إنسانية الإسلام لا تعني المشاركة في شعائر الكفار
السماحة والإنسانية مع الخَلقِ كلِّهم والحرص على هدايتهم لا تَعني حبَّهم، وحبَّ ما هم عليه من الكفر، أو تقديمهم على المسلمين، وكذلك لا تعني مشابهتهم، فقد أُمِرنا بمخالفتهم؛ «خالفوا اليهود والنصارى»، ومما يَقع فيه بعضُ جُهَّال المسلمين - هداهم الله -: حضور أعيادِ الكفار، أو تهنئتهم بها
الإسلام دين الإنسانية الحقَّة، الإنسانية التي تَنطلق من العقيدة الإسلامية، وتتعامل وَفْقَ الخُلقِ الإسلاميِّ القويم، إنسانية هذا الدين - عبادَ الله - تَعمُّ كلَّ البشر، لا تُفرِّق بين أسودَ وأبيض، ولا تتغير وفق المصالح والأهواء، ولا تَتبدَّل حسب القوة والسلطان، كما نراه في واقعنا اليوم من أدعياء الإنسانية المزيَّفة التي يَتشدقون بها أمام العالمين، وهم يَحتكرونها لبني جنسهم ولأهل مِلَّتهم.
وإليكم ذلك الموقفَ النبوي الذي تَتجلَّى فيه إنسانية هذا الدين العظيم في شخص المصطفى - صلوات ربِّي وسلامه عليه - حيث كان فَتًى يهوديٌّ يخدم النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - فيضع له وضوءَه، ويناوله نعلَه، ويَقضي حوائجه، ويتفقَّده النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - يومًا فيُخبرُ بمرضه، فيأتيه ويزوره ويدنو منه ويجلس عند رأسه، وأبو الغلام جالس قُبَالةَ وجهه، والنبي الكريم يَنظر نظرةَ المشفِق الرحيم للفتى، وهو يُودِّع الدنيا ويستقبل الآخرة، فيقْبلُ - عليه الصلاة والسلام - بكلِّ شَفقَةٍ ورحمة وأمل، ويَهتف به لما هو أحوج إليه في هذه اللحظة، فيدعوه للإسلام، ويقول: «أسلم، قل: لا إله إلا الله وأني رسول الله»، ويَتلقَّى الفتى ذلك النداء الرحيم، وهو الذي خَدم النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - وعرفَ من حاله ما تيقن أنها حال الأنبياء، ولكنه لا يَزال مأمورًا لسلطة أبيه، فجعل يقلِّب ناظريه لأبيه تارةً وللنبيِّ - عليه الصلاة والسلام - تارةً، وإذا بالنبيِّ - عليه الصلاة والسلام - يُعيد عليه مَقالته ويكرِّر له نداءه، وكأنه يُسابق اللحظات الأخيرة في حياة الفتى، ويكرِّر الفتى نظره لأبيه، وإذا بالأبِ يقول له: أطعْ أبا القاسم، قل ما يقول لك محمدٌ، وما أن أتمَّ الأب عبارته، وإذا بالفتى يردِّد الشهادة وهو يَجود بنفسه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، استكمل الشهادة واستكمل بها أجله ولفظ أنفاسه، ويَخرج النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - من عنده مُستبشرًا بهداية الغلام وبخاتمته الحسنة، ويقول لأصحابه: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار»، ثم أمرهم، وقال: «صلُّوا على أخيكم».
معاشرَ المؤمنين:
إن هذا الموقفَ النبيل الجميل ليكشفُ جوانب الإنسانية الحقَّة في شخص رسولِ الله - عليه الصلاة والسلام - فهو يكشفُ عن حقيقة نفسِ المؤمن تِجاه البشر، بل الكفار منهم واليهود؛ فقد قَبِلَ - عليه الصلاة والسلام - أن يَخصَّ هذا الفتى اليهوديَّ بخدمته، ذلك الشرف الذي كانت تَرنو إليه قلوبُ الصحابة - رضوان الله عليهم - ثم هو يَتفقَّدهم ويزورهم، ويَقبلُ زياراتهم؛ ليبيِّنَ أن الأصلَ في علاقة المسلمين بغيرهم هي علاقة صِلة وتَعارف ودعوة؛ كما قال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، وإن ذلك التعارفَ وتلك الصِّلة هي أقصرُ وأفضل طريق للدعوة إلى هذا الدين، كم من شعوبٍ وأمم دخلتْ هذا الدين بحُسنِ المعاملة وطِيبِ المعاشرة! ثم إنَّ هذا الموقف - عبادَ الله - ليكشف جانبًا إنسانيًّا هامًّا في التعامل مع غير المسلمين، وهو أن تلك الزيارةَ الرحيمة الكريمةَ لفتًى يهوديٍّ في بيت يهوديٍّ، وهو خادم صغيرٌ، وليس بسيِّدٍ ولا بأمير، ومع ذلك فقد تجلَّت مشاهدُ العظمة الإنسانيَّة والكرم والأخلاق والنُّبلُ المحمديُّ، بين سيِّدِ الأنبياء والمرسلين وهذا الفتى.
معاشر المؤمنين:
يتساءل المرءُ منا عن سرِّ ذلك الفرح الغامر والبشر الذي يَملأ مُحَيَّا رسولِ الله - عليه الصلاة والسلام - وهو يُردِّد فرحًا: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار»، ثم هو يَعقدُ له عقدة الأخوة الإيمانية مع أصحابه، ويُحمِّلهم مسؤولية العناية بجنازته، ويقول: «صلوا على أخيكم»، فهذا الفتى لم يُعطِ مالاً، ولم يَحملْ سلاحًا، ولم يُؤدِّ أيَّ عملٍ لهذا الدين، ولم يَكد يُسلم حتى مات من فوره، وما هذا الفرحُ الرحيم إلا دَلالةٌ واضحةٌ على حقيقة حِرص رسولِ الإنسانية - عليه الصلاة والسلام - على هِداية البشر، لا لشيءٍ إلا لينجوَ من النار، فقد كان قلبه يَحترق ألمًا لمن يُعرض عن دعوته، حتى قال له ربُّه: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، كما كان يَطير قلبه فرحًا حين يَستجيب أحدٌ لدعوته، تلك الرحمة والشَّفقة، وذلك الحرصُ والاهتمام على هداية البشرِ هي حقيقة الدعوة الإسلامية وحقيقة الداعية المسلم، هدايةُ البشر غايتهم، والرحمة والشفقة سبيلُهم، ودعوة البشر ديدنهم، كما هو حال نبيهم - عليه الصلاة والسلام - حين زارَ الفتى وظَهرَ منه سُموُّ التواضع، وحُسنُ العهد، ولينُ الجانب، ولُطف الترفُّق، والحرص على هدايته وإيمانه، فصلواتُ ربي وسلامه عليه، رزقنا الله وإياكم صِدقَ محبَّته واتِّباعه، وحشرنا في زمرته.
أما بعد عبادَ الله:
السماحة والإنسانية مع الخَلقِ كلِّهم والحرص على هدايتهم لا تَعني حبَّهم، وحبَّ ما هم عليه من الكفر، أو تقديمهم على المسلمين، وكذلك لا تعني مشابهتهم، فقد أُمِرنا بمخالفتهم؛ «خالفوا اليهود والنصارى»، ومما يَقع فيه بعضُ جُهَّال المسلمين - هداهم الله -: حضور أعيادِ الكفار، أو تهنئتهم بها.
فقد سُئِلَ فضيلةُ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: ما حُكْمُ تهنئة الكفار بأعيادهم؟
فأجاب - رحمه الله -:
الحمد لله، تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حَرامٌ بالاتفاق، كما نقلَ ذلك ابنُ القيِّم - يرحمه الله - في كتاب: "أحكام أهل الذمة"؛ حيث قال: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به، فحرامٌ بالاتفاق، مثل أن يُهنِّئهم بأعيادهم وصومِهم، فيقول: عيدٌ مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سَلِمَ قائله من الكفر، فهو من المحرَّمات، وهو بمنزلة أن يُهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله، وأشدُّ مَقتًا من التهنئة بشُربِ الخمر وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثيرٌ ممن لا قَدرَ للدين عنده يَقع في ذلك، ولا يَدري قُبْحَ ما فعل، فمن هنَّأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر، فقد تَعرَّض لمقتِ الله وسخطه"، انتهى كلامه - يرحمه الله.
وإنما كانت تَهنئةُ الكفار بأعيادهم الدينية حرامًا، وبهذه المثابة التي ذكرها ابن ُالقيم؛ لأن فيها إقرارًا لما هم عليه من شعائر الكفر، ورِضا به لهم، وإن كان هو لا يَرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يَحرم على المسلم أن يَرضى بشعائر الكفر أو يُهنِّئ بها غيره؛ لأن الله - تعالى - لا يرضى بذلك؛ كما قال الله - تعالى -: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وقال - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وتَهْنِئتُهم بذلك حرامٌ؛ سواء كانوا مُشاركين للشخص في العمل أم لا.
وإذا هُنِّئنا بأعيادهم، فإننا لا نجيبهم على ذلك؛ لأنها ليستْ بأعيادٍ لنا، ولأنها أعيادٌ لا يَرضاها الله - تعالى - لأنها إما مُبتدعة في دينهم، وإما مشروعة لكن نُسختْ بدين الإسلام، الذي بعثَ الله به محمدًا إلى جميع الخَلقِ، وقال فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرامٌ؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها؛ لما في ذلك من مشاركتهم فيها.
وكذلك يَحرمُ على المسلمين التشبُّه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تَبادل الهدايا، أو تَوزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تَعطيل الأعمال، ونحو ذلك؛ لقول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم»، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم": "مشابهتهم في بعض أعيادهم تُوجبُ سُرورَ قلوبهم بما هُم عليه من الباطل، وربما أطمعهم ذلك في انتهازِ الفرص واستذلال الضعفاءِ"، انتهي كلامه - يرحمه الله.
ومن فعل شيئًا من ذلك فهو آثمٌ؛ سواء فعله مجاملةً أو تودُّدًا أو حياءً، أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقويةِ نفوس الكفار وفخرهم بدينهم، والله المسؤول أن يُعزَّ المسلمين بدينهم، ويرزقهم الثَّبات عليه، وينصرهم على أعدائهم؛ إنه قوي عزيز.
رحمه ادم
منذطاهر ذهني
منذ