المسلم الإيجابي

منذ 9 ساعات

"قيمةُ المرءِ وقدرهِ إنما تقاسُ بما يقدمهُ من خيرٍ متعدٍ، ونفعٍ مستمر، يعودُ نفعهُ عليهِ وعلى مجتمعه"

المسلم الإيجابي

معاشر المؤمنين الكرام: لو أراد الأنسان أن يقيس قيمته وقدره فكيف يقيسُها؟

 

هل تقاسُ بقدر أموالِه وممتلكاته؟

 

أم بقدر منصبهِ ومسؤولياته؟

 

أم بقدر نسَبهِ وأصلهِ وموروثاته؟

 

لا شك أن تلك الأشياء كلِها لها قيمةٌ كبيرةٌ عند الناس، ولكن قيمةَ المرءِ وقدرهِ إنما تُقاسُ بمقدار استقامتهِ وصلاحه، وما يتحلى به من أخلاقٍ حسنة، ومبادئ قيّمة.

 

قيمةُ المرءِ وقدرهِ إنما تقاسُ بما يقدمهُ من خيرٍ متعدٍ، ونفعٍ مستمر، يعودُ نفعهُ عليهِ وعلى مجتمعه، عاجلًا وآجلا.. في الحديث الحسن، قال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ منَ النَّاسِ مفاتيحَ للخيرِ، مغاليقَ للشَّرِّ، وإنَّ منَ النَّاسِ مفاتيحَ للشَّرِّ مغاليقَ للخيرِ، فَطوبى لمن جعلَ اللَّهُ مفاتيحَ الخيرِ على يدَيهِ، وويلٌ لمن جَعلَ اللَّهُ مفاتيحَ الشَّرِّ على يديهِ»..

هكذا يا عباد الله: فقيمةُ المرءِ بقدر إحسانه وإيجابيته.. تأمل ما يقوله الله تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31]، قال المفسرون: أي جعلني نفّاعًا حيثما كنت واينما اتجهت.. فهو إيجابيٌ، كالغيث أينما وقعَ نفع..

 

وما هي الإيجابية يا عباد الله؟.. الإيجابيةُ: أن تكون عنصرًا فاعلًا في الحياة، تعطي أكثر مما تأخذ، وتبادر بالخير قبل أن يطلب منك، وتحبُّ لإخوانك المسلمين ما تحبه لنفسك.

 

الإيجابية: طاقةٌ بنائه، وروحٌ وثابة، تدفعُ صاحبها ليكون عنصرًا فاعلًا في أسرته ومجتمعه، نافعًا لنفسه ولأمته، في الحديث الحسن، قال صلى الله عليه وسلم: «خير الناسِ أنفعهم للناس».

 

الإيجابية: شعورٌ بالمسؤولية، وسعيٌ للإصلاح، وتعاونٌ على البر والتقوى، واستجابةٌ لداعي الخير والفلاح، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].

 

الإيجابية: أن تسير في دروب الطاعة بعزيمة، وأن تمضي في إعمار الحياة بهمّة، وأن تواجه التحدياتِ بقوة، وأن تجتازَ الأزماتِ بثبات، تؤمنُ أنّ الخيرَ غالب، وأنَّ وعدَ الله حقٌّ نافذ، وأنَّ العاقبة للمتقين، وأنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين.

 

الإيجابية: ألا تكتفي بأداء ما فُرض عليك، بل أن تبحث عن أبواب الطاعة والبر بنفسك، وأن تسعى إليها بحرصٍ واهتمام، وأن تطلبها برغبةٍ والحاح، فإذا أتاك التكليف أديتهُ بإتقان، في الحديث الحسن: «إن الله يحبُ إذا عمِلَ أحدكُم عملًا أن يتقنهُ».

 

الإيجابية: أن ترى في العمل الصالح فرصةً ومتعه، وأن ترى في خدمة الناس شرفٌ ورفعة، وأن ترى في الابتلاء طهارةً وتزكية.. في الحديث المتفق عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته».. وقال ابن القيم: العجز آفة، والكسل داء، وما ارتفع من ارتفع إلا بالجد والعزم.

 

فالإيجابية هي التفاعل مع الحياة، وهي روح الإسلام، وهي سر قوة الأمة، وهي طريق النصر والتمكين، وهي سبيل السعادة في الدنيا والآخرة. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة:48].

 

لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو أعظم الإيجابيين، وأكبر المنجزين، ما عرف اليأس طريقًا إلى قلبه، ولا تمكّن الإحباط من روحه، فكان صلى الله عليه وسلم دائم التفاؤل، واسع الأمل، عظيم البشر، إيجابيًّا في جميع أحواله، وفي كل أحيانه، في الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: «إنْ قامَتِ السَّاعةُ وبيَدِ أحَدِكُم فَسيلةٌ، فإنِ استَطاعَ ألَّا تقوم حتى يَغرِسَها؛ فليغرسها».

 

والانسانُ الإيجابي: هو المستفيدُ من كل لحظةٍ من لحظاته، المستثمرُ لطاقاته ومواهبهِ وقدراته، السعيدُ بحالهِ وأحواله وامكانياته، المتفائلُ خيرًا لمستقبله وما بعد وفاته، الشاكرُ لربه كريم فضلهِ وعظيمَ هباته.

 

المسلمُ الإيجابي: حسنةٌ أخلاقهُ وتعاملاته، صادقٌ لا يكذب، وفيٌ لا يغدر، أمينٌ لا يغش، قريبٌ خيره، بعيدٌ شره، هينٌ لين، لطيفُ المعشر، كريمُ المخبر، في الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا».

 

المسلمُ الإيجابي: واصلٌ لرحمه وذوي قراباته، محسنٌ إلى والديه وإخوانهِ وأخواته، رفيقٌ بزوجته وأبنائهِ وبناته، في الحديث الصحيح: قال عليه الصلاة والسلام: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».

 

المسلمُ الإيجابي: مسارعٌ في الخيرات، مبادرٌ في المكرمات، سبّاقٌ إلى الطاعات، يسعى لأن يكون عنصرًا فعالًا في مجتمعه، مساهمًا بكل ما يقدر عليه من خدمته ونفعه، داعيًا إلى الخير بقوله وسمتهِ وفعله، {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون} [المؤمنون:61].

 

المسلمُ الإيجابي: معتنٍ بنفسه وصحته، مهتمٌ بحمال مظهرهِ ونظافته، محافظٌ على لياقته وقوته، منضبطٌ في غذائه وراحته.. يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا.. وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».. والله جميلٌ يحبُّ الجمال.. ويحبُّ أن يرى على عبده آثارَ نعمته.

 

المسلمُ الإيجابي: يشعرُ بمسؤوليته تجاه أمته، فلا يكتفي بأن ينجو بنفسه، بل يسعى في صلاح الآخرين ونجاتهم، يبذل المعروف، ويُعين المحتاج، ويواسي المكروب، يعلم أنَّ التكافل شريعة، وأنَّ التعاون عبادة، وأنّ نفعَ الناسِ من أعظم القربات عند الله.

 

المسلمُ الإيجابي: يوقنُ أنّ الكلمةَ الطيبةَ صدقة، وأنّ الابتسامةَ الصادقةَ بلسم، وأنّ صنائعَ المعروفِ تقي مصارعَ السوء، وأنّ اللهَ في عون العبدِ ما كان العبدُ في عون أخيه، وأنّ من فرجَ عن مسلمٍ كربةً من كرب الدنيا فرجَ اللهُ عنه كربةً من كربِ يومِ القيامة.

 

المسلمُ الإيجابي: صادقٌ نصوح، غيورٌ على مصالح المسلمين، لا يترك أخاه على خطأ، ولا يرى منكرًا فيسكت، يهتمُ بالإصلاح، ويبذلُ النصيحة بكل رفقٍ ولين.. لقوله صلى الله عليه وسلم: «الدينُ النصيحة»، وقوله عليه الصلاة والسلام: من لم يهتم بأمر المسلمينَ فليس منهم.

 

المسلمُ الإيجابي: يغتنمُ أوقاتهُ في الطاعات، ويستثمر ما وهبه الله من القدرات والطاقات، ولا يكتفي بملء وقته بالحسنات، بل وبأن لا تتوقفَ حسانتهُ بعد الممات، إما بصدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفعُ به.

 

المسلمُ الإيجابي: منضبطٌ في سلوكه، فلا يتبع هواه، ولا ينغمس في الملذات والشهوات، بل يسيرُ على منهج الله، متوكلًا على الله، موقنٌ أنّ رزقهُ لن يتعداه، وأنّ ما شاءَ اللهُ كان وما لم يشأ لم يكن.

 

والمسلمُ الإيجابي: لا ينهارُ عند المصائب، ولا يجزعُ عند الخطوب، ولا يتسخطُ عن الشدائد، بل يثبتُ ويصبر، ويحتسبُ ويسترجع، ويؤمنُ أنّ ما أصابهُ لم يكن ليخطئه، وما أخطئهُ لم يكن ليصيبه.. وأنّ الفرجَ قريب.. وأنّ مع العُسر يُسرا.. إنّ مع العُسر يسرا.

 

المسلمُ الإيجابي: يُحسنُ الظنَّ بربه، ويتفاءلُ ولا يتشاءم.. ويعلمُ {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، و {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم} [الحج:65].. {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران:171]، {وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم} [الأنفال:28].. وأنه {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون} [يوسف:87].. وما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها.. يُغيرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ.

 

فليكن كل واحدٍ منا إيجابيًا في فكره وتوجهاته، إيجابيًا في طاعاته وعباداته، إيجابيًا في أخلاقه ومعاملاته، إيجابيًا في عمله وواجباته، إيجابيًا في تواصله وعلاقاته، إيجابيًا في ترشيد نفقته والمحافظة على أقاته، إيجابيًا في كل شأنٍ من شؤون حياته.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [الحشر:18]..

 

 

معاشر المؤمنين الكرام: فرقٌ كبير، بين الإنسان الإيجابي والإنسان السلبي، فلنتأمل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76]..

 

وإنّ من الناس من هو إيجابيٌّ ولو لم يُعرَف اسمُه، وما عليك ألا يعرفك الناس إذا كان الله يعرفُ صدقك وإخلاصك، ولذا فقد خَلَّد القرآن بعض الأفعال، وأخفى أصحابها، فإنما الرجالُ بأفعالها وإخلاصها، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20].. ومثله ذلك الرجل الذي أسرع إلى موسى محذِّرًا: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]، فكانت إيجابيته، سببًا في إنقاذ نبيٍّ ورسالته..

 

والإيجابية ليست حكرًا على البشر؛ فهدهدُ سليمان لم يرضَ أن يكونَ سلبيًا، ولم يقفُ متفرجًا، بل قال في ثقةٍ وإيجابية: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، فكان بذلك سببًا في إسلام مملكةٍ بأكملها.. حتى أنّ الملكةَ قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].. وتلك النملة الرائعة التي رأت الخطر يداهم مكانها وأهلها، وعلى الرغم من صغر حجمها، وضعف قوتها، إلا أنها لم تستصغر نفسها، ولم تحتقر دورها، ونادت في بني جنسها: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]، فخلّد القرآن صوتها، وأشاد بإيجابيتها، وتبسم نبيُّ الله سليمان من قولها.. فالإيجابية: ليست حكرًا على كبير، ولا على صاحب منصب، بل قد يقوم بها رجلٌ مجهول، أو طائرٌ ضعيف، أو نملةٌ صغيرة.. فإذا بها تصنع فارقًا ضخمًا، وتغيّر واقعًا فاسدًا، وتُسجَّلُ في كتاب الله تذكارًا خالدًا..

 

فهلا وقفت مع نفسك لتسألها: تُرى ما هو أثري الإيجابي في أهلي ومجتمعي؟.. وهلا سألت نفسك بصدقٍ: كم مرةٍ مرّت بك فرصةٌ إيجابية، فلم تستثمرها حتى ذهبت؟.. كم موقفٍ كان يمكن أن تكون فيه سببًا لنجاة شخصٍ أو هدايته لكنك لم تحرك ساكنًا؟!

 

فما حجتك وما عذرك: وهل ينفعك أن الخيرَ سيقوم به غيرك.. أم هو احتقارٌ لشأنك وما يمكنك أن تفعله.. كيف ذاك؟ والهدهد والنملة يشهدان عليك، ألا أحدَ أصغر من أن يكون إيجابيًّا.

 

فاعلم أنّ الله لا ينظرُ إلى ضَعفك ولا إلى قِلّتك، وإنما ينظرُ إلى صدقك وعزيمتك؟.. فأري الله من نفسك خيرا.. فربَّ كلمةٍ صادقةٍ تخرجها لله ينقذُ الله بها إنسانًا من الضلال.. وربّ نصيحةٍ خالصةٍ تقولها يغيّرُ الله بها قلوبًا مظلمة.. وربّ بذرةٍ خيرٍ تبذرها هنا أو هناك، يبارك الله فيها فتثمرُ إصلاحًا ومشروعا مباركًا..

 

فاتقوا الله عباد الله وكونوا إيجابيين في كل شأن من شؤون حياتكم، فإن الأمة أحوج ما تكون اليوم إلى مسلمين ايجابيين.. اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [التوبة:105]..

_________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة

  • 0
  • 0
  • 33

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً