتهى كلامه.
* أما في هذه الصورة فقد اشترط تعريف الحال والحكم الشـرعي معا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "طائفة الدروز": "كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون؛ بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم". (14) انتهى كلامه.
* ونلاحظ في هذه الصورة أنه لم يشترط في تكفير المتوقف تبيين الحال، ولا تبيين الحكم؛ وذلك لظهور حال تلك الطائفة، وظهور الأدلة على كفرهم.
والقسم الثاني من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول فاسدة فتأول؛ فيؤثر في الحكم عليه شدة ظهور كفر المعين أو الطائفة، ففي حال شدة ظهور الكفر يعتبر كافرا معاندا متسترا بتأويله، وفي حالات أخرى اختلف بين تفسيقه وتكفيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "وأما من قال: (لكلامهم تأويل يوافق الشـريعة)؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى؛ فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلا، كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد".(15)
وقال أيضا رحمه الله: "وعنه -أي الإمام أحمد- في تكفير من لا يكفر روايتان؛ -يعني في تكفير من لم يكفر الجهمية- أصحهما لا يكفر".(16) انتهى كلامه.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: "نظرت في كلام اليهود، والنصارى، والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم -يعني الجهمية-، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم".(17) انتهى كلامه رحمه الله.
والظاهر من قول الإمام البخاري أنه يذهب إلى عدم تكفير المتوقف في الجهمية؛ كإحدى الروايتين عن أحمد.
وقال المرداوي رحمه الله: "وذكر ابن حامد في أصوله كفر الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، وقال: "من لم يكفر من كفرناه فسق وهجر، وفي كفره وجهان"، والذي ذكره هو وغيره من رواة المروذي، وأبي طالب، ويعقوب، وغيرهم: أنه لا يكفر -إلى أن قال:- وقال في إنكار المعتزلة استخراج قلبه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسـراء وإعادته: في كفرهم به وجهان، بناء على أصله في القدرية الذين ينكرون علم الله وأنه صفة له، وعلى من قال: لا أكفر من لا يكفر الجهمية".(18) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة -يعني الذين يفضلون عليا على سائر الصحابة بلا طعن فيهم- ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافا عنه أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشـريعة". (19) انتهى كلامه رحمه الله.
والقسم الثالث من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول صحيحة فتأول؛ كما جاء في خطأ بعض الصحابة رضي الله عنهم في تكفير بعض المرتدين؛ حيث بين الله تعالى خطأ من توقف، ولم يحكم عليهم بكفر.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] الآية".(20)
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار، مع تكلمهم بالإسلام".(21) انتهى كلامه.
وروي أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88].
وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(22)
وصح عن مجاهد رحمه الله، أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(23)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شـيء، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] الآية". (24)
وقال الإمام الطبري رحمه الله في تأويل قوله تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم".(25) انتهى كلامه رحمه الله.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(26) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال ابن أبي زَمَنِين رحمه الله -وهو من أئمة أهل السنة-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـرتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله -تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88]".(27) انتهى كلامه رحمه الله.
ورجح طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر رضي الله عنه كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم؛ فقد صح عن عمر رضي الله عنه، أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه في شأن "المرتدين": كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(28)
* والحكم في هذه الحال: أن المتوقف لا يكفر ابتداء، بل يحكم عليه بالخطأ، وهذا الحكم مبني على أن التكفير من الأحكام الشـرعية، وأن حكم المجتهد المخطئ فيه كحكم غيره ممن أخطأ في المسائل الشـرعية، فإذا بينت له الأدلة وانقطع تأويله ثم توقف بعد ذلك فهو كافر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة: هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين والجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه".(29) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "ثم لو قدر أن أحدا من العلماء توقف عن القول بكفر أحد من هؤلاء الجهال المقلدين للجهمية، أو الجهال المقلدين لعباد القبور، أمكن أن نعتذر عنه بأنه مخطئ معذور، ولا نقول بكفره لعدم عصمته من الخطأ، والإجماع في ذلك قطعي".(30) انتهى كلامه.
المرتبة الرابعة- من توقف فيمن وقع في كفر أو شـرك، وكان سبب توقفه غرضا شـرعيا مباحا، فمن ذلك:
1- من توقف فيمن وقع في نوع شـرك أو كفر مختلف في أنه مخرج من الملة؛ كترك الصلاة.
2- ومن ذلك من توقف فيمن انتسب للعلم الشـرعي بغرض الدفع عن تكفير علماء المسلمين.
وحكم المتوقف في هاتين الصورتين أنه مجتهد مأجور بإذن الله؛ إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشـرعية؛ حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصـرا لأخيه المسلم: لكان هذا غرضا شـرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد". (31) انتهى كلامه.
* وههنا سؤال مهم، وهو: أين مرتبة المتوقف في عباد القبور من هذه المراتب؟
• والجواب أن مرتبة المتوقف في القبورية تختلف بحسب ظهور الشـرك أو الاعتقاد في صاحب القبر، ولا شك أن منها ما يماثل عبادة الأصنام أو يزيد عليها، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما يقتصـر على الابتداع في الدين ولا يبلغ الشـرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمراتب في هذا الباب ثلاث:
إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصـرني على عدوي، ونحو ذلك فهذا هو الشـرك بالله...
* وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي؛ كما يفعله طائفة من الجهال المشـركين..
* وأعظم من ذلك: أن يسجد لقبره ويصلي إليه، ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص، والكعبة قبلة العوام..
* وأعظم من ذلك: أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول: (إن السفر إليه مرات يعدل حجة)، وغلاتهم يقولون: (الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة)، ونحو ذلك؛ فهذا شـرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه..
الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا؛ كما تقول النصارى لمريم وغيرها؛ فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة...
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شـيء من مصائب الدنيا والدين؛ ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته؛ فإن ذلك في حياته لا يفضـي إلى الشـرك، وهذا يفضـي إلى الشـرك..
الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه".(32) انتهى كلامه رحمه الله.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى التوفيق والعون والسداد، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 هـ