رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (62)- في الطريق إلى الثقافة (3)

ولذلك، فكل ما يتلقاه الوليد الناشئ في مجتمع ما، من لغة ومعرفة يمتزج امتواجًا واحدًا في إناءٍ واحدٍ، ركيزته أو نواته دين أبويه ولغتهما، وأبلغهما أثرًا هو الدين. فالوليد في نشأته يكون كل ما هو لغة أو معرفة أو دين متقبلًا في نفسه تقبل الدين، أي يتلقاه بالطاعة والتسليم والاعتقاد الجازم بصحته وسلامته. ويظل حال الناشئ يتدرج على ذلك، لا يكاد يتفصى شيء من معارفه من شيء حتى يقارب حد الإدراك والإستبانة، ولكنه لا يكاد يبلغ هذا الحد حتى تكون لغته ومعارفه جميعًا قد غمست في الدين وصبغت به. وعلى قدر شمول الدين لشؤون حياة الإنسان، وعلى قدر ما يحصل منه الناشئ، يكون أثره بالغ العمق في لغته التي يفكر بها، وفي معارفه التي ينبني عليها مل ما يوجبه عمل العقل من التفكير والنظر والاستدلال. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (61)- في الطريق إلى الثقافة (2)

ولأن الإنسان منذ مولده قد استودع فطرة باطنة بعيدة الغور في أعماقه، توزعه أن يتوجه إلى عبادة رب يدرك إدراكًا مبهمًا أنه خالقه وحافظه ومعينه، فهو لذلك سريع الاستجابة لكل ما يلبي حاجة هذه الفطرة الخفية الكامنة في أغواره. وكل ما يلبي هذه الحاجة، هو الذي هدى الله عباده أن يسموه الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يكون شيء من ذلك واضحًا في عقل الإنسان إلا عن طريق اللغة لا غير، لأن العقل لا يستطيع أن يعمل شيئًا فيما نعلم إلا عن طريق اللغة. فالدين واللغة منذ النشاة الأولى متداخلان تدخلًا غير قابل للفصل، ومن أغفل هذه الحقيقة ضل الطريق. هذا شأن كل البشر على اختلاف مللهم وألوانهم، لا تكاد تجد أمة من خلق الله ليس لها دين بمعناه، كتابيًا أو وثنيًا أو بدعًا. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (60)- في الطريق إلى الثقافة (1)

الثقافة في جوهرها لفظ جامع يقصد بها الدلالة على شيئين أحدهما مبني على الآخر، أي هما طوران متكاملان، الطور الأول: أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده ونشأته الأولى حتى يشارف حد الإداراك البين، جماعها كل ما يتلقاه عن أبويه وأهله ومعلميه ومؤدبيه حتى يصبح قادرًا على أن يستقل بنفسه وعقله، وهذه الأصول ضرورة لازمة لكل حي ناشئ في مجتمع ما، لكي تكون له لغة يبين بها عن نفسه، ومعرفة تتيح له قسطًا من التفكير يعينه على معاشرة من نشا بينهم. وهذا على شدة وضوحه عند النظرة الأولى لأنك ألفته، هو في حقيقته سر ملثم يحير العقول إدراك دفينه، لأنه مرتبط أشد الارتباط، بل متغلغل في أعماق سرين عظيمين غامضين هما: سر النطق وسر العقل، اللذان تميز بهما الإنسان من سائر ما حوله من الخلق كله. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (59)- خلو المستشرق من شروط المنهج! (2)

إذن فخبرني: أهو ممكن أن يكون مجرد تعلم لغة أنت فيها شاد، كفيلًا بأن يجعلك كاتبًا أو باحثًا في أسرار هذه اللغة وفي ثقافتها، مهما كانت منزلتك أنت في غتك وثقافتك؟ أممكن هو؟ مجرد خطور هذا في وهمك، مخرج لك من حد العقل! فأعجب العجب، إذن، أن يعد أحد شيئًا مما كتبه المستشرقون في لغتنا وثقافتنا وتاريخنا وديننا، داخلًا في حد الممكن، وأن يراه متضمنًا لرأي حقيق بالاحترام والتقدير، فضلًا عن أن يكون عملًا علميًا أو بحثًا منهجيًا نسترشد به نحن، كما هو السائد اليوم في حياتنا الأدبية الفاسدة. أليس هذا شيئًا لا يطاق سماعه ولا تصوره! ومع ذلك فهو كائن معمول به لا غضاضة، أليس هذا غريبًا؟ أليس غريبًا أن يكون غير الممكن ممكنًا في ثقافتنا نحن وحدها، دون سائر ثقافات البشر، قديمها وحديثها. غريب عجيب لا محالة! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (57)- اللغة والثقافة (2)

اللغة، هي التي تمهد له الطريق إلى الإحاطة بأسرار الثقافة، لأن أمر الإحاطة عندئذ منوط كله بالقدرة على تمحيص مفردات اللغة تمحيصًا دقيقًا، وتحليل تراكيبها وأجزاء تراكيبها بدقة متناهية، حتى يرى ما هو زيف جليًا واضحًا. ثم منوط أيضًا بالقدرة الفائقة على النظر في الثقافة على ترتيب مادتها بعد نفي زيفها وتمحيص جيدها، متحريًا وضع كل حقيقة من الحقائق في حق موضعها، لأن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها، خليق أن يشوه عمود الصورة تشويهًا بالغ القبح والشناعة.  

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (58)- خلو المستشرق من شروط المنهج! (1)

فقبل كل شيء، أنى للمستشرق أن يحوز ما لا يحوزه إلا من ولد في بحبوحة اللغة وثقافتها منذ أن كان في المهد صبيًا، ثم نشئ فيها وارتضع وأدب حتى عقل واستحصد؟ غير ممكن! وهبه ممكنًا أن يأتى المستشرق على كبر فيعاشر أصحاب هذه اللغة وهذه الثقافة ويخالطهم دهرًا، وهبه ممكنًا أيضًا أن ينسى كل ما نشأ هو فيه صغيرًا وأدب، أفممكن هو أن يحوز ذلك كله، وهو مقيم في بلاده، بإن يتعلم على الكبر من معلم يعلمه لغة وثقافة هما أجنبيان عنه وعن معلمه جميعًا؟ غير ممكن! أقصى ما يبلغه هذا المستشرق بعد عشرات السنين من الدأب والجهد وبعد أن تشيب قرونه، أن يكون شاديًا لا أكثر! أي أنه تعلم لغة أجنبية عنه وبس! هذا صريح العقل. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (56)- الثقافة واللغة (1)

وبديهي، بل هو فوق البديهي، أن شرط الثقافة بقيوده الثلاثة، ممتنع على المستشرق كل الامتناع، بل هو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد! وذلك لأن الثقافة واللغة متداخلان تداخلًا لا انفكاك له، ويترافدان ويتلاقحان بأسلوب خفي غامض كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجًا واحدًا غير قابل للفصل، في كل جيل من البشر وفي كل أمة من الأمم. ويبدأ هذا التداخل منذ ساعة يولد الوليد صارخًا، ثم يظل يرتضع لبان اللغة الأول ولبان الثقافة الأول، شيئًا فشيئًا عن أمه وأبيه حتى يعقل، فإذا عقل تولاه معهما المعلمون والمؤدبون حتى يستحصد، فإذا استحصد وصار مطيقًا إطاقة ما للبصر بمواضع الصواب والخطأ، قادرًا قدرة ما على فحص الأدلة واستنباطها فناظر وباحث وجادل، فعندئذ يكون قد وضع قدمه على أول الطريق، لا طريق المنهج وما قبل المنهج، بل الطريق المفضي إلى أن تكون له ثقافة يؤمن بها عن طريق العقل والقلب، ويعمل بها حتى تذوب في بنيانه، وينتمي إليها بعقله وقلبه وخياله انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (55)- شرط الثقافة وقيودها

وإذا كان أمر اللغة شديدًا لا يسمح بدخول المستشرق تحت هذا الشرط اللازم للقلة التي تنزل ميدان المنهج وما قبل المنهج، فإن شرط الثقافة أشد وأعتى! لأن الثقافة كما قلت آنفًا: سر من الأسرار الملثمة في كل أمة من الأمم، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى، مطلوبة في كل مجتمع إنساني، للإيمان بها أولًا من طريق العقل والقلب، ثم العمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به، ثم الانتماء بعقله وقلبه انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار. وهذه القيود الثلاثة، الإيمان والعمل والانتماء، هي أعمدة الثقافة وأركانها التي لا يكون لها وجود ظاهر محقق إلا بها، وإلا انتقض بنيان الثقافة صارت مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق، متفككة لا يجمع بينها جامع، ولا يقوم لها تماسك ولا ترابط ولا تشابك. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (53)- نشأة المستشرق! (1)

والمستشرق فتى أعجمي، ناشئ في لسان أمته وتعليم بلاده، مغروس في آدابها وثقافتها، حتى استوى رجلًا في العشرين من عمره أو 25، فهو قادر أو مفترض أنه قادر تمام القدرة على التفكير والنظر، ومؤهل أو مفترض أيضًا أنه مؤهل أن ينزل في ثقافته ميدان المنهج وما قبل المنهج بقدم ثابتة. نعم، هذا ممكن أن يكون كذلك؛ ولكن هذا الفتى يتحول فجأة عن سلوك هذه الطريق ليبدأ في تعليم لغة أخرى، (هي العربية هنا)، مفارقة كل المفارقة للسان الذي نشأ فيه صغيرًا، ولثقافته التى ارتضع لبانها يافعًا، يدخل قسم اللغات الشرقية في جامعة من جامعات الأعاجم، فيبتديء تعلم ألف باء تاء، ويتلقى العربية نحوها وصرفها وبلاغتها وشعرها وسائر آدابها وتواريخها عن أعجمي مثه! وبلسان غير عربي، ثم يستمع إلى محاضر في آداب العرب أو أشعارها أو تاريخها أو دينها أو سياستها بلسان غير عربي، ويقضي في ذلك بعض سنوات قلائل، ثم يخرج لنا مستشرقًا يفتي في اللسان العربي، والتاريخ العربي، والدين العربي! عجب وفوق العجب!!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (54)- نشأة المستشرق (2)

كيف يجوز في عقل عاقل أن تكون بعض سنوات قلائل كافية لطالب غريب عن اللغة، وهذه حاله، أن يصبح محيطًا بأسرار اللغة وأساليبها الظاهر والباطنة، وبعجائب تصاريفها التي تجمعت وتداخلت على مر القرون البعيدة في آدابها، وأن يصبح بين عشية وضحاها مؤهلًا للنزول في ميدان المنهج وما قبل المنهج، كيف؟ من أن هذا الشرط صعب عسير على الكثرة الكاثرة من أبناء هذه للغة أنفسهم! كيف يجوز لعقل عاقل؟ هذا، مع أنه أيضًا تعلمها تلقيًا من أعجمي مثله، ولم يخالط أهلها مخالطة طويلة متمادية تتيح له التلقي عنهم تلقيًا يبصره ببعض هذه الأسرار! غاية ما يمكن أن يحوزه المستشرق في 20 أو 30 سنة، وهو مقيم بين أهل لسانه، أن يكون عارفًا معرفة ما بهذه اللغة، وأحسن أحواله عندئذ أن يكون في منزلة طالب عربي في الـ14 من عمره! أي هو في طبقة العوام الذين لا يعتد بأقوالهم أحد في ميدان المنهج و ما قبل المنهج. هذا على أن اللغة نفسها هي وعاء الثقافة، فهما متداخلان، فمحال أن يكون محيطًا بأسرارها، دون أن يكون محيطًا بثقافتها إحاطة تؤهله للتمكن من اللغة، فمن أين يكون المستشرق مؤهلًا لنزول هذا الميدان؟! 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (52)- والاستشراق لا يذم!

والاستشراق لا يذم لأنه فعل كل ذلك، لأنه بلا شك قد أدى ما عليه لبني جلدته أحسن أداء وأتمه، ونصر أهل دينه وأخلص لهم كل الإخلاص، وكافح في سبيل هدفه بكل سلاح أجاد صقله وتقويمه، أما الذي هو حقيق بالذم والمعابة، فالعاقل الذي يظن نفسه عاقلًا، والبصير الذي يظن نفسه بصيرًا، ثم لا يكاد عقله يدرك شيئًا هو أبين بيانًا من البدائه المسلمة، ولا يكاد بصره يرى ما هو أظهر ظهورًا من الشمس الساطعة!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (51)- حماية عقل الأوربي المثقف

وبين لك الآن بلا خفاء أن كتب الاستشراق ومقالاته ودراساته كلها، مكتوبة أصلًا للمثقف الأوربي وحده لا لغيره، وأنها كتبت له لهدف معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوربي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التى يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب. وأن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها، ينظر بها إلى صورة واضحة المعالم لهذا العالم العربي الإسلامي وثقافته وحضارته وأهله، وأن يكون قادرًا على خوض ما يخوض فيه، وفي عقله وفي قلبه وفي لسانه وفي يقينه وعلى مد يده، معلومات وافرة يثق بها ويطمئن إليها ويجادل عليها، دون أن تضعف له حمية، أو تلين له قناة، أو يتردد في المنافحة عنها أو يتلجلج، أيا كان الموضوع الذي تدفعه المفاوضة إلى الخوض فيه. 

معلومات

اللأديب الناقد المحقق الشهير العلم إمام العربية وحامي حماها الشيخ أبو فهر محمود محمد شاكر ابن الشيخ محمد شاكر قاضي القضاة الشرعيين في مصر وأخو الشيخ العلامة محدث الديار المصرية أحمد محمد شاكر رحمهم ال

أكمل القراءة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً