وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم تتشوق النفس البشرية للتعرف على ما هو كائن في قابل الأيام، سواء ...

وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم


تتشوق النفس البشرية للتعرف على ما هو كائن في قابل الأيام، سواء عما يتعلق بمستقبل الإنسان نفسه أم بمصير البشرية كلها وصولا إلى قيام الساعة، ولعل في انتشار الكهنة والعرافين في كل أمم الشرك خير دليل على ذلك، إذ يُنفق المشركون كثيرا من أموالهم طلبا لمعرفة المستقبل الذي يزعم أولئك الكذبة الدجالون معرفته.

وفي الوقت نفسه فإن الله سبحانه -الذي لا يعلم الغيب إلا هو- أوحى إلى بعض عباده وهم الأنبياء -عليهم السلام- في جملة ما أوحى إليهم أمورا هي من الغيب، تخص ما هم ملاقوه وأتباعهم في أيامهم القادمة، ولعل أكبر مثال على ذلك، ما أوحاه -تعالى- للمرسلين السابقين عن بعثة أخيهم محمد، صلى الله عليه وسلم، وأمره لهم بالإيمان به ونصرته هم وأتباعهم، وأخذ الميثاق منهم على ذلك.

وكذلك فإن نبينا -عليه الصلاة والسلام- بلَّغ من جملة ما بلَّغه عن ربه -تعالى- من العلم أمورا تحصل بين بعثته وقيام الساعة، منها ما هو من أخبار الفتن والملاحم التي تكون في آخر الزمان، ومنها ما هو من أشراط الساعة التي يجعلها الله -سبحانه- علامات على اقتراب قيامها، فلا تقوم إلا بعد ظهور هذه الأشراط.

ولا زال المسلمون في كل عصر يولون هذه الأحاديث الاهتمام الكبير، فيؤمنون بما فيها من العلم، ويعلِّمونها، ويبلِّغها كل قرن للذي يليه، وكما في كل مسألة من مسائل الدين الكثيرة التي ضل فيها أقوام، فإن طوائف كثيرة من الناس قد ضلت في هذه القضية الهامة، فغلوا فيها إفراطا أو تفريطا، بين متعلق بها أشد التعلق يريد أن يُسقط كل ما يسمعه من أنبائها على واقعه المعاش، هربا من ضغوط عليه أو طمعا في مصير يطمح إليه، وبين قالٍ يريد أن يردّ هذه الأحاديث كلها، ويكفر بها، لأنه لا يعتقد بما ورد فيها من أمور لا تتوافق مع عقله القاصر.

والمؤمن يعمل بالمسألة كما أراد الله سبحانه، فلا يندفع في عالم من الجهل، يتتبع كل كلمة لا يعرف صدقها فيجعلها من محكمات الدين، ولا يزهد في هذا الباب من العلم الذي نزل به الروح الأمين من لدن رب العالمين، وبلغه إلى رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام، ونقله عنه خيار الناس من الصحابة والتابعين، ولا زال مدار اهتمام وتعليم له من أهل العلم الراسخين، ومن أهم أسس المنهج النبوي في هذا الباب:

• الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسنة

فلا شك أن من أصول أهل الإيمان أن يؤمنوا بكل ما جاءنا من النبي، عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك الإيمان بما ورد في الكتاب والسنة من أحاديث الفتن والملاحم، فقد ورد كثير مما يتعلق بهذا الباب في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يصح إيمان امرئ لا يؤمن أن كل ما فيه حق، وأنه من الله تعالى، وكذلك الإيمان بكل ما صح عن النبي، عليه الصلاة والسلام، وإن لم يعقله، أو يدرك مغزاه، وأن لا يكون في صدره حرج منه، كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
ولذلك نجد أن أئمة السلف جعلوا الإيمان بالمسائل الغيبية التي أنبأ النبي -عليه الصلاة والسلام- بحدوثها في آخر الزمان في كتب العقيدة التي كتبوها للناس، مبينين من خلالها اعتقاد أهل السنة والجماعة الذين لا يزيغ عن عقيدتهم إلا هالك، وما كان اهتمامهم الكبير بإبراز هذه المسائل إلا خوفا على المسلمين من أن يفتنهم أهل الضلال عنها، ويدفعوهم إلى الكفر ببعض ما ورد عن النبي -عليه الصلاة والسلام- اتباعا لأهواء الذين لا يعلمون.

قال ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه، مثل: حديث الإسراء والمعراج، ومن ذلك أشراط الساعة، مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم -عليه السلام- فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل"، انتهى كلامه رحمه الله.

ولا يشترط تواتر الأحاديث لوجوب الإيمان بها، بل إذا صح الحديث عند علماء الحديث فإننا نؤمن ونعمل به، خلافاً لأهل البدع الذين اشترطوا تواتر الحديث لإثبات أمور العقائد، وادعوا أن الحديث غير المتواتر لا يفيد العلم اليقيني.

ولا يجوز اعتقاد أن بعض الأخبار المستقبلية قد نسخ، لأن النسخ يكون للأحكام لا للأخبار، فما أخبر عنه الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كله حق وصدق، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، وقال عن نبيه، صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4].

• الحذر من الأحاديث المكذوبة والتأويلات الفاسدة

ولما كانت القضية هنا تتعلق بما ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وجب التأكد من نسبة الأقوال إليه، قبل الإيمان بها أو نسبتها إليه عند تبليغها للناس، وخاصة أن باب الفتن والملاحم من الأبواب التي كثر الكذب فيها من أهل الضلال الذين حاولوا الانتصار لضلالهم من هذا الطريق، وخاصة الروافض الملاعين الذين أكثروا من الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- وآل بيته، ووضعوا قصصا كثيرة يزعمون من خلالها انتصار ضلالهم في آخر الزمان.

وكذلك فإن كثيرا من أحاديث الفتن والملاحم وصلتنا من طرق ضعيفة لا يقوم بها دين، فالحديث الضعيف وإن لم يكن شديد الضعف فهو لا يفيد العلم اليقيني، بل يفيد الظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً، ولكن من الجهة الأخرى لا يُكذب المسلم ما جاء في الأحاديث الضعيفة من أخبار، وإن لم يؤمن بها، إلا إذا جاء في الأحاديث الصحيحة ما يعارضها وينفي صحة ما جاء فيها، لأن بعض الأحاديث تختلف فيها اجتهادات أهل العلم بالحديث فيصححها بعضهم ويضعفها آخرون.

والإيمان بما ورد من الغيبيات يقتضي أن نصدق بالأخبار على ظاهرها، خلافاً لأهل البدع الذين يسمون أنفسهم العقلانيين ومن على شاكلتهم حيث ادعوا الإيمان بالغيب ثم صرفوا كثيراً من النصوص عن ظاهرها، فلا نتأول أحاديث الفتن والملاحم تأولا يحرفها عن حقيقتها، بل نؤمن بما جاء فيها، ونمررها كما جاءت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى يظهر تأويلها واضحا جليا في الوقت الذي يأذن به الله عز وجل.

والواجب على المسلم الرجوع إلى تفسير أهل العلم للآيات والأحاديث التي فيها أخبار عن أشراط الساعة وغيرها من الأمور المستقبلية، كما هو شأن المسلم دائماً، ألا يفسر القرآن برأيه ولا بآراء أهل البدع والضلال.

وكذلك فإنه ينبغي الابتعاد عن إسقاط النصوص التي تتضمن إشارات إلى أحاديث آخر الزمان على واقع المسلمين في أي زمان دون برهان بيّن من الشريعة، ففي هذه الهاوية زلَّت كثير من الأقدام، وفي هذا الطريق ضلت طوائف من الناس، وسنسعى -بإذن الله- إلى الحديث عن هذا الجانب الخطير من جوانب الإيمان بأحاديث الملاحم والفتن، والله الهادي إلى سواء السبيل.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 107
الخميس 5 ربيع الأول 1439 ه‍ـ
...المزيد

لقد كان في قصصهم عبرة فاذهب أنت وربك فقاتِلا (2) الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ...

لقد كان في قصصهم عبرة
فاذهب أنت وربك فقاتِلا (2)

الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ومنذرين، والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سلام الله عليهم أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والدين، أما بعد...

إن لله -عز وجل- سننا لا تتبدل، وقضاء لا يتغير، وإن المرء إذا سار على خطى قوم كانت خاتمته كخاتمتهم، وعاقبته كعاقبتهم، فإن سنن الله لا تحابي أحدا، وقضاؤه ماض أبدا، واللبيب من اعتبر بغيره.

إن من أعظم القصص التي ذكرها الله في كتابه المجيد لقصة نبيه موسى -عليه السلام- مع قومه، بني إسرائيل، إذ ذكرها الله مرارا وتكرارا، كاملة ومجزأة، عامة ومفصلة، وما ذلك إلا دليل على عظمة ما جرى فيها من أحداث، وعلى ما فيها من عبر نفيسة، ودروس قيمة، وليس هذا مقام ذكرها كاملة، لكننا سنذكر -بعون الله- قصته مع الجبارين.

لقد كان الجبارون قوما أولي قوة وبأس شديد، وكانوا يسكنون قرى محصنة في الأرض المقدسة، فلما أنجى الله موسى وقومه من فرعون وجنده، بعد أن أراهم آياته، وشق لهم في البحر طريقا يبسا، وفرق لهم الماء فرقا، ونصرهم على عدوهم بلا جهد منهم أو نصب، أمرهم بقتال الجبارين، ودخول الأرض المقدسة، فذكَّرهم نبي الله موسى بفضل الله عليهم، فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، ثم أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وقتال قومها، وضمن لهم النصر إن هم فعلوا ذلك، وحذرهم من تولية الأدبار، ومن سوء العاقبة، {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]، فما كان منهم إلا أن أجابوه بكلام ملؤه السخرية {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22]، إذ لا يُعقل أن يخرج قوم عتاة جبابرة من أرضهم بلا قتال، وقد حصَّنوا قراهم، وأعدوا للحرب عدتها، وإنما قال بنو إسرائيل ذلك استهزاء واستخفافا، فقال لهم رجلان من قومهم، يخشون ربهم ويخافونه، قد أنعم الله عليهم بطاعته، أن خُذوا بالأسباب، وتوكلوا على ربكم، فإن فعلتم أفلحتم، وكانت لكم الغلبة على عدوكم، {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، فلم تنفع تلك القلوب التي أعماها الخوف تذكرة المذكرين، ولم يمتثلوا لأمر رب العالمين، بل أصروا على ضلالهم وتمادوا في غيهم، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فهنا أحسَّ نبي الله موسى بخذلان قومه له، وبانقطاع أسباب الأرض عنه، فالتجأ إلى مسبب الأسباب، ورب الأرباب، وتضرع إليه، {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، فأنزل الله عليهم عذابه، بأن حرمهم الأمن الذي بسببه قعدوا عن الجهاد، والاستقرار الذي لأجله عزفوا عن القتال، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26].

لقد ذكر الله في هذه القصة حال بني إسرائيل مع نبي الله موسى، إذ خذلوه وتخلوا عنه، ولم ينصروه وقد أمروا بذلك، ولم يعزروه وقد كُتب عليهم ذلك، بل كان ردهم القعود والخذلان، والنفور والعصيان، وزادوا على ذلك السخرية والاستهزاء، فما كان من المؤمنين إلا أن ثبتوا على ما أمروا به من جلاد الأعداء، وصبروا على ما نهوا عنه من الفرار وتولية الأدبار، حتى قال نبي الله موسى: "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين".
إن أمثال قوم نبي الله موسى من ذوي المعادن الرديئة والنفوس الدنيئة، يدخلون في صفوف أهل الحق إذا قووا، ويحتمون بشوكتهم، وهذا ديدنهم في كل زمان ومكان. فهُم إذا رأوا من عدوهم كثرة عدة وشدة بأس أحجموا عن القتال، وقعدوا عن الجهاد، مع ما أراهم الله من نصره لهم في مواطن كثيرة على من هم أشد منهم قوة، ووعده لهم بالظفر والتمكين. فترى من أضلهم الله ينهون من هداهم عن القتال والجلاد، بل ويسخرون منهم، ويخذلونهم عند حاجتهم لهم، راكنين إلى زخرف الحياة الدنيا، راضين بها، قائلين بلسان حالهم: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون".

وإن هذا الخبث إن وُجد في صفوف المؤمنين، فإن المؤمنين لا يألون جهدا في نصحهم، ولا يدخرون وسعا في تذكيرهم بربهم، رأفة بهم وإشفاقا عليهم، وخوفا من أن يصيبهم الله بذنوب هؤلاء، فيهلك الكل بجريرتهم لكثرة الخبث، روت أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش فقلت: "يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟" قال: (نعم، إذا كثر الخبث) [رواه البخاري]، فإن الخبث إذا كثر، سلط الله على المسلمين المحن والبلاء، والشدة واللأواء، حتى يرجعوا إلى أمر الله، فقد عاقب الله بني إسرائيل لما عتوا عن أمر ربهم بالتيه 40 سنة، حتى فني أولئك العصاة الفاسقون، ونشأ الصبيان على الشدة والجلد، بعيدا عن الدعة والترف، فلما انقضت تلك السنون الأربعون، قاتل الصالحون الجبارين ففتح الله عليهم، ودخلوا الأرض المقدسة، وأسكنهم الله مساكنهم وأورثهم أموالهم.

إن من سنن الله أن يبتلي المسلم إذا تعلق قلبه بغير ربه، فيمتحنه بوقوع ما يكره، أو بفقدان ما يحب، فإن هو رجع إلى الله فكان هو ورسوله أحب إليه مما سواهما من ملذات الدنيا وزخارفها، رفع الله عنه البلاء، ومكن له في الأرض، وإلا بقي في البلاء حتى يرجع، فإن أبى أتى الله بمن هو خير منه، واستبدل به قوما يحبهم ويحبونه، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون فيه لومة لائم، ينصرونه ورسوله، ويقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، فإنما ينصر المؤمنون بطاعتهم لربهم، وتمسكهم بجماعتهم، وبالمضي قدما في جهادهم، ولا يخذلهم مثل القعود عما أمرهم الله به، والإحجام عما أعده الله لهم من نعيم.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 107
الخميس 5 ربيع الأول 1439 ه‍ـ
...المزيد

صحيفة النبأ العدد 107 - قصة شهيد: قُتل منغمساً بالمشركين الحوثة في الصف الأول أبو صالح ...

صحيفة النبأ العدد 107 - قصة شهيد:

قُتل منغمساً بالمشركين الحوثة في الصف الأول
أبو صالح العولقي:
قائد عسكري أقسم أن ينصر دينه وألَّا ينام على ضيم

كان قليل الكلام، شديد التواضع، كريم النفس، طيب السجايا، عفيفا، شهد له إخوانه برُقيّه وسمو أخلاقه، مع ما اكتسى به من شجاعة مفرطة، أقسم أن ينصر دينه وألا ينام على ضيم، عُرض عليه أن يأخذ كفالة مالية من الدولة فلم يرض وقال: لكي نبني الدولة يجب أن نقدم لها لا أن نأخذ منها.

إنه الأخ المجاهد والقائد العسكري أبو صالح العولقي، تقبله الله، من قبيلة العوالق، إحدى أكبر قبائل ولاية شبوة في اليمن، خرَّجت هذه القبيلة كثيرا من المجاهدين الأبطال على مر العصور، وكان للدولة الإسلامية منهم نصيبٌ ليس بالقليل.

تزوج أبو صالح في أرض اليمن وجلس فيها فترة، ثم ضرب في الأرض متجهاً لبلاد الحرمين طلبا للرزق، فعمل في مجال التسويق، لما تميز به من أسلوب قوي في الإقناع وشخصية رزينة في الإلقاء والتعامل، وبينما هو كذلك إذ أراد الله له الخير فساقه له سوقاً.

كان شقيقه يتابع أخبار الدولة الإسلامية، ويحدثه عنها ويبشره بالخير العظيم الذي تحمله وما يناله من ينتسب إليها ومن يكون مؤيدا وناصرا لها من أجر وثواب، ثم ما طفق أن بات يبحث عن أخبار المجاهدين، ويتابع ويواكب أحداث الدولة الإسلامية وتحركاتها في جميع بقاع العالم، حتى تعلق قلبه بها تعلقا كبيرا، وصار جل اهتمامه أن يكون مجاهداً في صفوفها، ويقدم كل ما يستطيع في سبيل نصرتها ونصرة جنودها.


• التحاقه بالركب:

أصبح فؤاد أبي صالح يموج بخلجات النفير والالتحاق بركب جيش الخلافة، وأثناء هذا التماوج ظهر إصدار "جند الخلافة في اليمن" فترك سعيه في الدنيا واكتفى بما رزقه الله منها في بلاد الحرمين وعاد إلى اليمن باحثاً عن سبب أو سبيل يربطه بجند الخلافة، فيسر الله -تعالى- له الأمر وهداه إلى إخوانه وانضم إليهم.

لقد كان لإعلان الخلافة من قِبل الدولة الإسلامية الأثر الكبير في انتشار منهجها، ومؤشرا كبيرا على الهمة العظيمة التي حملها قادة الدولة وأمراؤها من الجيل الأول الذين قدموا دماءهم فداء دينهم وفداء أمتهم، تقبل الله منهم وتقبلهم، لقد حملوا همّ الأمة على عاتقهم ولموا شملها بعد ضياع استمر لمئات الأعوام، فجمعوا الأمة ووحدوا صفها وأقاموا الفريضة المغيبة، فريضة الخلافة، ففرح بها وأحبها كل مؤمن، وكذلك فعلت بأبي صالح العولقي، واغتاظ منها وعارضها وكرهها كل كافر ومنافق.

نفر أبو صالح والتحق بإخوانه في المعسكر، وظهر تميزه -تقبله الله- بين إخوانه منذ بداية نفيره وجهاده، في المضافات والمعسكرات والكتائب، ورأى منه إخوانه الصلاح والسمت والوقار، ما جعله محل ثقة بين إخوانه وأمرائه، فأسلموا إليه المهام تلو المهام، معينا لإخوانه وأميرا عليهم وخادما وناصحا لهم، حتى سلموه إمارة كتيبة "الصديق"، فأجاد وأحسن فصار خير أمير لجنده، إن جالسهم أحبوه، وإن أمرهم أطاعوه، إن شكوا إليه مشكلة أو بثوا إليه هماً لم يجدوا منه إلا أذناً مصغية وقلباً عطوفاً، ومع لين الجانب لإخوانه إلا أنه كان شديداً على أعداء الله، كثيراً ما يشارك في صد حملات الحوثة المشركين، فتجده أول الحاضرين للصف، وكثيرا ما كان يخرج مع إخوانه في مفارز القنص لاصطياد الحوثة المشركين، ويرابط على ثغور المسلمين.

ومن كانت هذه صفاته كان جديراً أن يزيده الله رفعة، فعُيِّن بعدها إداريا عسكريا للجيش.


• من أشد ما مرّ به:

ومن أشد ما مرّ به -تقبله الله- أنه لما تزوج لم يُرزق بذرية وبقي على ذلك مدة طويلة، وقد حاول أن يتعاطى العلاج علّه يُرزق بمولود وسعى لذلك سعياً حثيثاً، لكن دون جدوى، ولما وفقه الله للنفير والجهاد أتاه خبر بأن امرأته حامل، وما هي إلا أشهر معدودة حتى وضعت له مولوداً، فشكر الله وحمده، وعرف أنه فتنة له وأنها الدنيا تزيّنت، ولم يكن ضعيفاً أو مفتوناً فيترك الجهاد أو يستأذن، بل احتسب الأمر عند الله وواصل جهاده، ورباطه وقتاله لأعداء الله.
• استشهاده -تقبله الله-:

عند إعداد جنود الخلافة للغزوة المباركة على منطقة "حمة لقاح"، كلَّفه أمير الجيش بترتيب السرايا وتوزيعها، وكان مما أمره به تجهيز 6 من الانغماسيين، فجهَّز له 5 أسماء وقدمها له، فقال له: أين السادس؟ قال: موجود، ولم يخبره أنه سيجعل نفسه السادس مخافة أن يُمنع من المشاركة في الغزوة، فكان يماطل أميره، وكلما سأله أين الأخ الانغماسي السادس؟ يجيبه بأنه: موجود، حتى اقترب موعد الغزوة، فقال له الأمير: ستبدأ الغزوة ولم تخبرني من السادس؟ فقال أبو صالح: أنا سادسهم، فرفض الأمير والإخوة مشاركته في الغزوة، وبعد إلحاحه الشديد وافقوا، فكان أمير سرية الانغماسيين في اقتحام الجبل.

ولما كانت ليلة الغزوة أخذ يحرض إخوانه على القتال والثبات، وحب لقاء الله، ويذكرهم بالتضرع إلى الله والتوكل عليه وحده دون سواه، وتعظيم الأمر الذي هموا عليه، والانكسار لله عز وجل، ولما طلع فجر يوم الغزوة، سلّم على إخوانه الذين كانوا موجودين فردا فردا وطلب منهم السماح، ثم شد هو وإخوانه الانغماسيون كالصقور الجارحة على مواقع الحوثة المشركين، فقاتلوا قتال الأبطال الشجعان وأثخنوا بالحوثة المشركين، فارتقى -تقبله الله- شهيداً كما نحسبه والله حسيبه، مقبلاً في الصف الأول لم يلفت وجهه حتى قتل، مسطراً بدمه معنىً لمن بعده أن قادة المجاهدين أحرص الناس على نيل الشهادة في سبيل الله، وأنهم يتقدمون الصفوف قبل إخوانهم ولا يتأخرون، وبذلك يكونون خير قدوة وخير محرض لثبات إخوانهم وتنكيلهم بأعدائهم.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 107
الخميس 5 ربيع الأول 1439 ه‍ـ
...المزيد

فوائد دريّة من كلام الإمام ابن قيم الجوزية الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما ...

فوائد دريّة من كلام الإمام ابن قيم الجوزية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: [فصل في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد].

وقد أشار الله -سبحانه وتعالى- إلى أمهاتها، وأصولها في سورة (آل عمران) حيث افتتح القصة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية.

فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152]، فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة، وتحرزا من أسباب الخذلان.

ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المؤمنون وغيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق، وما جاءوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة.

ومنها: أن هذا من أعلام الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان: (هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال يدال علينا المرة، وندال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة).

ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبآتهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم. قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]، أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة. وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب سوى الرسل، فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة.

ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.

ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائما، وأظفرهم بعدوهم في كل موطن، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا لطغت نفوسهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.

ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا، فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25]، فهو - سبحانه - إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولا، ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره.
ومنها: أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.

ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.

ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.

ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139 - 141]، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وهممهم، وبين حسن التسلية، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، فقد استويتم في القرح والألم، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.

ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس، وأنها عرض حاضر، ثم ذكر حكمة أخرى، وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه، وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وإنما يترتب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس.

ثم ذكر حكمة أخرى، وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء، فإنه يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]، تنبيه لطيف الموقع جدا على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ولم يتخذ منهم شهداء، لأنه لم يحبهم فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنين في ذلك اليوم، وما أعطاه من استشهد منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه.

انتهى كلامه رحمه الله رحمة واسعة بما أفاد من الدرر البديعة، وقد أوردناها ليتأملها كل مجاهد ويأخذ منها ما يتزود به لشدائد الجهاد في سبيل الله، ولتكون له سلوة على هذا الطريق الشاق، طريق العز والمعالي ورفعة المنزلة في الجنة والقرب من الله جل جلاله والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 107
الخميس 5 ربيع الأول 1439 ه‍ـ
...المزيد

تكونون غثاءً كغثاء السيل لا شك أن لكل مرض يعتري الأفراد والجماعات أسبابا علمها من علمها وجهلها ...

تكونون غثاءً كغثاء السيل


لا شك أن لكل مرض يعتري الأفراد والجماعات أسبابا علمها من علمها وجهلها من جهلها، ولا يمكن علاج هذه الأمراض قبل التعرف عليها، كما لا يمكن الوقاية منها دون معرفة الأسباب التي تسببها.

ومن عادة كثير من الناس عندما تحل بهم مصيبة أو يطرأ عليهم طارئ أن يبحثوا عن أسباب ذلك في خارج أنفسهم ليُلقوا بالتبعات على غيرهم من الظروف أو الأعيان، كما وصف الله -تعالى- ذلك في حال أهل النفاق بقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 78 - 79].

فما يصيب الإنسان هو من عند نفسه، وتغييرُ حال الإنسان يكون من عند نفسه، إن شاء الله تعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]، فما تغيَّر حال عبد من حال خير إلى غيره أو العكس إلا بتغير أصابه في نفسه، وكذلك الأمم والدول، ومن كان له علم بالعمران والسياسة عرف ذلك.

فعندما يتغلب العدو على طائفة من المسلمين، فإن كثيرا منهم يُحيلون ذلك إلى تفوقهم في العدد والعدة، أو ضعف المسلمين في هذه الأبواب، ويسبب تركيزهم على الجانب الكمي من القضية تغافلا منهم عن نوعية الأفراد الذين يشكلون هذا الكم الذي ينظر إليه هؤلاء، وهذا الأمر نجدُ مصداقا له في حديث ثوبان -رضي الله عنه- حين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها)، قال: قلنا: يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: (أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن)، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: (حب الحياة وكراهية الموت) [رواه أحمد].

فالكثرة العددية لا تغني عن الجيش شيئا إن كان أفراده قد تسلط عليهم الوهن، فكرهوا القتال، وركنوا إلى الدعة والسلامة التي يحسبونها في البعد عن الحرب، والعدو وإن كان قليل العدد فإنه سيتجرأ على المسلمين إن نزعت من نفسه مهابتهم، وصار لا يلقي لهم بالا، خاصة إذا عرف ما فيهم من وهن، وضعف في النفوس، وكراهية للقتال.

ولقد رأينا في حال الأمم التي سبقتنا وفي حالنا أن القلة الصابرة ينصرها الله تعالى، وإن الجمع المتخاذل لا تغني عنه كثرته شيئا، كما في قوله سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وفي قوله سبحانه: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].

ولذلك فإن إصلاح النفوس وتجديد إيمانها هو أول خطوات العلاج لمرض الوهن الذي نتيجته الحتمية تسلط العدو على المسلمين، وسبيله تذكير المسلمين بأن كراهية الموت لا تبعده ولا تؤخر أجله، والفرار منه لا يفيد في دفعه، وأن النهاية الحتمية لكل حي أن يموت، فيرجع إلى الله -تعالى- ليجزيه على جهاده وثباته أو يعاقبه على قعوده وتوليه، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

وكذلك تذكيرهم بأن عاقبة الركون إلى متاع الدنيا من زوجة وولد ومال وعشيرة وخِيمة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

فيا أهل التوحيد، جددوا الإيمان في قلوبكم، وأحيوا حب الجهاد والاستشهاد في نفوسكم، واسألوا الله المراتب العلى من الجنة، تجدوا نتيجة ذلك في حياتكم الدنيا قبل الآخرة، نصرا على عدوكم، ومهابة لكم في نفوس العالمين، ومن كان همه الآخرة فلا يأبه لما يبتليه الله به في الدنيا، والعاقبة للمتقين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 107
الخميس 5 ربيع الأول 1439 ه‍ـ
...المزيد

إنفوغرافيك صحيفة النبأ العدد 504 الغفلَة: * أسبابها كثرة المعاصي التعلق في الدنيا صحبة ...

إنفوغرافيك صحيفة النبأ العدد 504
الغفلَة:

* أسبابها
كثرة المعاصي
التعلق في الدنيا
صحبة الغافلين
الإسراف في المباح
هجر القرآن والذكر


* أخطارها

1- الضلالة عن سبيل الرشاد
قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.

2- الضياع والتشتت والهلاك
قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.

3- استحقاق العقوبات الإلهية
قال تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.

4- الندم والحسرة يوم القيامة
قال تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}.


* علاجها

1- الإكثار من ذكر الله تعالى
قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}.

2- التفكر في آيات الله تعالى
قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}؛ "يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده". [ابن كثير].

3- تذكر الموت وأهوال القيامة
قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} إلى قوله: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.

4- مفارقة الغافلين ومرافقة الصالحين
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
...المزيد

مقتطفات نفيسة (48) من كلام الشيخ المجاهد أبي مصعب الزرقاوي تقبله الله تعالى أيها المجاهدون؛ إن ...

مقتطفات نفيسة (48)
من كلام الشيخ المجاهد أبي مصعب الزرقاوي تقبله الله تعالى

أيها المجاهدون؛
إن سنة الله جرت؛ أنه ليس هناك من هو فوق الحكم الشرعي، بل إن الله خاطب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بخطاب تنخلع له القلوب، فقال تعالى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74-75]، فهذا في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لو ركن إلى الأعداء -وحاشاه- فكيف بمن دونه؟

فالنجاة النجاة، والصبر الصبر، والثبات الثبات، على ما كان عليه السلف الذين قال الله فيهم: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

فلا تبدلوا إخوة التوحيد.. لا تبدلوا يا إخوة التوحيد.
وإياكم أن تكونوا ممن يخون الله ورسوله، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 504 الافتتاحية: فأما الزبد فيذهب جُفاءً إن انتفاشة أهل ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 504
الافتتاحية:

فأما الزبد فيذهب جُفاءً

إن انتفاشة أهل الباطل واغترارهم بما في أيديهم من وسائل البطش، ليست ببدع من أمرهم وما هي بجديد عليهم، بل هي طريقة متبعة سار عليها أسلافهم من المبطلين الذاهبين جُفاءً، الذين مضت عليهم سنن الله التي لا تتحول ولا تتبدل، وستمضي على هؤلاء الأخلاف حتى يلاقوا ما لقي أسلافهم من الأخذ والعقوبات الربانية، بعذاب من عند الله أو بتسليط أوليائه عليهم.

وعندما نستعرض المكر الكبار والمؤامرات العظام التي يحيكها الكافرون لأهل الإسلام؛ يتبين لنا مدى غطرستهم وتكبرهم، وفي المقابل يتضح لنا حجم خوفهم من الحق وأهله، فالمعسكرات والترسانات التي صارت تملأ الآفاق شغلها الشاغل ووظيفتها الكبرى هي الحرب على المجاهدين بصفتهم رأس حربة الحق، بل لم تعد الجيوش والحكومات تكتفي بنفسها أو تطمئن حتى تجمع معها في هذا الباب غيرها، فتقيم التحالفات وتتناسى خلافاتها -رغم اتساعها- من أجل حرب المجاهدين ولو كانوا نفرا يسيرا، قليلٌ عددهم، هزيلةٌ عُدَّتهم.

والحملات الإعلامية مهما تصادمت وتسلط بعضها على بعض، ومهما اختلفت توجهاتها ووجهاتها؛ إلا أنها متفقة على حرب الإسلام وأهله، طمسا لمعالم التوحيد والفضيلة، ونشرا لمراتع الأهواء والرذيلة؛ كل هذا لأنهم يعلمون أن الحق لا يصمد أمامه سراب باطلهم ولا زَبَدُه الذي يذهب جفاءً، فالتاريخ على امتداده شاهد على مضي سنن الله الكونية بهذا، فقد حكم الله حكما لا يتغير ولا يتبدل أن الباطل لا ثبات له ولا بقاء مع وجود الحق، فقال سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.

ومجيء الحق إنما يكون بظهور أهله القائمين به، المقاتلين عليه، الداعين إليه بالقول والعمل، الذين لا يخلو منهم زمان إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) [رواه مسلم]، وهذه هي الطائفة التي يقذف الله بها على الباطل فتدمغه بقتالها إيّاه، تدمغه برباطها وثباتها واستمرارها على المنهج السليم والصراط المستقيم، تدمغه بمقاطعتها للباطل ومفارقته ومنابذته في كل الشؤون والأحوال.

ومعلوم أن الباطل لا يزول بالباطل! فلا يزول بالسلمية وشعاراتها ولا الوطنية وراياتها، فضلا أن يزول بتقليده ودخول جحوره!، وكذلك لا يزول بالتماهي أو التهاون أو الالتقاء معه في منتصف الطريق كما هو شأن الجماعات المرتدة، ولا يزول الباطل بالمحاورات وأوهام "التقارب والتعايش" التي لا تحرق سوى أصحابها، كما لا يزول الباطل بإحلال مثله أو أشد منه محله!، فهذا كله مناقض للسنن الشرعية والكونية، ومخالف للعقول والفطر السوية.

لقد بيّن الله تعالى في كتابه السبيل إلى مدافعة الباطل، وأن ذلك يكون باتباع سبيل ذات الشوكة أي القتال، كما جاء في خبر غزوة بدر لمّا خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه طلبا لعير قريش دون قتالها، فأراد الله لهم أمرا آخر وهو الصدام مع قريش وقتالها إحقاقا للحق وإبطالا للباطل كما بيّن المولى -تبارك وتعالى- ذلك في سورة الأنفال فقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، قال الإمام أبو جعفر: "يريد الله أن يحق الإسلام ويعليه (بكلماته)، بأمره إيَّاكم أيها المؤمنون بقتال الكفار". فبهذا يندفع الباطل وينقمع، وبغيره من سبل الشيطان ينتفش ويرتفع.

ويقينًا فإن الغلبة والتمكين لهذا الدين، وإن النصر والعاقبة لأولياء الله المتقين؛ تصديقا وثقة بوعد الله القائل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} قال ابن عباس: "بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ"، والتصديق بذلك الوعد إيمان والتكذيب به كفر.
وإن كانت المؤشرات والموازين المادية تَغرُّ من لا دين له ولا إيمان فلا عجب، فقد اغتر من كان قبلهم حتى جاء أمر الله وعذابه من حيث لم يحتسبوا، فلم تغن عنهم قوة ولا كثرة، ولم تكن تلك الانتفاشة والغطرسة سوى استدراج من الله لهم، ليستوجبوا من العذاب أشده وأوفاه.

وكما أن الواجب على المسلمين أن لا يقنطوا من نصر الله، ولا تهتز ثقتهم بتحقُّق وعده الإلهي؛ فكذلك عليهم وجوبا أن يجتهدوا كل الجهد في بذل الأسباب الشرعية التي أمرهم الله بها استنزالا لنصره كما في قوله سبحانه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، وذلك بنصرة شريعته ومحاربة أعدائه وموالاة أوليائه، وليعتصموا بحبل الله جميعا ويجتمعوا خلف راية الجماعة التي حافظت على نقاء الراية في زمن التلون والنكوص، وبقيت ثابتة راسخة في الأرض، بينما ذهب زبد الجماعات المرتدة، وبان زيف دعاويها، وتجلى لكل ذي عمى أنهم باتوا أدوات جاهلية بأيدي أئمة الكفر يدفعون بهم لحرب الموحدين، باذلين لذلك أنفسهم وأموالهم فدى لطوائف الكفر المختلفة الأقلية منها والأكثرية، وهم بين هذا وذاك لم يوقفوا حربهم ضد المجاهدين ولم يجمعوا على شيء إجماعهم على قتال الدولة الإسلامية!

ومما يجدر الحديث عنه في هذا الصدد، أن الأسباب التي جعلت الكافرين يحشدون المعسكرات ويعقدون التحالفات تحقيقا لمصالحهم في حرب الإسلام؛ لن تدعهم حتى يفني بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، حتى يتبخر زبدهم وتنكسر بحول الله شوكتهم، وهذا من تدبير العليم الخبير لأوليائه المتقين وعقابا لأعدائه الكافرين بخلاف مرادهم.

ختاما، إن من الضروري على المسلم توطين نفسه على شدة البلاء والاستعداد لكل ما هو قادم، فمن لم يوطّن على ذلك نفسه، فلا يأمن عليها أن تذهب غدا جفاء مع جملة الزبد الذاهب! فليتنبه الفطن لذلك وليتقلل من الدنيا وليتبلّغ بالقليل، فإن التعلق بالدنيا وزهرتها من أكثر أسباب القعود عن الجهاد.

وكذلك، على المسلم أن ينشرح بالحق صدرا، ولا يلتفت للمرجفين والمثبطين ومن يلقون الشُّبَه والمصائد في طريقه صدا له عن الحق وقطعا للطريق عليه، فإنما مثل هذه على قلبه كمثل الزبد يعلو السيل ثم ما يلبث أن يتفرق وتأخذه علائق الطريق، فإنْ ثبت على المنهج وإلا أخذته في طريقها، فاثبتوا ولا تبرحوا مواقعكم، والموفق من وفقه الله.



• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 504
السنة السابعة عشرة - الخميس 22 المحرم 1447 هـ
...المزيد

ستجري دماكم كنهر غزير أَأَرْفاضُ ڪُفْر خَؤونٍ وَضيعْ سـَنَدْفَعُكُمْ نَحْوَ نارِ ...

ستجري دماكم كنهر غزير


أَأَرْفاضُ ڪُفْر خَؤونٍ وَضيعْ
سـَنَدْفَعُكُمْ نَحْوَ نارِ السَّعيرْ

سَݩثْأرُ مِنْڪُمْ لِصَحْبٍ عِظامْ
لِعِرْضِ النَّبِيِّ العَظيمِ الطَّهُورْ

وَلَنْ نَتَوانى عَنِ الانتِقامْ
وَدَرْءِ الكُفُورِ الأَثيمِ الحَقيرَ!

عَلَيٌّ لَنا لَيْسَ لِلْكافِرينْ
وَما كانَ يَرْضى بِخِزْيِ الشُّرورْ

وَلَوْ كانَ حَيًّا لَأَعْمَلَ فيكُمْ
طِعانًا وَضَرْبًا كَضَرْبِ الحَميرْ

فَفِرُّوا عَنِ الكُفْرِ كَيْ تَأْمَنُونا
وَإلّا فَقُوموا وَاهْجُرُوا القبور!

فَإِنَّ الخِلافَةَ حِصْنُ الرَّشادْ
وَدِرْعُ الفَضائِلِ ، مَوْتُ الفُجورْ

وَيا إخْوَةَ الدِّينِ قُومُوا وَهُبّوا
لِعِزِّ الحَياةِ وَعَيْشِ السُّرورْ

أَذِيقُوا العِدا جَمْرَ نارِ الجهـﺎﺩ
لِتَشْفُوا غَلِيلَ الكَليمِ الكَسيرْ

خُذُوا ثَأْرَنا ثَأْرَ دِينِي الحَنيفْ
أَذِيقُوهُمْ بِالمَضاءِ الجَسورْ

أَرُوا رَبَّكُمْ ما يُحِبُّ وَيَرْضى
لِتَنْعَمُوا الهَنا ؛ نَصْرٌ أَثيرْ

وَيَعْلُو اللِّواءُ بِكُلِّ البَوادي
وَتَزهوِ السَّما بِشُموخِ الصُّقورْ

فَشَوْكَ الأَعادي أَلِيمٌ كَئيبْ
وَرَوْضُ الخِلافةِ رَوْحُ العُطورْ


الأخت الشاعرة: أحلام النصر
محرم 1447
...المزيد

أشداء على الكفار ومن لوازم الأخوة الإيمانية محبة المؤمنين أينما كانوا ومناصرتهم والذود عنهم، ...

أشداء على الكفار

ومن لوازم الأخوة الإيمانية محبة المؤمنين أينما كانوا ومناصرتهم والذود عنهم، وبغض أعدائهم ومعاداتهم، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر التجمعات أخوة وتماسكا وترابطا، وقد طبقوا ومثلوا هذه الأخوة تمثيلا لا نظير له ولا مثيل، فقد كان الواحد منهم يشاطر أخاه ماله مناصفة، بل كانوا كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وفي المقابل كانوا يعادون ويتبرؤون من الكافر ولو كان أقرب الناس إليهم، فجمعوا بين منابذة الكافرين وقتالهم ومودة المؤمنين واللين معهم، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، والمعنى كما بين الإمام الطبري وغيره: "غليظة قلوبهم على الكافرين، رقيقة قلوبهم للمؤمنين لينة أنفسهم لهم".

وفي واقعنا المُعاش، فإن هذه الأخوة الإيمانية تتجلى بأبهى صورها وتصفو من الدخن والدواخل في صفوف المسلمين القائمين بأمر الله تعالى وبالأخص بين المجاهدين في سبيل الله؛ فَيَوَدُّ أحدُهم لو بذل لإخوانه المسلمين نفسَه ومالَه، والصور والأمثلة أبين من أن يُشار إليها، وما عدد الاستشهاديين والانغماسيين الحاملين جراح أمتهم بقليل، بينما تنعدم وتتهدم الأخوة الإيمانية بين المجتمعات والتجمعات الجاهلية التي تحب وتبغض وتوالي وتعادي في الوطن والعرق والقبيلة والحزب، لا لله وفي الله، وهذه آفة الأمة اليوم.



مقتبس من مقال صحيفة النبأ العدد [503]
"الأخوَّة الإيمانية!"
...المزيد

حصحص الحق الآن حصحص الحق لمن لا يؤمن بغير الأدلة المحسوسة صوتا وصورة، أما لأولي الأحلام والنهى ...

حصحص الحق

الآن حصحص الحق لمن لا يؤمن بغير الأدلة المحسوسة صوتا وصورة، أما لأولي الأحلام والنهى فقد حصحص الحق قديما منذ صرخ الشيخ العدناني في الجموع: "ما كان هذا منهجنا ولن يكون".


مقتبس من افتتاحية صحيفة النبأ العدد [503]
"حصحص الحق!"
...المزيد

متشابهون في عداوتهم لدولة الخلافة في أبعاده السياسية، يمثّل القرار الأمريكي احتواء لنظام ...

متشابهون في عداوتهم لدولة الخلافة

في أبعاده السياسية، يمثّل القرار الأمريكي احتواء لنظام الجولاني في المعسكر الغربي، تماما كما يمثل القرار الروسي احتواء لنظام طالبان في المعسكر الشرقي.

لقد بات الثوار والجهاديون بيادق في صراعات المعسكرات الجاهلية، بينما أنت يا جندي الخلافة تقف وحدك في معسكر التوحيد ثابتا شامخا كالطود تنافح عن دينك وأمتك، وتلاقي ما تلاقي في سبيل ذلك، فاصبر واحتسب واحمد الله على هذا الموقف حق حمده، واشكره سبحانه حق شكره.

وانظر حولك وتأمل كيف تتسع "سوريا الجديدة" لكل الطوائف الكافرة إلا الطائفة المؤمنة المنصورة بإذن الله تعالى، التي ترتبط بالشام وملاحمها أشد من ارتباط الجولاني بالخيانة! انظر حولك يا جندي الخلافة وتأمل، وأنت في خراسان وما جاورها، تقاتل الروس والأمريكيين معا، بينما بات الناكثون اليوم يكفِّرون عن حروبهم السابقة معهما، كما لو أنها "خطيئة" أقلعوا عنها وأتبعوها بـ "محاربة الإرهاب" لمحوها!



مقتبس من افتتاحية صحيفة النبأ العدد [503]
"حصحص الحق!"
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً