رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (23)- إصلاح الخلل

ومضى نحو قرن ونصف من الحملات الصليبية، وأصبح الأمر أشد حرجًا، وصار بينا أن الحرب الصليبية توشك أن تؤوب بالإخفاق مرة أخرى. فانبعث منهم رجال يطلبون العلم والمعرفة في أرض الإسلام ما استطاعوا، في المشرق وفي الأندلس، وظهر رجال من طبقة "روجر بيكن" الإنجليزي، ممن شاموا العرب والعربية، وجاهدوا في التعلم جهاد المستميت بصبر ودأب، ليزيحوا عن أنفسهم وأهليهم غوائل الجهل. وهب رجال من الرهبان ذوي الحمية أحسوا بالخلل الواقع في الحياة المسيحية التي لم تحم رعاياهم من التساقط السهل في الإسلام على طول قرون، هبوا   لإصلاح هذا الخلل. فكان من أكبرهم رجل ذكي متوقد، جاهد جهادًا عظيمًا في سبيل دينه، أراد أن يزيل جهالة الرهبان والملوك، ويمكن لهم حجة مقنعة تحول بينهم وبين هذا الانبهار بالإسلام وثقافته وحضارته. ذلك الرجل هو "توما الإكويني" الإيطالي الكاثوليكي، وبذكائه وحميته وإخلاصه، استطاع أن يفهمه ويظفر به من كتاب الإسلام وعلمائه وفلاسفته ومتكلميه، كابن رشد وابن سينا وغيرهم، مريدًا بكل ذلك إصلاح الخلل الواقع في الحياة المسيحية. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (10)- الأصل الأخلاقي (1)

والحديث عن الأصل الأخلاقي في كل ثقافة يطول ويتشعب، ولكن من المهم أن تعلم أنه ليس قواعد عقلية ينفرد العقل بتقريرها ابتداءً من عند نفسه، لأن القواعد العقلية مهما بلغت من القوة والسيطرة لا تستطيع أن تقوم بهذا العبء، لسبب لا يمكن إغفاله في مثل هذه القضية، وهذا السبب هو أن الأمر كله متعلق بالإنسان نفسه. وكل إنسان صندوق مغلق، فيه من الطبائع والغرائز والأهواء المتنازعة بين الخير والشر، وفيه أيضًا من القوة والضعف، مقادير مختلفة لا تكاد تضبط أحوالها وآثارها، ولا يكاد يضبط تقلبها تقلبًا يفضي إلى حيرة في شأن صاحبها. فالظابط في هذا الموج المتلاطم المتصادم في الصندوق المغلق لا بد أن يكون كامنًا في سريرة الإنسان نفسه. فالقواعد العقلية المجردة لا تكاد تقوم بهذا العبء كله، بل العقائد وحدها هي صاحبة هذا السلطان على الإنسان. ولذلك قلت إن هذا الظابط الرقيب يأتي من قبل الثاقفة ورأس الثقافة الدين. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (71)- ما بعد فتح القسطنطينية (2)

يومئذ كان قد مضى على فتح القسطنطينية قرنان، 200 عام.. ويومئذ آنس قلب دار الإسلام ركزًا خفيًا فأرهف له سمعه. سمع نقيض أركان دار الخلافة وهي تتقوض، فتوجس توجسًا غامضًا لشر مستطير آت لا يدري من أين؟ فهب من جوف الغفوة الغامرة أشتات من رجال أيقظتهم هذه التقوض، فانبعثوا يحاولون إيقاظ الجماهير المستغرقة في غفوتها. رجال عظام أحسوا بالخطر المبهم المحدق بأمتهم، فهبوا بلا تباطؤ بينهم. كانوا رجالًا أيقاظًا مفرقين في جنبات أرض مترامية الأطراف، متباعدة أوطانهم، لا يجمعهم إلا هذا الذي توجسوه في قرارة أنفسهم مبهمًا من خطر محدق. أحسوا خطرًا فراموا إصلاح الخلل الواقع في حياة دار الإسلام: خلل اللغة وخلل العقيدة وخلل علوم الدين وخلل علوم الحضارة. وبأناة وصبر عملوا وألفوا وعلموا تلاميذهم، وبهمة وجد أرادوا أن يدخلوا بالأمة في عصر النهضة. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (70)- ما بعد فتح القسطنطينية (1)

غبر ما غبر، ودخلت دار الإسلام في سنة لذيذة أورثتها نشوة النصر المؤزر، ودخلت أوربة كلها في عزيمة حاسمة لترد عن عرضها العار، وبلغ السيل الزبي، فكانت يقظة محسوسة في جانب، وغفوة لا تحس في جانب، وشال الميزان، وانطلقت الأساطيل الأوربية تطوق دار الإسلام من أطرافها البعيدة، فإذا دار الإسلام محصورة في الجنوب، بعد أن كانت حاصرة المسيحية في الشمال، وشيئًا فشيئًا فقدت دار الخلافة في القسطنطينية هيبتها وسيطرتها، وصارت لأوربة هيبة مرهوبة وسيطرة!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (68)- النظر إلى أمر المستشرق (3)

المستشرق الناشئ في لغة وفي ثقافة أخرى قد رسخت في نفسه وعقله، وهي بطبيعتها مصبوغة صبغة شديدة في اليهودية والمسيحية. وهما ملتان تباينهما ملة الإسلام مباينة تبلغ حد الرفض والمناقضة. وثقافته هذا تنازعه حيث ذهب في البحث والدرس، فممكن أن يناقش ثقافة الإسلام، ممكن، لأن هذا من حقه، ولكنه مستحيل كل الاستحالة أن يكون في ثقافتنا باحثًا أو دارسًا يبدي رأيًا يستحق النظر والاحترام، في قرآنها وحديثها وتتفسيرها وفي تفسير شعائرها، وفي تاريخها وفي آدابها ولغتها وشعرها إلى آخر ما ذكرته آنفًا، مستحيل، لأنه ممتنع عليه امتناعًا لا يملك الفرار منه. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (69)- النظر إلى أمر المستشرق (4)

وظاهر من كل ما كتبته آنفًا أن الاستشراق من فرع رأسه إلى أخمص قدميه، غارق في الأهواء. والثقافة الأوربية والحضارة الأوربية تستقبل الأهواء بلا نكير ولا أنفة، بل هي تسوغ استعمال رذيلة الأهواء في الدنيا وفي الناس بلا حرج، لأنها حضارة قائمة على المنفعة والسلب ونهب الأمم وإخضاعها بكل وسيلة لسلطانها المتحضر! فهي توسغ ذلك في العلم وفي الثقافة وفي السايسة وفي الدين في كل شيء، بل تسوغها أيضًا في الدعوى الغريبة العجيبة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأمم، دعوى أنها حضارة عالمية، وفحواها أن العالم كله ينبغي أن يخضع لسلطانها وسيطرتها، ويتقبل برضى غطرستها وفجورها الغني الأخاذ الفاتن! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (67)- النظر إلى أمر المستشرق (2)

ولكن المستشرق، وإن يكن قد فعل الأمرين جميعًا خدمة لأمته، فإنه قد جاء فدخل مدخلًا آخر من غير هذين البابين، ودخوله في الباب الثالث هو موضع النزاع بيننا وبينه، دخل لا مستفيدًا ولا مناقشًا، دخل باحثًا ودارسًا عليه طليسان العلم في ميدان المنهج وما قبل المنهج، وهو ميدان له شروط لازمة لا تختل. دخل في لغة هو فيها هجين كل الهجنة، وفي ثقافة هو غريب عنها كل الغربة. ودخوله هو عمل مستشنع فيي ذاته، لأنه اجتراء على دخول هذا الميدان بغير حقه، ولا يسمح بمثله في ثقافة أمته هو نفسه، لأنه لا يملك شيئًا ذا بال من مسوغاته. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (66)- النظر إلى أمر المستشرق (1)

فعندئذ يفضي بك النظر إلى أمر المستشرق، فهو حين ينظر إلى ثقافة أمة أخرى غير أمته، إنما ينظر فيها لأحد الأمرين: إما أن ينظر فيها ليكسب منها شيئًا لأمته وثقافته، وإما أن ينظر فيها ليناظر ويناقش. وكلا الأمرين حق لا ينازعه فيه منازع. وفي كلا الأمرين هو واقع في مأزق ضيق: مأزق اللغة ومأزق الثقافة. لا يستطيع أن يأخذ إلا على قدر ما فهم من لغة غريبة أصلًا عن لغته، ولا يستطيع أن يناقش إلا على قدر ما يتصور أنه استبانه وأدركه من ثقافة غريبة عن ثقافته. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (64)- الثقافة واللغة غير قابلين للفصل

والثقافة في كل أمة وكل لغة هي حصيلة أبنائها المثقفين بقدر مشترك من أصول وفروع، كل مغموس في الدين المتلقى عند النشأة. فهو لذلك صاحب السلطان المطلق الخفي على اللغة وعلى النفس وعلى العقل جميعًا، سلطان لا ينكره إلا من لا يبالي بالتفكر في المنابع الأول التي تجعل الإنسان ناطقًا وعاقلًا ومبينًا عن نفسه، ومستبينًا عن غيره. فثقافة كل أمة مرآة جامعة في حيزها المحدود كل ما تشعث وتشتت وتباعج من ثقافة كل فرد من أبنائها على اختلاف مقاديرهم ومشاربهم ومذاهبهم ومداخلهم ومخارجهم في الحياة. وجوهر هذه المرآة هو اللغة ةالدين كما أسلفت، متداخلان تداخلًا غير قابل للفص البتة. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (65)- الثقافة العالمية

فباطل كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه،  ثقافة يمكن أن تكون ثقافة عالمية، أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعًا على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم. فهذا تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم، هدف آخر يتعلق بفرض سيطرة أمة غالبة على أمم مغلوبة، لتبقى تبعًا لها. فالثقافات متعددة بتعدد الملل، ومتميزة بتميز الملل، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من الدين الذي تدين به لا محالة. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (62)- في الطريق إلى الثقافة (3)

ولذلك، فكل ما يتلقاه الوليد الناشئ في مجتمع ما، من لغة ومعرفة يمتزج امتواجًا واحدًا في إناءٍ واحدٍ، ركيزته أو نواته دين أبويه ولغتهما، وأبلغهما أثرًا هو الدين. فالوليد في نشأته يكون كل ما هو لغة أو معرفة أو دين متقبلًا في نفسه تقبل الدين، أي يتلقاه بالطاعة والتسليم والاعتقاد الجازم بصحته وسلامته. ويظل حال الناشئ يتدرج على ذلك، لا يكاد يتفصى شيء من معارفه من شيء حتى يقارب حد الإدراك والإستبانة، ولكنه لا يكاد يبلغ هذا الحد حتى تكون لغته ومعارفه جميعًا قد غمست في الدين وصبغت به. وعلى قدر شمول الدين لشؤون حياة الإنسان، وعلى قدر ما يحصل منه الناشئ، يكون أثره بالغ العمق في لغته التي يفكر بها، وفي معارفه التي ينبني عليها مل ما يوجبه عمل العقل من التفكير والنظر والاستدلال. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (61)- في الطريق إلى الثقافة (2)

ولأن الإنسان منذ مولده قد استودع فطرة باطنة بعيدة الغور في أعماقه، توزعه أن يتوجه إلى عبادة رب يدرك إدراكًا مبهمًا أنه خالقه وحافظه ومعينه، فهو لذلك سريع الاستجابة لكل ما يلبي حاجة هذه الفطرة الخفية الكامنة في أغواره. وكل ما يلبي هذه الحاجة، هو الذي هدى الله عباده أن يسموه الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يكون شيء من ذلك واضحًا في عقل الإنسان إلا عن طريق اللغة لا غير، لأن العقل لا يستطيع أن يعمل شيئًا فيما نعلم إلا عن طريق اللغة. فالدين واللغة منذ النشاة الأولى متداخلان تدخلًا غير قابل للفصل، ومن أغفل هذه الحقيقة ضل الطريق. هذا شأن كل البشر على اختلاف مللهم وألوانهم، لا تكاد تجد أمة من خلق الله ليس لها دين بمعناه، كتابيًا أو وثنيًا أو بدعًا. 

معلومات

اللأديب الناقد المحقق الشهير العلم إمام العربية وحامي حماها الشيخ أبو فهر محمود محمد شاكر ابن الشيخ محمد شاكر قاضي القضاة الشرعيين في مصر وأخو الشيخ العلامة محدث الديار المصرية أحمد محمد شاكر رحمهم ال

أكمل القراءة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً