ابن قيم الجوزية
ابن قيم الجوزية
الفوائد (28)- للعبد ستر
للعبد ستر بينه وبين الله، وستر بينه وبين الناس، فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله، هتك الستر الذي بينه وبين الناس.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (13)- الفاتحة وما تضمنته (1)
للإنسان قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة عملية إرادية. وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والإرادية. واستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة فاطره وبارئه ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة الطريق التي توصل إليه ومعرفة آفاتها ومعرفة نفسه ومعرفة عيوبها. فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية. وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم فيها. واستكمال القوة العملية الإرادية لا تحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد، والقيام بها إخلاصًا وصدقًا ونصحًا وإحسانًا ومتابعة وشهودًا لمنّته عليه، وتقصيره هو في أداء حقّه. وأنه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته. فهو مضطر إلى أن يهديه الصراط المستقيم الذي هدى إليه أولياءه وخاصّته، وأن يجنّبه الخروج عن ذلك الصراط، إما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال، وإما بفساد في قوّته العملية فيوجب له الغضب.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (27)- في تفسير سورة التكاثر (2)
والتكاثر تفعل من الكثرة، أي مكاثرة بعضكم لبعض وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه، أن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التكاثر، فالتكاثر في كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أو علم، ولا سيّما إذا لم يحتج إليه، والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها، والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره، وهذا مذموم إلا فيما يقرّب إلى الله، فالتكاثر فيه منافسة للخيرات ومسابقة إليها. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه: انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: « ».
ابن قيم الجوزية
الفوائد (26)- في تفسير سورة التكاثر (1)
أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد، وكفى بها موعظة لمن عقلها. فقوله تعالى:{أَلْهَاكُمُ} [التكاثر من الآية:1] أي شغلكم على وجه لا تعذرون فيه فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه، فإن كان بقصد فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسلّم في الخميصة: « » (البخاري في الصلاة [1\575])، كان صاحبه معذورًا وهو نوع من النسيان. واللهو للقلب واللعب للجوارح، ولهذا يجمع بينهما، ولهذا كان قوله:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] أبلغ في الذم من شغلكم، فإن العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به، فاللهو هو ذهول وإعراض.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (25)- تفريغ القلب مما يضاد الإيمان (3)
إن إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا صغى إلى غير حديث الله، لم يبق فيه إصغاء، ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبّة الله، لم يبق فيه ميل إلى محبّته. فإذا نطق القلب بغير ذكره، لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان. ولهذا في الصحيح عن النبي أنه قال: « ». فبيّن أن الجوف يمتلئ بالشعر فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها. وإذا امتلاء القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغًا لها ولا قبولًا، فتعدته وجاوزته إلى محل سواه.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (24)- تفريغ القلب مما يضاد الإيمان (2)
فكذلك القلب المشغول بمحبّة غير الله وإرادته، والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلّقه بغيره، ولا حركة اللسان بذكره، والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق، والعلوم التي لا تنفع، لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (23)- تفريغ القلب مما يضاد الإيمان (1)
قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضدّه. وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئًا بالباطل اعتقادًا ومحبّة، لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبّته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع، لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (22)- تفكر!
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكًا عظيمًا رحيمًا جوادًا جميلًا هذا شأنه فكيف لا تحبّه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره، ويصير الحب والشوق إليه والأنس به غذاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت، ولم تنتفع بحياتها؟
ابن قيم الجوزية
أسرار الصلاة (27)- أسرار الركوع
ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعاً لعظمة ربه، واستكانة لهيبته وتذللاً لعزته. فثناء العبد على ربه في هذا الركن؛ هو أن يحني له صلبه، ويضع له قامته، وينكس له رأسه، ويحني له ظهره، ويكبره مُعظماً له، ناطقاً بتسبيحه، المقترن بتعظيمه.
فاجتمع له خضوع القلب، وخضوع الجوارح، وخضوع القول على أتم الأحوال، ويجتمع له في هذا الركن من الخضوع والتواضع والتعظيم والذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه، والخضوع للعبيد بعضهم لبعض، فإنَّ الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الرب.
ابن قيم الجوزية
الفوائد (21)- في عرش الرحمن وقلب عبده
وخلق الله القلوب وجعلها محلًا لمعرفته ومحبّته وإرادته، فهي عرش المثل الأعلى الذي هو معرفته ومحبّته وإرادته، فهذا من المثل الأعلى، وهو مستوٍ على قلب المؤمن فهو عرشه، وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث؛ لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه معرفة ومحبة وإرادة، فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها والتعلق بها، فضاق وأظلم وبعد من كمال هو فلاحه حتى تعود القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة والفرح والسرور، وقلب هو عرش الشيطان، فهناك الضيق والظلمة، فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل، مغموم في الحال. وقد روى الترمذي وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «
»، قالوا: "فما علامة ذلك يا رسول الله؟"، قال: « ».ابن قيم الجوزية
الفوائد (20)- العبودية
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء، لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجهم، ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم والمدبر لهم غيرهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد، صار فقره وضرورته إلى ربه وصفًا لازمًا له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده، وتوكله وعبوديته. ولهذا قال هود لقومه {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
ابن قيم الجوزية
الفوائد (19)- حديث يزيل الهم والغم!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
»، قالوا: "يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟"، قال: « ». فتضمّن هذا الحديث العظيم أمورًا من المعرفة والتوحيد والعبودية. منها أن الداعي به صدّر سؤاله بقوله: "إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك" وفي ذلك تملّق له واعتراف بأنه مملوكه وآبائه مماليكه، فتحت هذا الاعتراف: أني لا أغنى بي عنك طرفة عين، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيّدي الذي أنا عبده، وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبّر مأمور منهي، إنما يتصرّف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه. فليس هذا في شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار.