رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (83)- ملامح يقظتنا

وكان نذير الاستشراق يومئذ يحذر المسيحية الشمالية من هذه اليقظة المخوفة العواقب، يقظة اللغة على يد الشيخين الكبيرين البغدادي والزبيدي وتلاميذهما، ويقظة علوم الحضارة على يد الشيخ الجبرتي الكبير وتلاميذه. يقظة في ديار تضم أقدم بيتين من بيوت العلم على ظهر الأرض، عاشا جميعًا متواصلين 12 قرنًا موئلًا للعلم والعلماء، هما الجامع العتيق بالفسطاط (جامع عمرو بن العاص) والجامع الأزهر بالقاهرة، وهما اسمان يترددان في أرجاء دار الإسلام من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب. فاليقظة التي تأتي من قبلهما سوف تؤدي إلى يقظة دار الإسلام كلها، بما فيها اليقظة المتفجرة المتحركة الجديدة في جزيرة العرب. فإذا تم اندماج اليقظتين فلا يعلم إلا الله كيف يكون النصير؟ 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (81)- نذير الاستشراق

ففي ذلك الوقت جاءهم النذير، نذير الاستشراق للمسيحية الشمالية بالخطر المدلهم الذي تهددهم به يقظة دار الإسلام بقيام محمد عبد الوهاب في جزيرة العرب، وظهور الجبرتي الكبير، في مصر هو الزبيدي ومن قبله البغدادي. كان نذير الاستشراق مروعًا وحاسمًا حثيثًا إلى سواحل جزيرة العرب الشرقية، وبالدهاء والمكر والدسائس جاءت في زي الناصر والمعين لتتدسس إلى يقظة ابن عبد الوهاب، يقظة تنقية الدين مما تراكم عليه من البدع المفسدة لعقيدة التوحيد، لتتخذ بذلك عندها يدًا، وبهذه اليد تسيطر عليها وتحتويها، وأبعدت إنجلترا الرحلة من ناحية اخرى، تؤلب عليها من حولها لتطوقها تطويقًا يحول بينها وبين الانتشار. وهذا هو أسلوب بريطانيا حيث حلت من الأرض. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (79)- الاستشراق عين الاستعمار

الاستشراق كما رأيت قبل هو عين الاستعمار التي بها يبصر ويحدق، ويده التي بها يحس ويبطش، ورجله التي بها يمشي ويتوغل، وعقله الذي به يفكر ويستبين، ولولاه لظل في عميائه يتخبط. ومن جهل هذا فهو ببدائه العقول ومسلماتها أجهل. فلما فزع الاستشراق فزعت معه كل المسيحية الشمالية ودولها التي كانت أساطيلها تطوق دار الإسلام من أطرافها البعيدة، وتتوغل بسيطرتها على سواحلها، متحسسة طريقها إلى قلب هذه الدار المترامية الأطراف، بالدهاء وبالمكر وبالخديعة، وبالتنمر أحيانًا حين يتطلب الأمر التنمر والترويع.

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (78)- يقظتنا ويقظتهم (5)

وببديهة العقل، لم يكن للمسيحية الشمالية يومئذ خيار، طريق واحد لا غير، هو العمل السريع المحكم، واهتبال الغفلة المحيطة بهذه اليقظة الوليدة، كما حدثتك آنفًا، ومعاجلتها في مهدها قبل أن يتم تمامها ويستفحل أمرها، وتصبح قوة قادرة على الصراع والحركة والانتشار، فأن تم ذلك، فما هو إلا أن تعود الحرب بين الشمال والجنوب جذعة، وعندئذ لا يضمن أحد مغبة الصراع المشتعل بين سلاحين متكافئين، وثقافتين متكاملتين. لا يضمن أحد لأي الفئتين تكون الدولة والغلبة والسيادة ومرة أخرى أقول لك: لا تنظر الآن إلى الفرق الهائل الكائن اليوم بين الشمال المسيحي والجنوب الإسلامي. ولعلم الاستشراق يومئذ بهذه الحقيقة، كان فزعهم الأكبر. لا تنس هذا أبدًا، وكن على حذر من الضلال، ومن التضليل والتغرير الذي تعج به اليوم حياتنا هذه الأدبية الفاسدة، وألسنتها الثرثارة المتشدقة بأوهام (الأصالة والمعاصرة) و (القديم والجديد) و (الثقافة العالمية)، وبالقضية الهزلية: قضية موقفنا من الغرب! ياله من عار فاضح! وياله من عبث رزين متعاقل!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (77)- يقظتنا ويقظتهم (4)

وعلى عادة المستشرقين التي حدثتك عنها، وهو حملة هموم المسيحية الشمالية، والذادة عنها وحماتها المستبسلون، هبوا هبة الفزع من هذه اليقظة، فتسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة مما هو جار تحت أعينهم في دار الإسلام. ووضعوه بينًا جليًا، مشفوعًا بمخاوفهم وملاحظتهم ونصحهم وإرشادهم، تحت أبصار ملوك المسيحية الشمالية وأمرائها ورؤسائها وقادتها وساستها ورهبانها، وبصروهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه اليقظة الوليدة التي بدأت تنساح في أرجاء دار الإسلام. وتناجوا بينهم نجوى طويلة، يقلبون النظر في أهدافهم ووسائلهم، وتبينوا الخطر الداهم الذي جاء يتهددهم، إذا ما تمت هذه اليقظة واشتد عودها، واستقامت خطواتها على الطريق اللاحب. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (76)- يقظتنا ويقظتهم (3)

كان المستشرقون منذ نأنأة الاستشراق وإلى هذا اليوم  يجوبون دار الإسلام من أطرافها إلى قلبها، يلاقون الخاصة من العلماء، ويخالطون عامة المثقفين والدهماء، وفي قلوبهم حمية الحقد المكتم، وفي النفوس العزيمة المصممة، وفي العيون اليقظة، وفي العقول التنبه، وفي الوجوه البشر والبراءة، وفي الألسنة الحلاوة والتملق، ولبسوا لجمهرة المسلمين كل زي، وتوغلوا يستخرجون كل مخبوء، وكانت بلادهم يومئذ قريبة عهد بعصر النهضة وعصر اليقظة وعصر الإحياء، فهم على أتم معرفة بأسرار اليقظة كيف تبدأ وإلى أين تنتهى، فأدركوا إدراكًا واضحًا لا لجاجة فيه أن ما كان يجري في دار الإسلام منذ منتصف القرن الـ 11 الهجري، إلى منتصف القرن الـ 12 الهجري، إنما هو يقظة حقيقية، ونهضة كاملة، وإحياء صحيح، منبثق كله من ينبوع صافٍ عتيقٍ، طمست معالمه كر الدهور والقرون، هو جميعه في حوزة دار الإسلام، وهم في يقظتهم هذه يومئذ عالة عليه، ولا يستقون إلا من ثماده بعد جهد جهيد، فوجفت قلوبهم ورجفت من هول ما هم مقبلون عليه، إذا تمت لدار الإسلام اليقظة، واستوت وبلغت أشدها، واستقامت خطواتها على سنن الطريق!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (52)- والاستشراق لا يذم!

والاستشراق لا يذم لأنه فعل كل ذلك، لأنه بلا شك قد أدى ما عليه لبني جلدته أحسن أداء وأتمه، ونصر أهل دينه وأخلص لهم كل الإخلاص، وكافح في سبيل هدفه بكل سلاح أجاد صقله وتقويمه، أما الذي هو حقيق بالذم والمعابة، فالعاقل الذي يظن نفسه عاقلًا، والبصير الذي يظن نفسه بصيرًا، ثم لا يكاد عقله يدرك شيئًا هو أبين بيانًا من البدائه المسلمة، ولا يكاد بصره يرى ما هو أظهر ظهورًا من الشمس الساطعة!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (51)- حماية عقل الأوربي المثقف

وبين لك الآن بلا خفاء أن كتب الاستشراق ومقالاته ودراساته كلها، مكتوبة أصلًا للمثقف الأوربي وحده لا لغيره، وأنها كتبت له لهدف معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوربي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التى يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب. وأن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها، ينظر بها إلى صورة واضحة المعالم لهذا العالم العربي الإسلامي وثقافته وحضارته وأهله، وأن يكون قادرًا على خوض ما يخوض فيه، وفي عقله وفي قلبه وفي لسانه وفي يقينه وعلى مد يده، معلومات وافرة يثق بها ويطمئن إليها ويجادل عليها، دون أن تضعف له حمية، أو تلين له قناة، أو يتردد في المنافحة عنها أو يتلجلج، أيا كان الموضوع الذي تدفعه المفاوضة إلى الخوض فيه. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (47)- الصورة الوثيقة المأمونة (1)

وبديهي أن يكون المستشرقون، كما عرفت صفتهم، هم أسبق الناس إلى معرفة هذه الحاجة الملحة التي تضمن للزحف الأكبر على دار الإسلام أن يسير على هدى لا يختل ولا يضل، ويعصم أكبر قدر ممكن من أشتات الزاحفين، حين يدخل دار الإسلام ليطول مقامهم بها، ويجري بينهم وبين من يخالطهم ما يجري بين الناس من التفاوض وتجاذب الأحاديث، يعصمه أن ينبهر بما يرى أو يسمع، أو أن تضعف حميته، أو تلين قناته، أو يتردد ويتلجلج. لا بد إذن من أساس يرتكز عليه تفكيره، ومن صورة سابقة شاملة ثابتة ينبثق بها ويطمئن إليها، ويثق أيضًا بصدقها وأمانتها، حتى يتمكن من أن يرفض أكثر ما يرى وما يسمع، إذا هو خالف ما يعتقد أنه الصورة الوثيقة المأمونة التى سوغه إياها دارس عارف بأحوال هؤلاء الناس. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (44)- دوائر المعارف الإسلامية

وما هو إلا قليل حتى كان تحت يد الاستشراق آلاف مؤلفة من مخطوطات من كتب دار الإسلام نفيسة منتقاة، مشتراه أو مسروقة، موزعة مفرقة في جميع أرجاء أوربة وأديرتها ومكتباتها وجامعاتها. ولما كانت هذه المخطوطات التي يعكف نفر منهم على دراستها متفرقة في البلاد، حبيسة تحت يد عدد قليل جدًا، قد يكون رجلًا واحدًا في قرية أو دير، عمدوا إلى نشر بعضها مطبوعة. ولكي تكون الفائدة أكثر تمامًا والجهد أكثر جدوى، أنشأوا أيضًا مجلات بكل لسان من ألسنتهم، ينشر فيها كل مستشرق نتائج بحثه ودراسته، لتكون عونًا لكل دارس مستشرق وغير مستشرق، وهي مجلات الدراسات الإسلامية أو الشرقية. بل سمت همتهم فبدأوا في صناعة جماهر الإسلام التي يسمونها (دوائر المعارف الإسلامية)، وكذلك أصبح الاستشراق في أوربة كلها هيئة واحدة، لها هدف واحد، ونظام واحد، وفهم واحد، وأسلوب واحد، ونظر مشترك واحد، إلى حضارة دار الإسلام قديمها وحديثها. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (39)- لا تفرق قط بين أحد منهم!

همي هنا مصروف إلى (الإستشراق) لعلاقته الحميمة بفساد حياتنا الأدبية والاجتماعية، ولأن حاجة (التبشير) و(الاستعمار) إليه، حاجة كانت ملحة، وهي إلى اليوم حاجة دائمة، لا يستغنيان عنه ولا عن نصائحه وإرشاداته وملاحظاته طرفة عين. ومرة أخرى، لا تنس ما حييت أن هذه الثلاثة إخوة أعيان لأب واحد وأم واحدة، لا تفرق قط بين أحد منهم! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (37)- المستشرقين

ومن يومئذ نشأت هذه الطبقة من الأوربيين الذي عرفوا فيما بعد باسم (المستشرقين) وهم أهم وأعظم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوربية، لأنهم جند المسيحية الشمالية، الذين وهبوا أنفسهم للجهاد الأكبر، ورضوا لأنفسهم أن يظلوا مغمورين في حياة بدأت تموج بالحركة والغنى والصيت الذائع، وحبسوا أنفسهم بين الجدران المخفية وراء أكداس من الكتب، مكتوبة بلسان غير لسان أممهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كل اللهيب الممض الذي في قلب أوربة، والذي أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام، ولكن لا هم لهم ليلًا ولا نهارًا إلا حيازة كنوز علم دار الإسلام بكل سبيل، تتوهج أفئدتهم نارًا أعتى من كل ما في قلوب رهبان الكنيسة، ولكنهم كانوا يملكون من القدرة الخارقة أن يخالطوا أهل الإسلام في ديارهم، وعلى وجوههم سيمياء البراءة واللين والتواضه وسامة طوية البشر.

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً