نعمة الطعام ومحنة الجوعى

منذ 3 ساعات

في غزة اليوم تُحاصر الأمهات مع أطفالهن، يُمنعون من الغذاء والدواء والماء، حتى صار الناس يأكلون الأعشاب، وبعضهم يأكل أوراق الشجر والطحين الممزوج بالتراب والدم.

نعمة الطعام ومحنة الجوعى

حديثنا اليوم عن نعمةٍ عظيمة يراها البعض بسيطة، لكنها من أعظم نعم الله علينا.

 

نعمة لا تستقيم الحياة إلا بها، ولا تُذكر النعم إلا تتصدَّرها، نعمة يستهين بها كثير من الناس، لكنها عند مَن فقَدها أغلى من الذهب والفضة، نعمة جعلها الله من أعمدة الحياة، وجعل فقْدها فتنة وبلاءً، إنها نعمة نغفل عنها، ولا نشعر بقيمتها إلا حين نفتقدها.

 

إنها نعمة الطعام والشراب التي قال الله عنها: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32]، ويقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 – 64]، ويقول جلَّ وعلا: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4].

 

انظروا إلى موائدنا كيف امتلأت، وإلى ثلاجاتنا كيف ازدحمت، ثم تأملوا أحوال أهلنا في غزة المحاصرة، وفي سودان المجاعة، وفي يمن المحنة، كيف يتغذى بعضهم على أوراق الشجر، ويبيت آخرون بلا لقمة تُسكت بها بطونهم الجائعة!

 

كم من إنسانٍ في هذا العالم ينام جائعًا؟ وكم من أمٍّ في غزة أو السودان أو اليمن تنظر في عيون أطفالها، ولا تجد ما يُسكت به جوعهم إلا الدموع؟!

 

في غزة اليوم تُحاصر الأمهات مع أطفالهن، يُمنعون من الغذاء والدواء والماء، حتى صار الناس يأكلون الأعشاب، وبعضهم يأكل أوراق الشجر والطحين الممزوج بالتراب والدم.

 

وفي السودان ملايين النازحين والجوعى في مخيمات هزيلة تفتقر إلى الغذاء والماء النظيف، وفي اليمن تعيش بعض الأُسر على وجبة واحدة في اليوم.

 

فهل شكرنا الله على طعامنا وشرابنا؟ هل تأملنا في موائدنا اليومية المملوءة والمهدورة أحيانًا؟

 

هل نربِّي أبناءنا على معرفة قيمة هذه النعمة؟ هل استوعبنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سِرْبِه، معافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها»؛ (رواه الترمذي).

 

كم منَّا مَن أصبح آمنًا معافًى، يَشرَب الماء البارد، ويتقلَّب بين أصناف الطعام، ثم لا يَشكُر الله على هذه النعم، بل يزدري النعمة، ويُبذِّر، ويشكو الملل من نفس الأكل!

 

أين نحن من الشكر الحقيقي؟ ألم نسمع قول الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

 

أصبحت المجاعات اليوم ليست في بطون التاريخ فقط، بل في أخبارنا اليومية، وفي صور تدمع لها القلوب قبل العيون.

 

أيها المسلمون؛ لقد كان السلف الصالح يقدِّرون الطعام تقديرًا عظيمًا، وكانوا يرون أن من شكر النعمة ألا يراها صغيرة، فكيف إذا اجتمع الفقر والجوع والمرض والحرب؟

 

إن من تمام شكر النعمة أن نحفَظها من الهدر، ونخرج منها حقَّ الفقير، ونحمد الله عليها عند كل وجبة، وندعو لإخواننا المحرومين منها، ونكف عن الإسراف في الطعام والشراب؛ كما قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وأن نتصدَّق على الجوعى والمعدمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة»؛ (رواه البخاري).

 

واجبنا اليوم أن نربي أبناءَنا على احترام الطعام، وعدم رمْيه في القمامة، وتخصيص جزء من دخلنا الشهري لإغاثة المحتاجين، خصوصًا أهل غزة المحاصَرين، فهم في مجاعة مركبة: مجاعة الطعام، ومجاعة الأمان، ومجاعة الترك والفقد.

 

يُمنعون من الطعام والدواء، بل يُقصفون وهم يصطفُّون للطعام! وأن نُكثر لهم من الدعاء في سجودنا وقنوتنا وخلواتنا، وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه» ، وأن نصوم بعض النوافل والسنن؛ حتى نشعر بالجوع الذي يشعر به إخواننا، فإنه والله لا خير فينا إن لم تؤثِّر فينا هذه المشاهد والصور؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر 8: 9].

 

عباد الله؛ حين يُبتلى قومٌ بالمجاعات، تُسلَّط الأضواء على المأساة، وتسيل دموع الرأفة، وتتزاحم صور المكلومين، ولكن هل خطر في بالنا أننا نحن أيضًا في امتحان؟ نعم، امتحانٌ مختلف... إنه امتحان النصرة وأداء الواجب، وفعل اللازم.

 

لقد اعتدنا على الطعام حتى صار روتينًا، لا نعمة، نأكل كثيرًا، ونتكلم كثيرًا، ونشكر قليلًا.

 

فيا من تَملِكون الطعام وتشتكون الملل، تذكروا من لا يجد قوت يومه! ويا من تلومون الزوجة على تكرار الطعام، تذكروا الأمهات في غزة ممن يَطبخن الرماد!

 

اليوم أصبح كثيرٌ من الناس يرى الطعام حقًّا لا نعمة، بل إذا نقص نوعٌ واحد من الأكل سَخِطَ وتأفَّف، ونَسِيَ أن هناك مَن يجلس لساعات ينتظر رغيفًا، ثم لا يجده؛ تأملوا قول الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]، والكنود هو الذي يَعُدُّ المصائب، وينسى النعم.

 

أين نحن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزقَ آل محمد قوتًا» ؟ فقد كان صلى الله عليه وسلم يَطلُب القوت لا الكثرة؛ لأن القوت كافٍ، أما الكثرة فقد تُنسي الإنسان وتُطغيه وتُلهيه.

 

إننا نرى اليوم في غزة جرحًا مفتوحًا، مأساةً إنسانية يشهدها العالم، ويسكت عنها، غزة الجريحة المحاصرة التي لا تموت فقط بالقنابل، بل تموت جوعًا، وتُحتَضر أمام مرأى ومسمع العالم، دون أن يتحرك ضميرٌ، أو يستفيق وجدانٌ.

 

في هذه اللحظة في غزة، لا يموت الناس في المستشفيات، بل على الطرقات، على الأرصفة، بين الركام، جوعًا وعطشًا.

 

أطفال يموتون في أحضان الأمهات، وشيوخ يقضمون الأعشاب والنباتات، وعائلات تبحث عن الطحين في النفايات.

 

إنها مجاعة حقيقية، لا تحتاج إلى وصفٍ تقني أو قرارٍ أُممي، بل تراها الأعين، ويسمعها كل قلب حي.

 

أيها المسلمون؛ إن المجاعة في غزة ظلم متعمَّد، وتجويع ممنهج، وقد حذَّرت أكثر من 100 منظمة إنسانية وقالت: المجاعة تدقُّ الأبواب، بل دخلت البيوت، لكن العالم الميت مع كل هذه التقارير والشهادات، ما زال يتردَّد في النطق بكلمة مجاعة.

 

ألم يتحقق شرط انعدام الأمن الغذائي؟ ألم تُسجَّل نسبةُ سوء تغذية حاد لدى الأطفال؟ ألم تُوثَّق وَفَيَات بالجملة بسبب الجوع؟ فأين الضمير الإنساني، وأين المسؤولية الأخلاقية؟

 

عباد الله؛ نحن أمة لا يَصِح أن تَبلُد مشاعرها، ولا أن تتعوَّد على مشاهد المأساة حتى تفقد الإحساس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والْحُمى»؛ (رواه مسلم).

 

فهل شعَرنا بالجوع كما يشعر به أهلُ غزة؟ هل تألَّمنا لجوعهم؟ هل بذلنا لأجلهم؟ هل دعونا لهم في جوف الليل أن يفرِّج الله عنهم؟

 

إن ما يجري في غزة اليوم جريمة متعمدة، عقوبة جماعية، تُمنع فيها المساعدات، وتُقصف فيها مراكز الإغاثة، وتُجوَّع فيها النساء والأطفال، وقد أطلقت كثير من المنظمات نداءات: كفى، كفى، لكن العالم لا يسمع، ويتغلب فيه منطق السياسة على صوت الإنسانية، فأين نحن من قول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]؟ أين النصرة؟ أين الأموال؟ أين الأقلام؟ أين الدعاء؟ أين الغيرة؟

 

واجبنا الشرعي ألا نَخذُلهم، وألا نَقبَل بأن يُقال: إن المسلمين جوعى ونحن شبعى، وإنهم يُقصَفون ونحن صامتون، والله سائلنا، وهو القائل: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].

 

اللهم إن إخواننا في غزة جياع، فأطعمهم، عرَاة فاكْسُهم، مرضى فاشْفِهم، محاصرون فانصُرهم، اللهم افتحْ لهم أبواب الرحمة، ويسِّر لهم طريق الفرج، وارزُقهم من حيث لا يحتسبون، اللهم مَن أراد بهم كيدًا، فاجعل كيده في نحره، وأرِنا فيه عجائب قدرتك.

 

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

____________________________________________________
الكاتب: د. مراد باخريصة

المصدر: شبكة الألوكة

  • 0
  • 0
  • 50

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً