بين الحانوكاه والكريسماس! • ويثير هؤلاء شبها متهاوية حول المسألة، فيدرجون تهنئة النصارى بأعيادهم ...

بين الحانوكاه والكريسماس!

• ويثير هؤلاء شبها متهاوية حول المسألة، فيدرجون تهنئة النصارى بأعيادهم الدينية تحت بند البر والقسط في قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ... أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، علما أن تهنئة النصارى بأعيادهم الكفرية مسألة مستقلة تماما عن سياق الآية لأنها محرمة شرعا، وأن الآية محمولة على الكافر غير المحارب، ومع ذلك نقول: هل حقق نصاری زماننا الشروط التي ذكرتها الآية السابقة لينالوا برنا وقسطنا؟! يدفعنا ذلك للتطرق إلى أحكام أهل الذمة الذين لا يُمنحون "عقد الذمة" من الإمام إلا ببذل الجزية والتزام أحكام الملة، التي جلّتها العهدة العمرية الشهيرة، فهل حقق نصارى زماننا شروطها لينالوا عهدها، أم قد نقضوها من أولها لآخرها؟! بل ولو حققوا شروطها كاملة، لم يجز لنا تهنئتهم في أعيادهم لأنها من شعائر دينهم الباطل، وهو ما لم تفعله القرون المفضلة، فلم يفعله النبي ﷺ ولا الصحابة ولا التابعون.

وعليه فالبر والقسط مع الكافر غير المحارب ممن لم يتورط في أي سلسلة من سلاسل العون على حرب المسلمين، بفعل، أو قول أو مشورة، أو بمجرد التأييد فالمؤيد كالفاعل، وبالحملة فأهل الكتاب اليوم واقعون تحت قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، قال ابن كثير: "لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء"، هذا في حق الذمي، فكيف بالمحارب؟!.

ولو تتبع المهتم مشارب فقهاء التثليث ومنطلقاتهم، سيجد أغلبهم ممن يرفضون تقسيم العالم إلى" دار إسلام ودار كفر" ويرفضون تقسيم الكافرين إلى "ذميين ومعاهدين ومستأمنين"، وينظرون إليها أنها "موروثات تاريخية" فرضتها حوادث بعينها لم تعد موجودة في زماننا ولا يصح إسقاطها على واقعنا!

ومما يلقنه الشياطين في روع هؤلاء أن بفعلهم هذا يكسبون قلوب النصارى إلى الإسلام، ومع أن هذا الافتراض تبريري ليس أكثر، إلا أنه على العكس تماما، فإن تهنئة النصارى في عيدهم "توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل"، ولذلك كيف سيهتدي إلى الإسلام وأنت تحببه بما هو عليه من الكفر وتهنئه عليه؟! بل على هذا النحو فإن النصراني هو الذي يقرّبك إلى دينه! ويدعوك إليه! فأنت هنا مفعول به لا فاعل!

وإن التهنئة اليوم بأعيادهم، لا تخرج عن إطار الود أو الإعجاب أو التقليد أو المداهنة أو المعايشة ونحوها، بل لو نظر العاقل إلى حال المستميتين المتهافتين على النصارى، وجد أن المشكلة لا تقتصر على رأس السنة فحسب، بل هؤلاء مفتونين بالنصارى طوال الدهر، عاكفين على ملاطفتهم ومخالطتهم ومشابهتهم في أفعالهم وعاداتهم وتقاليدهم، بل في حكمهم في "ديمقراطيتهم" في كل شيء، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلوه معهم، ولذلك فالمشكلة عندهم ليست في رأس السنة، بل رأس الأمر الإسلام، وأصله وركنه الشديد الحب والبغض في الله، حب الإيمان وكراهية الكفر، ولذلك كان من دعاء النبي ﷺ: (اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.)

كل هذه الزوايا المنهجية العقدية يستشفها المسلم من دائرة الجدال السنوية حول حكم تهنئة النصارى المشركين بأعيادهم الشركية، فالقضية أخطر وأعمق بكثير مما يحاول أن يصوّره فقهاء هذا الزمان.

وإن نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان مفعِّلا خيار السيف، معطِّلا خيار الجزية؛ هو رد إلهي عقدي حاسم لهذا الجدل المثار في زمن اختلال موازين الولاء والبراء، وغربة التوحيد في زمن التفلت والتفريط.

ولن ينصلح حال الأمة حتى يستوي عندها حكم اليهود بالنصارى، وحكم الحانوكاه بالكريسماس! وحكم المتولي "المطبّع" مع النصارى بحكم المتولي "المطبّع" مع اليهود، وحتى تحتفي الأمة بالمنغمس في صفوف النصارى كالمنغمس في صفوف اليهود، فالتوحيد لا يتجزأ، ومن لم تغنه الآيات والنذر، سيغنيه سيف عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله.


◽ المصدر: صحيفة النبأ العدد 475
الخميس 25 جمادى الآخرة 1446هـ

مقتطف من المقال الافتتاحي:
بين الحانوكاه والكريسماس!
...المزيد

بين الحانوكاه والكريسماس! • ويثير هؤلاء شبها متهاوية حول المسألة، فيدرجون تهنئة النصارى بأعيادهم ...

بين الحانوكاه والكريسماس!

• ويثير هؤلاء شبها متهاوية حول المسألة، فيدرجون تهنئة النصارى بأعيادهم الدينية تحت بند البر والقسط في قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ... أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، علما أن تهنئة النصارى بأعيادهم الكفرية مسألة مستقلة تماما عن سياق الآية لأنها محرمة شرعا، وأن الآية محمولة على الكافر غير المحارب، ومع ذلك نقول: هل حقق نصاری زماننا الشروط التي ذكرتها الآية السابقة لينالوا برنا وقسطنا؟! يدفعنا ذلك للتطرق إلى أحكام أهل الذمة الذين لا يُمنحون "عقد الذمة" من الإمام إلا ببذل الجزية والتزام أحكام الملة، التي جلّتها العهدة العمرية الشهيرة، فهل حقق نصارى زماننا شروطها لينالوا عهدها، أم قد نقضوها من أولها لآخرها؟! بل ولو حققوا شروطها كاملة، لم يجز لنا تهنئتهم في أعيادهم لأنها من شعائر دينهم الباطل، وهو ما لم تفعله القرون المفضلة، فلم يفعله النبي ﷺ ولا الصحابة ولا التابعون.

وعليه فالبر والقسط مع الكافر غير المحارب ممن لم يتورط في أي سلسلة من سلاسل العون على حرب المسلمين، بفعل، أو قول أو مشورة، أو بمجرد التأييد فالمؤيد كالفاعل، وبالحملة فأهل الكتاب اليوم واقعون تحت قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، قال ابن كثير: "لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء"، هذا في حق الذمي، فكيف بالمحارب؟!.

ولو تتبع المهتم مشارب فقهاء التثليث ومنطلقاتهم، سيجد أغلبهم ممن يرفضون تقسيم العالم إلى" دار إسلام ودار كفر" ويرفضون تقسيم الكافرين إلى "ذميين ومعاهدين ومستأمنين"، وينظرون إليها أنها "موروثات تاريخية" فرضتها حوادث بعينها لم تعد موجودة في زماننا ولا يصح إسقاطها على واقعنا!

ومما يلقنه الشياطين في روع هؤلاء أن بفعلهم هذا يكسبون قلوب النصارى إلى الإسلام، ومع أن هذا الافتراض تبريري ليس أكثر، إلا أنه على العكس تماما، فإن تهنئة النصارى في عيدهم "توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل"، ولذلك كيف سيهتدي إلى الإسلام وأنت تحببه بما هو عليه من الكفر وتهنئه عليه؟! بل على هذا النحو فإن النصراني هو الذي يقرّبك إلى دينه! ويدعوك إليه! فأنت هنا مفعول به لا فاعل!

وإن التهنئة اليوم بأعيادهم، لا تخرج عن إطار الود أو الإعجاب أو التقليد أو المداهنة أو المعايشة ونحوها، بل لو نظر العاقل إلى حال المستميتين المتهافتين على النصارى، وجد أن المشكلة لا تقتصر على رأس السنة فحسب، بل هؤلاء مفتونين بالنصارى طوال الدهر، عاكفين على ملاطفتهم ومخالطتهم ومشابهتهم في أفعالهم وعاداتهم وتقاليدهم، بل في حكمهم في "ديمقراطيتهم" في كل شيء، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلوه معهم، ولذلك فالمشكلة عندهم ليست في رأس السنة، بل رأس الأمر الإسلام، وأصله وركنه الشديد الحب والبغض في الله، حب الإيمان وكراهية الكفر، ولذلك كان من دعاء النبي ﷺ: (اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.)

كل هذه الزوايا المنهجية العقدية يستشفها المسلم من دائرة الجدال السنوية حول حكم تهنئة النصارى المشركين بأعيادهم الشركية، فالقضية أخطر وأعمق بكثير مما يحاول أن يصوّره فقهاء هذا الزمان.

وإن نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان مفعِّلا خيار السيف، معطِّلا خيار الجزية؛ هو رد إلهي عقدي حاسم لهذا الجدل المثار في زمن اختلال موازين الولاء والبراء، وغربة التوحيد في زمن التفلت والتفريط.

ولن ينصلح حال الأمة حتى يستوي عندها حكم اليهود بالنصارى، وحكم الحانوكاه بالكريسماس! وحكم المتولي "المطبّع" مع النصارى بحكم المتولي "المطبّع" مع اليهود، وحتى تحتفي الأمة بالمنغمس في صفوف النصارى كالمنغمس في صفوف اليهود، فالتوحيد لا يتجزأ، ومن لم تغنه الآيات والنذر، سيغنيه سيف عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله.


◽ المصدر: صحيفة النبأ العدد 475
الخميس 25 جمادى الآخرة 1446هـ

مقتطف من المقال الافتتاحي:
بين الحانوكاه والكريسماس!
...المزيد

{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} الافتقار والتذلل إلى الله صفة جميلة وحقيقة جليلة، قد ...

{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}

الافتقار والتذلل إلى الله صفة جميلة وحقيقة جليلة، قد استوطنت قلوب المتجردين لله تعالى، أنبيائه وأصفيائه والصالحين، فكم لاذ بها إلى الله الطالبون ولجأ إلى حصنها الخائفون وكم عزت بها النفوس المؤمنة المفتقرة، فالسعادة والحياة الطيبة تكمن في تذلل وافتقار العبد إلى مولاه وخالقه والشقاء كل الشقاء في الاستغناء عن من بيده خزائن الأرض والسماء، وإن الحديث عن هذه العبادة الجليلة تتقاصر الأسطر عن أداء حقها في مقال، لكننا سنقف وإياكم بعض الوقفات لعل الله أن ينفعنا وإياكم ويجعلنا من الخاضعين المتذللين المفتقرين له سبحانه وتعالى.

• نداء وإعلام

ينادي المولى سبحانه الناس كل الناس، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، أقوياء أو ضعفاء، سادة كرماء في أقوامهم أو عبيدا أذلاء، نداء شاملا لا يستثني عزيزا فيهم أو مرؤوسا، عالما كان أو جاهلا حيث يقول عز وجل في محكم تنزيله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر]، قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس أنتم أولوا الحاجة والفقر إلى ربكم فإياه فاعبدوا، وفي رضاه فاسارعوا، يغنكم من فقركم، وتُنْجح لديه حوائجكم (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ) عن عبادتكم إياه وعن خدمتكم، وعن غير ذلك من الأشياء؛ منكم ومن غيركم، (الْحَمِيدُ) يعني: المحمود على نعمه؛ فإن كل نعمة بكم وبغيركم فمنه، فله الحمد والشكر بكل حال" [التفسير].

• دوام الفقر إلى الله

قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله - مبينا حقيقة فقر العبد إلى الله تعالى: "فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر.
وهذا الفقر الذي يشيرون إليه: لا تنافيه الجدة ولا الأملاك. فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جدتهم، وملكهم، كإبراهيم الخليل ﷺ كان أبا الضيفان، وكانت له الأموال والمواشي، وكذلك كان سليمان وداود عليهما السلام. وكذلك كان نبينا ﷺ كان كما قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ} [الضحى]، فكانوا أغنياء في فقرهم. فقراء في غناهم" [مدارج السالكين].

• الفقر الحقيقي

وتابع ابن القيم واصفا الفقر الحقيقي: "فالفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كلّ حال، وأن يشهد العبد في كلّ ذرّة من ذرّاته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه، فالفقر ذاتيّ للعبد، وإنّما يتجدّد له لشهوده ووجوده حالا، وإلّا فهو حقيقة" [المدارج].

• والقلب فقير

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا افتقار القلب: "والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ، ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات: لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده، ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا باعانة الله له؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}" [العبودية].

• باب الافتقار الأعظم

إن في إيجاب الله تعالى على العبد وقوفه بين يدي ربه متذللا خاشعا ومنقطعا عن كل العلائق الدنيوية في اليوم والليلة خمس مرات، لدلالة على شدة فاقته وافتقاره إلى خالقه، فالصلاة هي باب الافتقار الأعظم لو أقامها العبد ظاهرا وباطنا، فقد اشتملت على هيئات وأقوال وأدعية تظهر مدى حاجة العبد وفقره، فالعبد يسأل الله تعالى هدايته وجوبا خلا السنن سبع عشرة مرة في اليوم والليلة، في إشارة إلى مدى افتقاره للهداية جميع أحواله، وأما عن الهيئات مثل الركوع والسجود ففيها من الانكسار والافتقار والتذلل ما فيهما؛ ولهذا كانتا من أركان الصلاة ولا تتم الصلاة إلا بهما، فحري بالعبد أن يعظم هذه الشعيرة ويقيمها ظاهرا وباطنا ويستشعر مدى فاقته وحاجته وهو واقف بين يدي مولاه جل وعلا، مقبلا عليها بقلبه وجوارحه، فإذا ما أقامها على هذا الوجه فقد أفلح وكانت له نورا وبرهانا.


◽ المصدر: صحيفة النبأ العدد 475
الخميس 25 جمادى الآخرة 1446هـ

مقتطف من مقال:
{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}
...المزيد

{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} • جميع الخلق مفتقرون قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في ...

{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}

• جميع الخلق مفتقرون

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح الحديث القدسي: (يا عبادي؛ كلُّكُم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكم، عبادِي؛ كلُّكُم جائعٌ إلا من أطعمتُه فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي؛ كلُّكُم عارٍ إلا من كسوتُهُ، فاستكسوني أكسكُم..): "هذا يقتضي أنَّ جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارِّهم في أمور دينهم ودنياهم، وإنَّ العباد لا يملكون لأنفسهم شيئاً مِنْ ذلك كلِّه، وفي الحديث دليلٌ على أنَّ الله يحبُّ أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم، مِنَ الطَّعام والشراب والكسوة وغير ذلك، كما يسألونه الهداية والمغفرة.. وكان بعضُ السَّلف يسأل الله في صلاته كلَّ حوائجه حتّى ملحَ عجينه وعلفَ شاته" [جامع العلوم والحكم].

• افتقار الأنبياء لربهم

والدعاء من مظاهر الافتقار، وقد تجلى في دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكان من دعاء النبي ﷺ: اللّهمّ رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت [أبو داود]، ودعا موسى عليه السلام في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص]، وقال تعالى عن أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الانبياء]، فحري بالعبد أن يقتدي بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويظهر افتقاره إلى مولاه ويرفع حاجته إليه في سرائه وضرائه.

• الافتقار والسعادة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن سعادة العبد: "سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه أي في أن يشهد ذلك، ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل، والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ ۝٦ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ} [مجموع الفتاوى]. وقد أحسن العبارة إذ قال رحمه الله: "والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعا له، كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله".
وقد بين في موضع آخر مبينا كرامة الله لمن يفتقر إليه على خلاف ما سيلاقيه من الخلق لو احتاج إليهم قائلا: "فالرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم".

• من ثمار الافتقار

إن في افتقار العبد إلى خالقه ومولاه آثارا حسنة ليست على مستوى الذات فحسب بل على المجتمع المسلم أجمعه، وفي اعتقاده أن كل ما حباه الله تعالى من علم أو جاه أو قوة أو مال أو ولد فهو محض توفيق الله وأن الله هو المتفضل عليه وهو القادر أن يسلبه ما آتاه من العطايا والنعم؛ مدعاة لخفض جناحه للمؤمنين فهو عندئذ لا يرى أن ما حصله هو من ذات نفسه، فيكون بافتقاره متساويا مع إخوانه ولا يرى نفسه أنه خير منهم ولا يفضلهم بشيء وهذا مما يعزز الإخوة الإيمانية ويصونها من البغي والفخر كما قال رسول الله ﷺ: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)[مسلم].

وختاما نوصي أنفسنا والمسلمين، بدوام الافتقار إليه سبحانه لاسيما ونحن نعيش زمن الغربة واشتداد الفتن فما أحوج العبد أن يتعاهد قلبه ويحرزه إلى ملجأ الافتقار ويجعل ذلك دأبه فيبقى خائفا وجلا ذليلا منكسرا خاضعا خاشعا لمولاه الحق سبحانه، فكل النعم الدينية والدنيوية منه سبحانه فهو المنعم المتفضل كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل]، والحمد لله رب العالمين.


◽ المصدر: صحيفة النبأ العدد 475
الخميس 25 جمادى الآخرة 1446هـ

مقتطف من مقال:
{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}
...المزيد

الإخلاص تنقض شرك النصارى • {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي أنه الواحد الأحد المتفرد بالألوهية ...

الإخلاص تنقض شرك النصارى

• {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
أي أنه الواحد الأحد المتفرد بالألوهية والربوبية، لا شريك له من خلقه كما أشركت النصارى معه عيسى وأمه مريم عليهما السلام، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة]، وقال سبحانه:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء]

• {اللَّهُ الصَّمَدُ}
أي أن الله هو المقصود بالحوائج، فقد انتهى سؤدده، وكل الخلق محتاج إليه وهو غير محتاج لهم، وقد قال الله عن عيسى وأمه عليهما السلام: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ..} [المائدة]، قال ابن كثير: "كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوامه بغيره، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوباً لا ربّاً"

• {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}
أي: ليس له والد ولا ولد، وفيه ردّ على النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله، قال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۝٨٨ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ۝٨٩ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ۝٩٠ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا} [مريم]

• {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
أي ليس له كفؤ في ذاته، ولا أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله، ومن جعل لله كفؤا من خلقه، كالنصارى الذين اتخذوا عيسى وأمه مريم عليهما السلام إلهين من دونه، فقد كفروا أعظم الكفر، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ..} [المائدة}


◽ المصدر: إنفوغرافيك صحيفة النبأ العدد 475
الخميس 25 جمادى الآخرة 1446هـ
...المزيد

أبواق الطواغيت • من الناحية الشرعية، فإن العاملين في وسائل الإعلام النصيرية كفار مرتدون محاربون ...

أبواق الطواغيت

• من الناحية الشرعية، فإن العاملين في وسائل الإعلام النصيرية كفار مرتدون محاربون يستوي في ذلك ذكورهم وإناثهم من المراسلين والمحررين والمصورين و "الممثلين" وكل من له صلة بالمنظومة الإعلامية النصيرية التي عكفت سنوات تناصر الطاغوت وتنافح عنه وتؤيد جرائمه، وإن تبديل هؤلاء جلودهم بين ليلة وضحاها من "التشبيح إلى الثورة" يُعد استخفافا بالدماء وإمعانا في الإجرام، وإن حكم الإسلام فيهم هو القتل ردةً جزاء وفاقا لأنهم أولياء وأعوان الطاغوت حكمهم حكمه لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

مقتبس من افتتاحية صحيفة النبأ العدد 472
...المزيد

سوريا المستقبل! إنها ثورة جاهلية تسعى إلى "ترسيخ مفهوم الدولة"، وقطعا يقصدون بها "الدولة ...

سوريا المستقبل!

إنها ثورة جاهلية تسعى إلى "ترسيخ مفهوم الدولة"، وقطعا يقصدون بها "الدولة المدنية" التي حاربوا لأجلها الدولة الإسلامية، إنها ثورة وليست جهادا في سبيل الله، ثورة تحررية من "نظام قمعي" يستأثر بالسلطة، بغية الوصول إلى نظام آخر "ديمقراطي" يتقاسم السلطة، هذه هي مفاهيم وأبجديات الثورات، وهذه هي شكل "سوريا الحرة!" بعد حقبة "سوريا الأسد!" تتلخص في إسقاط تمثال قبيح وبناء آخر على أنقاضه بوجه حسن!

افتتاحية النبأ للعدد 472 "سوريا الحرة وسوريا الأسد"
...المزيد

على خطى بوش أوهام انتصارات • عندما وقف الأحمق المطاع جورج بوش على رأس حاملة الطائرات أبراهام ...

على خطى بوش أوهام انتصارات

• عندما وقف الأحمق المطاع جورج بوش على رأس حاملة الطائرات أبراهام لنكولن ليعلن انتهاء العمليات القتالية في العراق، كان -وبلا شك- يعلم بانطلاق العمليات الجهادية ضد الجيش الأمريكي، ولكن كان هناك حتما من أقنعه أن الوضع تحت السيطرة، وأشار عليه أن يعلن الانتصار في حرب العراق ليستفيد من ذلك في تبريرها، وإثبات صحة القرار بشنّها رغم معارضة الكثيرين لها، واليوم يخرج المسؤولون في إدارة أوباما ليعلنوا عن قرب الإعلان عن انتصار الولايات المتحدة في حربها على الدولة الإسلامية قبل رحيله عن البيت الأبيض في نهاية هذا العام، ليحفظوا بذلك ماء وجهه، بعد أن كان مشروعه الأساسي الذي انتخب بناء عليه هو إخراج الجيش الأمريكي من العراق، ويكون هذا الإعلان أيضا مساعدا لحزبه الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية القادمة.

لكن أوباما وإدارته كلهم يعرفون أن إعلانه الانتصار في الحرب ضد الدولة الإسلامية لن يغير من الوقائع التي فرضتها الدولة الإسلامية على الأرض، وأن المعركة التي اختار أوباما الشراكة فيها مع المرتدين، بدل أن يخوضها وحده، ستنتهي -عاجلا أم آجلا- بعزوف عن المشاركة في الحرب التي لن يجدوا لها نهاية أو يتحصلوا منها على نتيجة حاسمة، في الوقت التي ستستنزف جهودهم وأموالهم ودماءهم، وتشغلهم عن تحصين مواقع هي أكثر حيوية لأمريكا من مناطق الحرب ضد الدولة الإسلامية، كشرق آسيا والأمريكيتين وأوروبا، خاصة في ظل المنافسة الشديدة مع القوى الصاعدة إلى ساحة الهيمنة أو العائدة إليها.

ويخفون عن الناس حقيقة أن مساحة المعركة بين أهل التوحيد وأهل الشرك والتنديد هي أوسع اليوم من أن تتمكن أمريكا وحلفاؤها من تغطيتها بطائراتها وجيشها، لذلك يحرصون على تركيز العدسات على العراق والشام، حيث تحشد أمريكا طائراتها وجيشها، وتنفق المليارات من أموالها، في محاولة لإثبات أن الحملة الصليبية تسير على الطريق الصحيح وأنها تحقق النتائج المرجوة منها، وصولا إلى مرحلة إعلان الانتصار التي ينتظرها أوباما بفارغ الصبر.

فجنود الخلافة باتوا اليوم ينتشرون -بفضل الله- على امتداد قارتي آسيا وأفريقيا، ويخترقون عمق أوروبا، وعيونهم على أمريكا، ويرقبون أي ثغرة في صفوف أعدائهم ليركزوا الهجوم عليها، ويحققوا التمكين في تلك البقعة من الأرض ويلحقوها بدار الإسلام، وما قصص بطولات إخواننا في اليمن وجزيرة العرب، وسيناء والولايات الليبية والجزائر، وشرق إفريقية وغربها، والقوقاز وخراسان والفلبين عنا ببعيد، إذ كل بؤرة للجهاد في هذه المناطق مهيئة لأن تتحول إلى ما عليه العراق والشام اليوم من التمكين وإقامة الدين واجتماع الموحدين بإذن الله.

وفي الوقت ذاته فإن انحياز جنود الخلافة عن مساحات من الأرض في العراق والشام، متحرفين لقتال، أو متحيزين إلى فئة، لا يعني بحال من الأحوال أن أعداءها على الأرض من مرتدي الروافض والنصيرية وعلمانيي الكرد والصحوات باتوا أكثر منها قوة وأشدّ منها بأسا، بل الواقع يشهد أنهم في حال من الضعف شديد وأنهم رغم آلاف الضربات الجوية لم يتمكنوا من تحقيق انتصارات حاسمة ضد جيش الخلافة، وأن تعهد أمريكا بإنزال الآلاف من جنودها لمؤازرتهم شاهد جديد على ضعفهم وعجزهم عن حسم المعركة لوحدهم، وبالتالي فإن استعادة الدولة الإسلامية لزمام المبادرة في ظل أي تراجع للدعم الأمريكي هو أمر متحقق، بإذن الله.

إن أمريكا وحلفاءها اليوم قد يتمكنون بصعوبة من توسيع مساحة دعمهم للمرتدين لتشمل ولاية طرابلس كما يعلنون على استحياء، ولكن هل يمكنهم توسيع الدعم أكثر ليشمل ولايات أخرى في حال منّ الله على جنود الخلافة فيها بالفتح، إنه أمر مشكوك فيه، وسيزيد حجم الشك في ذلك مع توسيع الدولة الإسلامية لمساحة المعركة بشكل أكبر، ومع تزايد قدرات جنودها ومناصريها على تحقيق اختراقات في عمق الدول الصليبية، ما سيدفعهم إلى تفضيل تحصين جبهاتهم الداخلية على خوض المغامرات وراء البحار.

إن الانتصار الذي يبحث عنه أوباما اليوم، هو أقل قيمة من الانتصار الذي ادّعاه بوش بالأمس، كما إن ما يتباهون به من قتلهم لقادة الدولة الإسلامية اليوم، سيحقق لهم من النصر أقل مما حققه لهم قتلهم بالأمس للشيخ الزرقاوي والشيخين من بعده وإخوانهم، رحمهم الله، ومن تعلم من درس غيره، وفّر على نفسه عناء التجربة وتكاليفها، ولله عاقبة الأمور.

◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 27
السنة السابعة - الثلاثاء 11 رجب 1437 هـ

المقال الافتتاحي:
على خطى بوش أوهام انتصارات
...المزيد

الأذكار أهميتها وفضائلها • إن ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان هو روح العبادة وأحد مقاصدها، فهو ...

الأذكار أهميتها وفضائلها

• إن ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان هو روح العبادة وأحد مقاصدها، فهو الطارد للنسيان والغفلة، وهو الذي يملأ القلب بالإيمان والحكمة، فهو الذي يورث القرب من الإله، ويجعل في القلب دوام المراقبة لله، لذلك فإن الذكر هو طريق الإحسان، وأعظم ما يوصل لمحبة الرحيم الرحمن.

جعل الله الذكر حياة للقلوب وجعله أمارة للقلب الحي، عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت) [رواه البخاري].

وقد أمر الله سبحانه عباده بالذكر في أكثر من موضع من كتابه، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [سورة البقرة: 152]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ} [سورة الأعراف: 205]، وقال الله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [سورة العنكبوت: 45]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الجمعة: 10]، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب: 35]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [سورة الأحزاب: 41-42].

وقد حثّ سبحانه عباده على الذكر في كل أحوالهم قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ} [سورة آل عمران: 190-191].

ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما روت عنه عائشة -رضي الله عنها- (يذكر الله على كل أحيانه) [رواه مسلم].

* فضل الذكر وفوائده:

لقد وعد الله عباده الذاكرين بعظيم الأجر والثواب ورتب على الذكر ما لم يرتب على غيره من الأعمال، ولو لم يكن في الذكر إلا أن الله سبحانه يذكر من ذكره من عباده الموحدين لكفى بذلك شرفا وفضلا ومنزلة، قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [سورة البقرة: 152]

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) [متفق عليه].

وعن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفرِّدون)، قالوا: وما المفرِّدون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) [رواه مسلم].

وعن عبد الله بن بسر، أن رجلا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله) [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه].

قال ابن القيم: «الذكر يوجب صلاة الله -عز وجل- وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح وفاز كل الفوز قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [سورة الأحزاب: 41-43]» [الوابل الصيب].

كما أن الله سبحانه جعل الذكر سببا للفلاح والنصر فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الأنفال: 45].

فما أحوج المجاهدين خاصة والأمة عامة إلى الذكر.


◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 27
السنة السابعة - الثلاثاء 11 رجب 1437 هـ

مقال:
الأذكار أهميتها وفضائلها
...المزيد

الأذكار أهميتها وفضائلها فضائل في أذكار مخصوصة: لقد خصّ الله سبحانه أنواعا من الذكر بمزيد من ...

الأذكار أهميتها وفضائلها

فضائل في أذكار مخصوصة:

لقد خصّ الله سبحانه أنواعا من الذكر بمزيد من الأجر والفضل ينبغي للمسلم أن يعرفها كي لا يفوته الخير.

فضل التهليل:

عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الذكر: لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) [رواه الترمذي].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك) [متفق عليه].

وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرار، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل) [متفق عليه].

فضل الاستغفار والتوبة:

عن الأغر المزني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة) [رواه مسلم].

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مئة مرة) [رواه مسلم].

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) قال: (ومن قالها من النهار موقنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة) [رواه البخاري].

فضل التسبيح والتحميد والتكبير:

عن الأغر المزني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله، في اليوم مئة مرة) [رواه مسلم].

وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مئة مرة) [رواه مسلم].

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) [متفق عليه].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر) [متفق عليه].

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده) [رواه مسلم].

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض) [رواه مسلم].

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟) فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: (يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة) [رواه مسلم]

وعن جويرية، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرةً حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة، فقال: (ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟) قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته).

وفي رواية: (سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته) [رواه مسلم].

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) [رواه مسلم]

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة، بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) [رواه مسلم]

فضل (لا حول ولا قوة إلا بالله)

عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة)، فقلت: بلى، يا رسول الله قال: (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله) [متفق عليه].

وعن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته) [رواه البخاري].
...المزيد

رموز .. أم أوثان (3) كثيرة هي التماثيل في العالم، وإن كانت تتفاضل في مادة صنعها وجودة نحتها ...

رموز .. أم أوثان (3)

كثيرة هي التماثيل في العالم، وإن كانت تتفاضل في مادة صنعها وجودة نحتها وتصويرها، ولكن قليل منها ما اتخذه الناس أصناما تعبد، فالتمثال لا يتحول إلى صنم من تلقاء نفسه إنما بوجود من يعبده، وكذلك «الرموز» التي يتخذها الناس، فهم كباقي البشر وإن كانوا يتفاضلون في صفاتهم، ولكن ما يجعل منهم «رموزا» من دون الناس هو تعلق قلوب وأبصار الناس بهم، وطاعتهم، واتباعهم، والاستدلال بسيرهم على صحة الطريق والمنهج.

وإننا نجد في صفحات التاريخ أن مزاج الناس في اختيار «الرموز» يتغير بحسب الظروف التي يعيشونها وما تتطلبه هذه الظروف، ففي زمن الحرب يكون «الرموز» هم الأبطالَ المحارِبين الذين يقهرون الأعداء، وفي زمن القحط والجوع يكون «الرمز» واحدا من الكرماء الذين يجودون بمالهم لإطعام الفقراء والمحتاجين، وفي زمان السلم والرفاه يكون أهل العلم والأدب والعمران هم «الرموز» الذين يرتفع شأنهم ويشير إليهم الناس بالبنان، وهذا ما يمكننا أن نعممه على كل الظروف التي تفرز احتياجات خاصة، من يلبيها يمكن أن يصبح «رمزا» في عيون الناس، لذلك يتمسك بعض «الرموز» بحال معينة، أو يسعى لأن تسود ظروف معينة يكون له فيها الأفضلية على غيره، فيحافظ بذلك على ميزته «الرمزية»، أو يقوم البعض بأفعال معينة تلقى إعجاب الناس، فيرتفع بذلك صيتهم، ويعلو مقامهم بينهم، ويتحولون إذا ما حافظوا على ميزاتهم المكتسبة إلى «رموز» تتعلق بها القلوب، وتلهج بذكر محاسنها الألسنة والأقلام.

يضاف إلى ذلك في عموم الأمم عقلية البحث عن «المنقذ» أيّاً كان، والتعلق بمن يعتقدون أنهم باتباعه سيصلون إلى الحالة التي يتمنون الوصول إليها، وذلك حين تكون الأمة في حال سيئة، فيكثر فيها الأدعياء ممن يزعمون أن بيدهم طريق الخلاص، فتتعلق بهم القلوب والآمال، وبمقدار امتلاك هؤلاء «الرموز» للقدرة على إقناع الناس بصحة طريقتهم ومنهجهم في تحقيق الخلاص يزداد تعلق الناس بهم، والغلو في محبتهم، فمنهم من يقودهم زعيما، ومنهم من يسودهم ملكا، ومنهم من يستخفهم فيزعم النبوة فيهم أو الألوهية عليهم.

وإن أمتنا باتت لا تختلف في ذلك عن بقية الأمم، بل تتبعها في ذلك بمقدار بعدها عن الصراط المستقيم واتباعها للسبل، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سُنن من كان قبلكم، شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) [رواه البخاري ومسلم]، وخاصة في الأزمنة الأخيرة التي قل فيها العلم، وفشا فيها الجهل، وابتعد فيها الناس عن الكتاب والسنة وتعلقوا بالرجال، وتسلط الكفار على المسلمين، حيث كثر اتخاذ الناس «رموزا» والذين كان كثير منهم من أهل الباطل الذين بدؤوا دعوتهم بشيء من الحق، كالدعوة إلى الزهد، أو الإصلاح، أو الانتصار للمظلومين، أو ما شابه، فتبعهم الجهلة على ذلك، لما ظهر منهم من زهد أو علم أو عبادة أو دعوة للحق، ثم ما لبثوا أن قادوا أتباعهم إلى ضلال، والشواهد في التاريخ أكثر من أن تحصى، فمن هؤلاء «الرموز» من كان باطنيا خبيثا يخفي عن الناس حقيقة مذهبه ويظهر لهم ما يحبون من العادات والعبادات، حتى إذا استحكم حبهم له، وضمن تبعيتهم له أظهر لهم مذهبه الباطل ودعاهم إلى اتباعه، والعمل به، بعد أن يكون عندهم مصدّقا في كلامه، مؤتمنا على دينهم وأنفسهم، ومنهم من ضل بعد أن وجد غلو الناس في شخصه، ورفعهم له فوق مقامه، فطغى وتجبر وصار لا ينفك يطلب من أتباعه المزيد من شعائر إجلاله وتعظيمه، ويبحث لهم عن المسوغات لذلك مما يوحيه إليه شيطانه من الضلالات والمنكرات، ومنهم من لبّس عليه إبليس بأن الناس لا يلتفتون إلى الكتاب والسنة، وأنهم يجب أن يتعلقوا بشخصه، ليقودهم بذلك إلى محبّة الله وطاعته، ومنهم من جعل ذلك قاعدة في الوصول إلى رضا الله تعالى، بأن أقنع السفهاء من أتباعه أن قلوبهم لا يمكن لها أن تحتمل محبة الله العظيم، ولذلك يجب أن يتعلقوا به، ثم يتدرجوا صعودا إلى محبة الله تعالى، كما يفعل مشركو الطرق الصوفية اليوم.

و«الرموز» الذين نشاهدهم اليوم وقد تعلقت بهم أبصار الناس وأفئدتهم لا يخرجون في الغالب عن الحالات التي سبق ذكرها، فإما أن أفعالهم وصفاتهم هي مما يرغبه الناس ويحتاجونه، أو أنهم يرجون فيهم الخلاص من واقع بائس يريدون تغييره، أو أنهم يرون في اتباعهم طريقا للوصول إلى الله ورضوانه.


◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 27
السنة السابعة - الثلاثاء 11 رجب 1437 هـ

مقتطف من مقال:
رموز .. أم أوثان (3)
...المزيد

رموز .. أم أوثان (3) ففي ظل الواقع البائس الذي عاشه المسلمون خلال القرون الماضية خرج الكثير ممن ...

رموز .. أم أوثان (3)

ففي ظل الواقع البائس الذي عاشه المسلمون خلال القرون الماضية خرج الكثير ممن يزعم أنه سيحقق الإصلاح في حياة الناس الدنيوية، أو يدعوهم إلى اتباعه في طريقته ومنهجه الديني، وازدادت هذه الظاهرة وضوحا بعد عصر سايكس وبيكو ودويلاتهما، حيث بدأت الأحزاب والفصائل والتنظيمات التي تنتسب للإسلام بالظهور، وبرز في كل منها «رموز» يزعم كل منهم أنه وحزبه هم من سيقود الأمة إلى الخلاص من الواقع الأليم، وأنهم سيجدّدون الخلافة، وسيطبقون الشريعة، ويقيمون العدل، ويزيلون الظلم، ويرجعون الأمة إلى العصر الذي كان فيه الخليفة يقول للغيمة «أمطري حيث شئت فإن خراجك عائد إلي»، وإذا تطاول أحد من ملوك الأرض انطلق إليه جيش أوله عنده وآخره في حاضرة المسلمين، فتعلّق الناس بهذه «الرموز» تعلق الغريق بحبل النجاة، وكل من هؤلاء «الرموز» يخط للناس منهجا جديدا لتحقيق أحلامهم، أو لنكون أكثر دقة فإن كلا منهم كان يقدم لأتباعه نوعا خاصا من المخدرات التي لا تجعلهم غافلين عن الواقع فحسب، بل أيضا غافلين عن مدى موافقة مناهجهم لكتاب الله وسنة نبيه، عليه الصلاة والسلام، فبات في الواقع عشرات السبل على رأس كل منها شيطان يدعو إلى النار، وصرنا نرى من عجائب الأمور أن صار أتباع الأحزاب والتنظيمات كلما خطوا انحرافا جديدا بحثوا عن مسوغ له من أفعال «رموزهم» لعلمهم اليقيني أن لا أحد من حزبهم يجرؤ على انتقاد أفعال أولئك «الرموز»، وبالتالي يصبح الفعل أو القول مهما بلغ من الضلال «شرعيا» في دينهم ما دام أحد «الرموز» قد قام به، أو رضيه، أو لمجرد السكوت عنه، فصاروا بذلك أربابا يعبدون من دون الله، يشرعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله.

وإننا نرى اليوم أن الضالين من أتباع تلك الفصائل يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم ويرفضون السماع لمن يدعوهم إلى الحق بمجرد أن يذكر «رموزهم» بسوء، بل ويزداد تعصب كثير منهم لتلك «الرموز» كلما زادت حدة الهجوم عليهم لبيان حقيقتهم، فشابهوا بذلك حال المشركين الذين كانوا يحاربون الرسل إذا ما بينوا لهم حقيقة الأوثان التي يعبدونها، كما وصف الله حال بعض منهم بقولهم {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، وقولهم (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ).

وبالتالي لا بد من وضع كل من أولئك «الرموز» في حجمه الحقيقي وفق المقياس الشرعي، فمن كان منهم من الصالحين الذين غلا الناس في محبتهم بعد وفاتهم، حفظنا له حقه، وسعينا إلى هدم طريقة أتباعه في تقديسه والغلو فيه، واتّباعه من دون أمر الله ورسوله، ومن كان في نفسه ضالا أو مرتدا بيّنّا للناس حكمه، وحكم طريقته ومنهجه، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة، ولا يمكن أن ندعو الناس إلى التوحيد، مع تركنا لأولئك الذين يحرِفون الناس عن طاعة الله إلى طاعة أنفسهم، وعن اتباع رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إلى اتباع طرقهم ومناهجهم الضالة المنحرفة، إنها معركة واحدة يجب أن نخوضها، فندعو إلى التوحيد، ونحمل فأس إبراهيم -عليه السلام- لنحطم «الرموز» التي يعبدها الناس من دون الله، بأن نزيل عن أولئك البشر المعبودين المتّبَعين «رمزيتهم» ونعيدهم بشرا من لحم ودم، يأكلون ويشربون ويتزوجون، يتمنون ويشتهون، يرجون ويخافون، يهتدون ويضلون، لا حق لهم في طاعة ولا اتباع، إلا ما أذن به الله.

إن معركة تحطيم «الرموز» وإعادة الناس إلى الكتاب والسنة، هي المعركة الأطول والأصعب، ولكنها رغم ذلك تبقى من أهم المعارك التي يجب أن نخوضها وننتصر فيها، ولله عاقبة الأمور.


◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 27
السنة السابعة - الثلاثاء 11 رجب 1437 هـ

مقتطف من مقال:
رموز .. أم أوثان (3)
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً