سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (3-4) • تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ الحمد لله رب العالمين، ...

سلسلة علمية
في بيان مسائل منهجية
(3-4)

• تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:

ففي هذه الحلقة نبدأ الحديث -بعون الله تعالى- عن تكفير المشـركين، وسنتكلم عن مسألتين:
المسألة الأولى: سنجيب فيها على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟

المسألة الثانية: نذكر فيها العلة أو المناط أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.

وقبل الشـروع في ذلك نذكر بعض نصوص أهل العلم في كفر من لم يكفر الكافر...

قال أبو الحسين الملطي الشافعي -رحمه الله-: "جميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر". (1) انتهى كلامه.

وقال القاضـي عياض -رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". (2) انتهى كلامه.

وقال النووي -رحمه الله-: "من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر". (3)

ونص الحجاوي -رحمه الله- على أن من "لم يكفر من دان بغير الإسلام؛ كالنصارى، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم... فهو كافر".(4) انتهى كلامه.

ونص البهوتي -رحمه الله- على تكفير من "لم يكفر من دان بغير دين الإسلام كأهل الكتاب، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم".(5)

وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "من لم يكفر المشـركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا". ا.هـ(6)

انتهى كلامهم رحمهم الله.


ونشـرع الآن في بيان المسألة الأولى: وهي الإجابة على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟

والجواب هو أن التكفير حكم شـرعي محض، لا مدخل للعقل فيه، ولا يدخل تحت مسائل ومعاني أصل الدين، والتي سبق وأن بيناها في الحلقة السابقة.

إذن تكفير المشـركين من واجبات الدين وليس من أصل الدين.

طيب ما الفرق؟

الفرق أن ما كان من أصل الدين، فإنه لا يعذر المرء فيه بجهل، ولا تشترط إقامة الحجة على تاركه أو تارك بعضه.

أما التكفير فهو حكم شـرعي قد يعذر فيه بالجهل والتأويل.

ثم إن التكفير ليس على مستوى واحد، بل له مراتب، فأعلاها ما هو معلوم من الدين بالضـرورة؛ كتكفير من كفرهم الله تعالى في كتابه على التعيين؛ كإبليس وفرعون وكل من دان بغير الإسلام؛ كاليهود والنصارى وعباد الأصنام.

وأدناها ما اختلف في تكفير مرتكبه؛ كتارك الصلاة وغير ذلك، وبينهما مراتب متفاوتة، وهو ما سوف نتناوله في حلقة قادمة بإذن الله تعالى.

قلنا: إن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي، وليس له مورد سوى الأدلة الشـرعية، ولا مدخل للعقل فيه، وقد تتابع أهل العلم على تقرير ذلك وتأكيده، وإليكم بعض أقوالهم:

قال القاضـي عياض -رحمه الله-: "فصل في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه، وما ليس بكفر: اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشـرع، ولا مجال للعقل فيه".(7) انتهى كلامه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية".(8)

وقال -رحمه الله-: "فإن الكفر والفسق أحكام شـرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل؛ فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما..-إلى أن قال: - فهذه المسائل كلها ثابتة بالشـرع".(9)

وقال -رحمه الله-: "الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشـرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الأدلة العقلية". (10) انتهى كلامه.

وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- :
الكفر حق الله ثم رسوله
بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده
قد كفراه فذاك ذو الكفران(11)

وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله: "أن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعيا قطعيا، ولا نزاع في ذلك".(12) انتهى كلامه

وعليه نقول: إن من جهل حكم الشـرع في أحد الكفار أو المشـركين أو إحدى طوائفهم: لا يكون حكمه كحكم من أشـرك، لأن الذي أشـرك نقض أصل الدين؛ كما ذكرنا في الحلقة السابقة، وإنما حكمه كحكم كل من جهل شـريعة أو فريضة من فرائض الإسلام، فمن قامت عليه الحجة الرسالية في ذلك كفر، ومن لم تبلغه الحجة الرسالية في ذلك فليس بكافر، بخلاف من جهل التوحيد؛ الذي هو أصل الدين؛ فإنه كافر كفر جهل.
هذا وقد تتابع أهل العلم على تقرير الفرق بين الجهل بأصل الدين والجهل بالواجبات الشـرعية:

فقد نقل الإمام محمد بن نصـر المروزي عن طائفة من أهل الحديث قولهم: "ولما كان العلم بـالله إيمانا والجهل به كفرا، وكان العمل بالفرائض إيمانا والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر... إلى أن قالوا: وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرا، وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرا، والجهل بـالله في كل حال كفر، قبل الخبر وبعد الخبر". (13) انتهى كلامه -رحمه الله-

وأما صفة قيام الحجة وكيفية تحقيق هذا الشـرط قبل التكفير، فإن ذلك يختلف بحسب ظهور المسألة وخفائها، فقد تقوم الحجة بمجرد وجود المتوقف عن التكفير في مظنة العلم، بحيث يكون بتوقفه معرضا لا جاهلا، وبحيث لا يعذر إلا من كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين النص الشـرعي الدال على كفر من فعل كذا أو قال كذا، ولا يكتفى بمجرد البلوغ العام للقرآن، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين الدليل مع إزالة الشبهة والإجابة عن الدليل المعارض، وسيأتي مزيد توضيح لهذه المسألة عند الحديث عن مراتب المتوقفين.

ويستدل على التفريق بين الجهل بالشـرائع والجهل بأصل الدين أو على أن تكفير المشـركين من الشـرائع ليس من أصل الدين بعدة من الأدلة، أذكر منها:

إن جميع الأنبياء عليهم السلام بدءوا أقوامهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شـريك له، ولو أن الجهل بأحكام التكفير كفر لما تأخر بيانها عن بيان أصل الدين لحظة واحدة.

ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين ما ثبت أن من الصحابة رضي الله عنهم، من توقف في تكفير قوم وقعوا في الردة، وسموهم مسلمين، ولما نزلت الآيات التي بينت كفر هؤلاء القوم لم يستتابوا من توقفهم، بينما ثبت أن أحد الصحابة وقع في الشـرك جاهلا، ومع ذلك كفره الصحابة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه، وهذا يدل على الفرق بين من وقع في الشـرك جاهلا، وبين من جهل الشـرائع.

فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97، 98]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: ١٠] الْآيَةَ".(14)

قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله : "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار مع تكلمهم بالإسلام".(15) انتهى كلامه.

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: كنا نذكر بعض الأمر، وأنا حديث عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، ولا تعد له».(16)

وقال ابن الوزير الصنعاني-رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: "وهذا أمر بتجديد الإسلام".(17) انتهى كلامه.

وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله- "فمن قال في الإسلام في يمينه واللات والعزى مؤكدا ليمينه بذلك على معنى التعظيم فيه: كافر حقيقة". ا.هـ(18)

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- : "أخذ به -يعني حديث سعد -رضي الله عنه- طائفة من العلماء فقالوا يكفر من حلف بغير الله كفر شـرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول لا إله إلا الله، فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك، وقال الجمهور: لا يكفر كفرا ينقله عن الملة، لكنه من الشـرك الأصغر".(19) انتهى كلامه.

فلم يعذر- رضي الله عنه- في ذلك مع أنه حديث عهد بجاهلية..

ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد: ما روي أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 88 - 89]

وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(20)

وصح عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(21)

وقد روي بهذا المعنى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس -رضي الله عنهم-، وصح بنحوه مرسلا عن عدة من التابعين وهم: عكرمة، والسدي، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي رحمهم الله.
وقال الإمام الطبري -رحمه الله- في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا { [النساء: ٨٨]، قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم". (22) انتهى كلامه.

وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(23) انتهى كلامه.

وقال ابن أبي زمنين -رحمه الله-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـارتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}".(24) انْتَهَىٰ كَلَامُهُ رحمه الله.
ومن الأدلة أيضا: ما رجحه طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر -رضي الله عنه- كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم.

فقد صح عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لأبي بكر -رضي الله عنه- في شأن "المرتدين" : كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(25)

وقد توقف بعض أئمة السلف -في بادئ الأمر- كفر من قال بخلق القرآن، ومنهم توقف في كفر الجهمية على الرغم من شدته، فلم يكونوا بذلك كفارا، ولما تبين لهم الدليل على كفرهم لم يتوقفوا فيهم، ولم يجددوا إسلامهم لأجل ما سبق من توقفهم.

فعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: "سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: "كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القرآن: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، وَقَوْلَهُ: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120[" وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166]" .(26)
وعن ابن عمار الموصلي -رحمه الله- قال: "يقول لي ابن المديني: ما يمنعك أن تكفرهم؟! -يعني: الجهمية- قال: وكنت أنا أولا أمتنع أن أكفرهم حتى قال ابن المديني ما قال، فلما أجاب إلى المحنة، كتبت إليه كتابا أذكره الله، وأذكره ما قال لي في تكفيرهم".(27)

وبذلك نكون قد انتهينا من المسألة الأولى...

ونشـرع الآن في بيان المسألة الثانية: وهي ما هو المناط أو العلة أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.

الجواب: هو تكذيب الشـرائع وردها.

فبالنظر إلى نصوص أهل العلم في هذا الناقض يظهر جليا ما قرروه من أن مناط الكفر في المتوقف في الكافر يرجع إلى تكذيب الشـرائع وردها، لا من جهة انتقاض أصل الدين.

وقد تتابع أكثر أهل العلم على ذكر هذا المناط بناء على أن الكفر إنما يكون بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها، أو بإنكار المعلوم من الدين ضـرورة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضـرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها ونحو ذلك". ا.هـ(28)
* وإليكم بعض ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم الذين نصوا على مناط كفر المتوقف في الكافر:
فقد علل القاضـي عياض تكفير المتوقف في اليهود والنصارى ومن فارق دين الإسلام بما نقله عن الباقلاني، قال: "لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف، أو شك فيه، والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر".(29) انتهى كلامه.

وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله- في تكفير الشاك في عابد الصنم ومن لم يكفره: "ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة". (30) انتهى كلامه.

وعلل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تكفير من قال: (أن من شهد الشهادتين لا يجوز تكفيره ولو عبد غير الله)، فقال: "لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله، وإجماع المسلمين". (31) انتهى كلامه

وقال بعض أئمة الدعوة النجدية: "فإن الذي لا يكفر المشـركين غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشـركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم".(32) انتهى كلامهم.

ونكتفي بهذا القدر، وإلى لقاء آخر في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى...

ونسأل الله تعالى العون والتوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا...


• ( الْحَلَقَةُ الرابعة )

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:

فهذه حلقة نتناول فيها الحديث -بعون الله تعالى- عن مسألتين:

الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب...

والثانية: نذكر فيها مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...

ونشـرع الآن في المسألة الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب؟

• والجواب: نص أهل العلم على أن التكفير حكم شـرعي له مراتب بحسب أمرين:

فالأول: قوة ثبوته في الشـرع؛ أي وضوح وظهور الدليل الشـرعي على كفر فلان من الناس، وهو ما يعرف بمعرفة الحكم...

والثاني: قوة ثبوته على المعين الذي وقع في الشـرك أو الكفر، وهو ما يسمى بمعرفة الحال، ويكون من خلال الرؤية أو السماع أو شهادة الشهود...

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية، فتارة يدرك بيقين، وتارة يدرك بظن غالب، وتارة يتردد فيه، ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ".(1) انتهى كلامه رحمه الله.

وذلك بخلاف من زعم أن جميع صور الكفر أو الشـرك على مرتبة واحدة؛ بحيث يستوي في إدراكها العالم والجاهل، ولا شك في بطلان هذا القول، ومخالفته لما قرره أهل العلم في هذا الشأن، بل ومخالفته للنصوص التي دلت على أن الكفر بعضه أشد من بعض.

قَالَ تَعَالَىٰ: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97].

أما المسألة الثانية: وهي مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...

فنقول: إن للمتوقفين في المشـركين مراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك...

قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس: كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر: فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه". (2) انتهى كلامه رحمه الله.

فتأمل كلامه؛ كيف أنه جعل للمتوقف في هؤلاء الطواغيت أحوالا أقلها الفسق، وهذا يؤكد على أن للمتوقفين في المشـركين أحوالا ومراتب.
* وهذه المراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك بغض النظر عن شدته؛ فقد يكون الشـرك أشد في حال من الأحوال، ولكنه في الظهور أقل مما هو أخف منه شدة.

مثال ذلك: شـرك عباد الأصنام مع شـرك الجهمية؛ فالحكم بتكفير المتوقف في عباد الأصنام أقوى من الحكم بتكفير المتوقف في الجهمية؛ وذلك لأن عبادة الأصنام أشد ظهورا من التجهم، مع أن التجهم أشد شـركا.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فإن المشـرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله... فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد، يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟ فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له".(3)

وقال أيضا رحمه الله: "فشـرك عباد الأصنام والأوثان والشمس والقمر والكواكب خير من توحيد هؤلاء بكثير، فإنه شـرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات، وتوحيد هؤلاء تعطيل لربوبيته وإلهيته وسائر صفاته، وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشـرك، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شـركا".(4) انتهى كلامه رحمه الله.

بناء على ما سبق؛ سنذكر مراتب المتوقفين في المشـركين أو الكفار بناء على ظهور الأدلة على كفرهم وشهرتها، معتمدين على نصوص أهل العلم في ذلك:

المرتبة الأولى- من توقف فيمن علم كفره بالضـرورة من دين أهل الملل، فمن ذلك:
أولا: من توقف في إبليس أو فرعون أو مدع الإلهية لنفسه أو لغيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من لم يكفر فرعون: "وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل؛ المسلمين واليهود والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بـالله". (5) انتهى كلامه رحمه الله.
ثانيا: من توقف في عباد الأصنام، ولو انتسبوا للإسلام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من صحح عبادة الأصنام: "ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام".(6) انتهى كلامه.

وقال ابن الوزير الصنعاني رحمه الله: "ولا شك أن من شك في كفر عابد الأصنام وجب تكفيره، ومن لم يكفره، ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة".(7) انتهى كلامه.

وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.

المرتبة الثانية- من توقف فيمن علم كفرهم بالضـرورة من دين المسلمين خاصة؛ كمن توقف في اليهود والنصارى، أو كل من فارق دين الإسلام.

قال القاضـي عياض رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم".(8) انتهى كلامه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن لم يحرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم بـاتفاق المسلمين". (9) انتهى كلامه.

وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.

المرتبة الثالثة- من توقف فيمن ينتسب للإسلام ووقع في شـرك أو كفر مجمع على كفر من وقع فيه، وهؤلاء على مراتب:

الأول من المرتبة الثالثة: من لم يكن له تأويل؛ فإنه إما أن يقتصـر على تبيين الحال له، وإما أن يقتصـر على تبيين حكم الشـرع فيهم، وإما أن تبين له حالهم ويبين له حكم الشـرع فيهم، وهذا بناء على ظهور الشـرك وظهور حال المتوقف فيهم؛ فإن توقف بعد ذلك فهو كافر، وأما إن كان حالهم ظاهرا، وحكم الشـرع فيهم ظاهرا؛ فيحكم بكفر المتوقف من غير تبيين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم: عرف حالهم؛ فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم".(10) انتهى كلامه.

* فـانظر هنا كيف اقتصـر شيخ الإسلام في تكفير المتوقف في هذه الطائفة على تعريفه بحالهم.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله في بعض مرتدي زمانه: "فإن كان شاكا في كفرهم أو جاهلا بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء على: أن من شك في كفر الكافر فهو كافر".(11) انتهى كلامه رحمه الله.

* نلاحظ هنا أن الشيخ سليمان اشترط تبيين الحكم الشـرعي للمتوقف قبل تكفيره.

وقال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله فيمن قال بخلق القرآن: "ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر، ومن كان جاهلا علم؛ فإن أذعن بالحق بتكفيره وإلا ألزم الكفر". (12) انتهى كلامه رحمه الله.

* في هذه الصورة اشترط أبو حاتم تعليم المتوقف قبل تكفيره.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الحلولية: "ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر؛ كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشـركين".(13) انتهى كلامه.

* أما في هذه الصورة فقد اشترط تعريف الحال والحكم الشـرعي معا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "طائفة الدروز": "كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون؛ بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم". (14) انتهى كلامه.

* ونلاحظ في هذه الصورة أنه لم يشترط في تكفير المتوقف تبيين الحال، ولا تبيين الحكم؛ وذلك لظهور حال تلك الطائفة، وظهور الأدلة على كفرهم.

والقسم الثاني من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول فاسدة فتأول؛ فيؤثر في الحكم عليه شدة ظهور كفر المعين أو الطائفة، ففي حال شدة ظهور الكفر يعتبر كافرا معاندا متسترا بتأويله، وفي حالات أخرى اختلف بين تفسيقه وتكفيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "وأما من قال: (لكلامهم تأويل يوافق الشـريعة)؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى؛ فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلا، كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد".(15)
وقال أيضا رحمه الله: "وعنه -أي الإمام أحمد- في تكفير من لا يكفر روايتان؛ -يعني في تكفير من لم يكفر الجهمية- أصحهما لا يكفر".(16) انتهى كلامه.

وقال الإمام البخاري رحمه الله: "نظرت في كلام اليهود، والنصارى، والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم -يعني الجهمية-، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم".(17) انتهى كلامه رحمه الله.

والظاهر من قول الإمام البخاري أنه يذهب إلى عدم تكفير المتوقف في الجهمية؛ كإحدى الروايتين عن أحمد.

وقال المرداوي رحمه الله: "وذكر ابن حامد في أصوله كفر الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، وقال: "من لم يكفر من كفرناه فسق وهجر، وفي كفره وجهان"، والذي ذكره هو وغيره من رواة المروذي، وأبي طالب، ويعقوب، وغيرهم: أنه لا يكفر -إلى أن قال:- وقال في إنكار المعتزلة استخراج قلبه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسـراء وإعادته: في كفرهم به وجهان، بناء على أصله في القدرية الذين ينكرون علم الله وأنه صفة له، وعلى من قال: لا أكفر من لا يكفر الجهمية".(18) انتهى كلامه رحمه الله.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة -يعني الذين يفضلون عليا على سائر الصحابة بلا طعن فيهم- ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافا عنه أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشـريعة". (19) انتهى كلامه رحمه الله.

والقسم الثالث من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول صحيحة فتأول؛ كما جاء في خطأ بعض الصحابة رضي الله عنهم في تكفير بعض المرتدين؛ حيث بين الله تعالى خطأ من توقف، ولم يحكم عليهم بكفر.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] الآية".(20)

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار، مع تكلمهم بالإسلام".(21) انتهى كلامه.

وروي أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.

فقد قال الله تعالى:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88].

وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(22)

وصح عن مجاهد رحمه الله، أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(23)

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شـيء، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] الآية". (24)

وقال الإمام الطبري رحمه الله في تأويل قوله تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم".(25) انتهى كلامه رحمه الله.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(26) انتهى كلامه رحمه الله.

وقال ابن أبي زَمَنِين رحمه الله -وهو من أئمة أهل السنة-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـرتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله -تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88]".(27) انتهى كلامه رحمه الله.

ورجح طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر رضي الله عنه كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم؛ فقد صح عن عمر رضي الله عنه، أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه في شأن "المرتدين": كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(28)

* والحكم في هذه الحال: أن المتوقف لا يكفر ابتداء، بل يحكم عليه بالخطأ، وهذا الحكم مبني على أن التكفير من الأحكام الشـرعية، وأن حكم المجتهد المخطئ فيه كحكم غيره ممن أخطأ في المسائل الشـرعية، فإذا بينت له الأدلة وانقطع تأويله ثم توقف بعد ذلك فهو كافر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة: هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين والجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه".(29) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "ثم لو قدر أن أحدا من العلماء توقف عن القول بكفر أحد من هؤلاء الجهال المقلدين للجهمية، أو الجهال المقلدين لعباد القبور، أمكن أن نعتذر عنه بأنه مخطئ معذور، ولا نقول بكفره لعدم عصمته من الخطأ، والإجماع في ذلك قطعي".(30) انتهى كلامه.

المرتبة الرابعة- من توقف فيمن وقع في كفر أو شـرك، وكان سبب توقفه غرضا شـرعيا مباحا، فمن ذلك:

1- من توقف فيمن وقع في نوع شـرك أو كفر مختلف في أنه مخرج من الملة؛ كترك الصلاة.

2- ومن ذلك من توقف فيمن انتسب للعلم الشـرعي بغرض الدفع عن تكفير علماء المسلمين.

وحكم المتوقف في هاتين الصورتين أنه مجتهد مأجور بإذن الله؛ إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشـرعية؛ حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصـرا لأخيه المسلم: لكان هذا غرضا شـرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد". (31) انتهى كلامه.

* وههنا سؤال مهم، وهو: أين مرتبة المتوقف في عباد القبور من هذه المراتب؟

• والجواب أن مرتبة المتوقف في القبورية تختلف بحسب ظهور الشـرك أو الاعتقاد في صاحب القبر، ولا شك أن منها ما يماثل عبادة الأصنام أو يزيد عليها، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما يقتصـر على الابتداع في الدين ولا يبلغ الشـرك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمراتب في هذا الباب ثلاث:

إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصـرني على عدوي، ونحو ذلك فهذا هو الشـرك بالله...

* وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي؛ كما يفعله طائفة من الجهال المشـركين..

* وأعظم من ذلك: أن يسجد لقبره ويصلي إليه، ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص، والكعبة قبلة العوام..

* وأعظم من ذلك: أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول: (إن السفر إليه مرات يعدل حجة)، وغلاتهم يقولون: (الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة)، ونحو ذلك؛ فهذا شـرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه..

الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا؛ كما تقول النصارى لمريم وغيرها؛ فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة...
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شـيء من مصائب الدنيا والدين؛ ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته؛ فإن ذلك في حياته لا يفضـي إلى الشـرك، وهذا يفضـي إلى الشـرك..
الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه".(32) انتهى كلامه رحمه الله.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى التوفيق والعون والسداد، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 ه‍ـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 101 الافتتاحية: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 101
الافتتاحية:

أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ


إن النَّاظر في حال الكفار اليوم بمختلف مللهم ونحلهم، يرى فيهم الكبر والعجب، والبطر والخيلاء، يصُّبون حِمم حقدهم على المسلمين، أينما وُجدوا، ولا يألون في ذلك جهدا، ولا يدَّخرون فيه وُسعا، يبذلون الغالي والنفيس لإطفاء نور الله، وردِّ المسلمين عن دينهم، حسِبوا أنهم على ذلك قادرون، وله منجزون، مصرِّحين للعالم أجمع بقولهم: "من أشد منا قوة"، قالوها وقد مُلئت قلوبهم تجبُّرا وعنادا، وكفرا وإلحادا، ظانِّين أنهم مُعجِزو الله، وأن لن يقدر عليهم أحد، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]، {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} [التوبة: 70]،{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21].

إن الله الذي أهلك عادا وثمود، وفرعون وهامان وجنودهما، وكلَّ من قاتل الأنبياء وعادى الرُّسل، لن تُعجزه أمريكا وروسيا، ولا الروافض والنصيرية، ولا ملاحدة الأكراد ومرتدو الصحوات، بل ولا كفار الأرض مجتمعين، فإن إهلاكهم عليه يسير، وإنه عليهم لقدير، {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59]، كيف لا، وهم لا يشاؤون إلا أن يشاء، ولا يقدرون إلا أن يأذن، فإن طائراتهم تطير بقدر الله، وهو قادر على إسقاطها إن شاء، وإن سفنهم تجري بأمر الله، وهو قادر على إغراقها إن شاء، وإن آلياتهم تمشي بإذن الله، وهو قادر على تدميرها إن شاء، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].

وإن المسلمين إذا تيقنوا بأن الله للكافرين قاهر، ودينه عليهم ظاهر، وأن الله يبتليهم بالكافرين، ويبتلي الكافرين بهم، توكلوا على خالقهم حق التوكل، سألوه النصر وحده، وخاضوا غمار الحرب، حاديهم قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) [سنن الترمذي]، فإن الله ناصر جنده، ومعزُّ عباده، وهو قاهر أعدائه، {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147]، وإن من ظنُّوا غير ذلك فإنما {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].

وإننا كلما اشتدت الكروب، وعظمت الخطوب، ازددنا يقينا بأن الله منجزنا ما وعدنا، وأن نصره لنا قد اقترب، وأن الله لن يخذلنا، وأنه جاعل لنا من هذا الضيق مخرجا، إنما هو الابتلاء الذي يُنقى به الصف، والامتحان الذي يخرج به الخبث، وإن الله قد ابتلى من كان قبلنا بما هو أشد، حتى إذا أذن بنزول النصر نزل، لم يمنعه عدد الكفار وعتادهم، ولا قوتهم وجبروتهم، {حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

وإننا نعلن لأمم الكفر قاطبة، أننا اليوم بتنا من النصر أقرب من أي وقت مضى، فقد صقلتنا الشدائد، وخرج من صفوفنا الخبث، ونزداد في كل يوم من الله قربا وإليه التجاءً، وتزدادون منه بعدا وعنه نفورا، فما هي إلا مسألة وقت حتى تخور قواكم ويُكسر كبرياؤكم، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196-197]، فأنتم تتربصون بنا أن تُفنينا حملتكم الأخيرة هذه، {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 ه‍ـ
...المزيد

السلسلة العلمية المنهجية 2 (أصل الدين) الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا ...

السلسلة العلمية المنهجية 2
(أصل الدين)

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام الأولين والآخرين، أما بعد:

ففي هذه الحلقة سنتناول الحديث عن أصل الدين، وهو موضوع في غاية الأهمية؛ وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد إلا إذا أتى به.


• فما هو أصل الدين؟

أصل الدين هو الإقرار بالله، وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه.

أربعة أمور ...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإبراهيم وموسى قاما بأصل الدين؛ الذي هو الإقرار بالله، وعبادته وحده لا شـريك له، ومخاصمة من كفر بالله".([1]) انتهى كلامه.

"والبراءة ممن أشرك به سبحانه" هو ما عبَّر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله: "ومخاصمة من كفر بالله"، فكلا العبارتين معناهما واحد: مخاصمة المشـركين والبراءة منهم.

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله". ([2]) انتهى كلامه.

فنقول بناء على ما سبق: لو أن شخصا أتى بثلاثة أمور من أصل الدين ولم يأت بالرابع؛ كترك عبادة ما سوى الله تعالى، أو ترك البراءة ممن أشـرك به سبحانه، هل يصح إسلامه؟، الجواب: لا.
فماذا يسمى؟، يسمى مشـركا كافرا.

وهذا القدر الذي هو أصل الدين لا يعذر من لم يأت به أحد بلغ حد التكليف ولو كان جاهلا، سواء بلغته الحجة الرسالية أو لم تبلغه، أو بلفظ آخر سواء جاءه رسول أو لم يأته.

قال إمام المفسـرين ابن جرير الطبري رحمه الله بعد ذكره لشـيء من أصل الدين، قال: "لا يعذر بالجهل به أحد بلغ حد التكليف؛ كان ممَّن أتاه من الله تعالى رسول، أو لم يأته رسول، عاين من الخلق غيره، أو لم يعاين أحدا سوى نفسه".([3]) انتهى كلامه رحمه الله.

لم يعاين أحدا سوى نفسه؛ يعني لم ير إلا نفسه؛ كمن كان في جزيرة نائية ولم ير أحدا من الناس سوى نفسه.

نقول: فإذا جاءه رسول دخل في أصل الدين الإيمان به وبما جاء به على وجه الإجمال.

إذن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم منذ بعثته إلى الآن، وبما جاء به على وجه الإجمال يدخل في أصل الدين؛ لأن أصل الدين هو الشهادتان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله". ([4]) انتهى كلامه رحمه الله.

• طيِّب ما معنى (الإقرار بالله)؟

يعني: الإيمان بوجوده تعالى، وأنه متصف بصفات الكمال، ومنزه عن النقائص والعيوب، وأنه سبحانه المتفرِّد بالخلق والأمر.

قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]
والأمر منه ما هو كوني؛ أي أنه سبحانه يقول للشـيء كن فيكون، ومن الأمر ما هو شرعي؛ ويتمثل بتفرده سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن أصل الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله؛ فإن الله سبحانه في سورة الأنعام والأعراف عاب على المشـركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وأنهم شـرعوا من الدين ما لم يأذن به الله". ([5]) انتهى كلامه رحمه الله.

مرة ثانية: ما هو أصل الدين؟ هو الإقرار بالله، وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشـرك به سبحانه، شرحنا الإقرار بالله.

طيب، ما معنى: عبادته سبحانه وحده، وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه؟
معناه: توحيد الله، ومحبة التوحيد وتحسينه، وموالاة أهله، وتقبيح الشـرك، واجتنابه، ومخاصمة أهله.

قال ابن القيم رحمه الله: "واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشـرك معلوما بالعقل، مستقرا في الفطر، فلا وثوق بشـيء من قضايا العقل؛ فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات، وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر". ([6]) انتهى كلامه رحمه الله.

وموالاة أهله: هذا هو الولاء؛ موالاة المؤمنين ...، ومخاصمة أهله -يعني أهل الشـرك-: هذا هو البراء من المشركين ...

ومن هنا يتبيَّن أن الولاء والبراء يدخل في أصل الدين.

ولكن ههنا مسألة؛
وهي الفرق بين وجود العداوة للكافرين وبين إظهار العداوة، فالأول -وهو وجود العداوة- من أصل الدين، والثاني: وهو إظهار العداوة فمن واجبات الدين لا من أصله.

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله: "ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، والثاني: لا بد منه؛ لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب لله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن". ([7]) انتهى كلامه.
أصل الدين كما قلنا: لا يُعذر بالجهل به أيُّ أحد؛ أي لا يصح إسلام من نقضه ولا يرتفع عنه اسم الكفر.

• لماذا لم يعتبر بجهل الرجل العاقل أو المرأة العاقلة في أصل الدين؟

لأنه مما علم وثبت بالميثاق وضرورة الفطرة والعقل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل الدين هو عبادة الله، الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس". ([8]) انتهى كلامه.

وقال ابن القيم رحمه الله: "وأي شيء يصح في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي، وأن العلم بقبحه بديهي معلوم بضـرورة العقل، وأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم من قبحه". ([9]) انتهى كلامه رحمه الله.

ومن هنا نعلم أن أصل الدين لا يشترط فيه إقامة الحجة للحكم بالكفر على من لم يأت به؛ أي نحكم على من لم يأت بأصل الدين بالكفر، سواء أقيمت عليه الحجة أم لم تقم.

ونؤكد على أنه لا عذر لأي أحد بالجهل في هذه المسائل، التي هي من أصل الدين؛ لأنها من العلوم الضرورية المستقرة في جميع الفطر والعقول، وبالتالي فمن انتقض أصل دينه فهو مشـرك، ولكن عذابه في الدنيا والآخرة متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل". ([10]) انتهى كلامه رحمه الله.

سؤال: ما الذي يناقض أصل الدين؟
الجواب: الشـرك ...

حيث قلنا في تعريف أصل الدين: أنه الإقرار بالله وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه، إذن: الشرك بـالله يناقض أصل الدين وينافيه.

ومعنى الشـرك شـرعا: هو جعل الشـريك أو الند لله تعالى في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته.

فمثال شـرك الربوبية: أن يجعل مع الله خالق أو رازق أو مدبر أو حاكم أو مشـرع.

ومثال الشـرك في الألوهية: السجود أوالدعاء أوالنذر أوالذبح لغير الله.

ومثال الشـرك في الأسماء والصفات: تعطيلها مثل نفي العلم والسمع والبصـر عن الله، أو تشبيهه سبحانه وتعالى بخلقه.

وكل هذا الشـرك لم يعذر فيه أحد من المشـركين بجهله؛ لأنه يناقض أصل الدين، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حكم بكفر الأتباع والمقلدين، وحكم بكفر الأميين من أهل الكتاب مع جهلهم، وحكم بكفر جهلة مشـركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "من مات مشـركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشـركين كانوا قد غيَّروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشـرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشـركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضـى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشـرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل، والله أعلم". انتهى كلامه رحمه الله.

وأما الجهلة من المشـركين بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من المنتسبين للإسلام وغيرهم فالأمر فيهم أشد؛ لأن غالب جهلهم جاء من جهة الإعراض عن رسالته صلى الله عليه وسلم، والإعراض بمجرده كفر، فكيف لو كان معه شـرك؟!

قال الشوكاني رحمه الله: "ومن وقع في الشرك جاهلا لم يعذر، لأن الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جهل فقد أتي من قبل نفسه؛ بسبب الإعراض عن الكتاب والسنة، وإلا ففيهما البيان الواضح؛ كما قال سبحانه في القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، وكذلك السنة: قال أبو ذر رضي الله عنه: " توفي محمد صلى الله عليه وسلم وما ترك طائرا يقلب جناحيه بين السماء والأرض إلا ذكر لنا منه علما"، أو كما قال رضي الله عنه؛ فمن جهل فبسبب إعراضه، ولا يعذر أحد بالإعراض". انتهى كلامه رحمه الله.

هذا وأدلة عدم عذر الجاهل في الشـرك والذي يناقض أصل الدين كثيرة.

منها قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].

قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة، باتخاذهم الشياطين نصـراء من دون الله وظهراء؛ جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتوه وركبوا.
وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادا منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية". ([11]) انتهى كلامه رحمه الله.

ومن الأدلة على عدم عذر الجاهل في الشـرك: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].

قال الطبري رحمه الله: "وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته؛ وذلك أن الله -تعالى ذكره- أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم: أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة". ([12]) انتهى كلامه رحمه الله.

طيب: إذا حكمنا على شخص ما بالكفر والشـرك، ما الذي يترتب على ذلك؟

يترتب على حكمنا على أحد بالكفر والشـرك ولو كان جاهلا: قطع الموالاة الإيمانية بيننا وبينه حتى يتوب إلى الله تعالى، وعدم التناكح معه أو أكل ذبيحته، وكذا عدم الاستغفار له إن مات على ذلك، وأنه لا حظ له من الحقوق التي أوجبها الله للمسلمين، وغير ذلك من الأحكام.

وأما تعذيبه في الدنيا والآخرة فهذا متوقف على قيام الحجة الرسالية، وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، ودليله قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
ونؤكد على: أن من وقع في الشـرك من هذه الأمة فهو مشـرك كافر أيضا، وإن كان مدعيا للإسلام ناطقا بالشهادتين.

قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

وقال تعالى بعد ذكره لأنبيائه عليهم السلام: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].

وهذه الآيات من أقوى الأدلة على أن الإسلام يحبط بالشـرك، وأن من أشرك من هذه الأمة فهو كافر، وإن كان ناطقا بالشهادتين عاملا بشعائر الإسلام الأخرى.
ونختم بمسألتين:

الأولى: لو كان إنسان قائما بأصل الدين يعبد الله ولا يشـرك به شيئا، ويؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، لكنه يجهل مصطلح أصل الدين.

بمعنى أنك لو سألته: ما هو أصل الدين تلعثم أو لم يحر جوابا، فلا يضـره ذلك؛ لقيامه بأصل الدين، إذ لا يضـره عدم معرفة ما اصطُلح عليه في هذه المسائل والمعاني.

والدليل على ما ذكرنا: ما جاء في الصحيحين -واللفظ للبخاري-: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معاذ)، قلت: لبيك وسعديك، ثم قال مثله ثلاثا: (هل تدري ما حق الله على العباد)، قلت: لا، قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشـركوا به شيئا).

فتصـريح معاذ رضي الله عنه بأنه يجهل حق الله على عباده لم يوقعه في الكفر أو الشرك؛ لأنه قائم بهذا الحق وإن لم يعلم الاصطلاح الشرعي الذي يدل على ذلك المعنى.

المسألة الثانية: أن إحدى المسائل التي ذكرنا أنها من أصل الدين قد يخفى على بعض طلبة العلم أنها من أصل الدين، وهي مسألة عداوة المشـركين، وموالاة المؤمنين؛ فيظن أنها من واجبات الدين لا من أصله، أو يتوقف فيها، فهذا لا يعد ناقضا لأصل الدين طالما أنه حقق البراءة من المشـركين، والموالاة للمؤمنين.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: "بحسب المسلم أن يعلم: أن الله افترض عليه عداوة المشـركين وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان، ونفى الإيمان عمن يواد {مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله أو لوازمها، فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك، إنما كلفنا بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به، فهذا هو الفرض والحتم الذي لا شك فيه، ومن عرف أن ذلك من معناها، أو من لازمها فهو حسن، وزيادة خير، ومن لم يعرفه فلم يكلف بمعرفته، لا سيما إذا كان الجدال والمنازعة فيه مما يفضي إلى شـر واختلاف، ووقوع فرقة بين المؤمنين، الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله، وعادوا المشـركين، ووالوا المسلمين". ([13]) انتهى كلامه رحمه الله.

ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمع كلمتنا على الحق، وأن يجعلنا هداة مهديين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


[1])) مجموع الفتاوى (16/203).
[2])) منهاج السنة النبوية (5/255).
[3])) التبصير في معالم الدين (ص126-132).
[4])) مجموع الفتاوى (1/10).
[5])) مجموع الفتاوى (20/357).
[6])) مدارج السالكين (3/455).
[7])) الدرر السنية (8/359).
[8])) مجموع الفتاوى (15/438).
[9])) مدارج السالكين (1/253).
[10])) طريق الهجرتين (ص414).
[11])) تفسير الطبري (12/388).
[12])) تفسير الطبري (18/128).
[13])) الدرر السنية (8/166).



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 100
الخميس 15 محرم 1439 ه‍ـ
...المزيد

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:

فهذه سلسلة إذاعية في بيان وتوضيح بعض مسائل المنهج والعقيدة، التي وقع فيها الالتباس والاشتباه على أبنائنا وإخواننا من جنود الدولة الإسلامية وسائر المسلمين في داخل دولة الخلافة وخارجها؛ وذلك بسبب التعميم الصادر عن اللجنة المفوضة المعنون له بالآية: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، الذي تم إيقاف وتعطيل العمل به؛ وذلك لما تضمنه من أخطاء علمية ومنهجية وعبارات موهمة حمالة أوجه، أدت إلى الوقوع في التنازع والاختلاف.

فكان لزاما علينا عدم تأخير البيان عن وقت دعت الحاجة إليه واشتدت، وأصبحت ضرورة ملحة؛ وذلك لجمع كلمة الدولة، وتأليف قلوب جنودها على الحق، وإفراغهم لصد عادية أمم الكفر عليها، والذب عن بيضة الإسلام وحرماته.

وقد حذرنا الله تعالى من التنازع والاختلاف أيما تحذير فقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]

وفي الوقت ذاته أمرنا بالجماعة وعظم شأنها ..
قال النبي ﷺ: «عليكم بالجماعة»، وقال ﷺ: «يد الله مع الجماعة»، وقال ﷺ: «وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد».
وجاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه، قال ﷺ: «وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، السمع والطاعة، والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».

وإن من أسباب الفتنة والاختلاف والتنازع:

1 - ترك الاعتصام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، والاعتماد على الأهواء وأقوال الرجال ..
قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وقال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101].

قال ﷺ: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب ?لله وسنتي".

وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا؛ فيرضـى لكم أن تعبدوه ولا تشـركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».

وكان النبي ﷺ يقول إذا خطب: «أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشـر الأمور محدثاتها».

وقال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله تعالى".

وعن التابعي الجليل ابن شهاب الزهري ؒ، قال: كان من مضـى من علمائنا يقولون: "الاعتصام بالسنة نجاة".

وقال الإمام الأوزاعي ؒ: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه بالقول؛ فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: "وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق". ([1])
وقال أيضا ؒ: "والفتنة والفرقة لا تقعان إلا من ترك ما أمر الله به، والله تعالى أمر بالحق والعدل وأمر بالصبر، والفتنة تكون من ترك الحق أو من ترك الصبر". انتهى كلامه ؒ.

2 - ومن أسباب الاختلاف والتنازع عدم تمييز السنة من البدعة على بعض صغار المنتسبين للعلم أنصاف المتعلمين، الذين جعلوا أنفسهم في مصاف الأئمة المجتهدين، فتجد الواحد منهم يزعم أنه المهتدي، ويحسب أن السنة معه، وأن المخالف له ضال مبتدع وربما قال: كافر، فينشأ عن ذلك من التفرق والشـرور ما الله به عليم.

والسنة هي ما أمر به الله ورسوله، والبدعة هي ما لم يشرعه الله من الدين.
وقد قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43].

وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

وعن محمد بن سيرين ؒ، قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم". انتهى كلامه.
ومن صفات رؤوس الضلالة (أهل البدع): أنهم يمررون باطلهم بعبارات شرعية رنانة، كحفظ جناب التوحيد، وملة إبراهيم، والتوحيد الخالص وغيرها؛ كما قالت الخوارج لعلي بن أبي طالب ؓ: "لا حكم إلا لله، وقالوا: "لا نحكم الرجال، نريد حكم الله".
وهذه الأقوال لا تروج على أهل العلم، كما لا تروج الدنانير الزائفة على الصيرفي الحاذق، فقد فهم علي ؓ مغزى كلام الحرورية، ولم يرج عليه قولهم: (لا حكم إلا لله) كما راج على الجهال، حيث قال ؓ: "لا حكم إلا لله، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، فما تدرون ما يقول هؤلاء؟ يقولون: لا إمارة، أيها الناس، إنه لا يصلحكم إلا أمير بر أو فاجر".([2])
وفي صحيح مسلم عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ، أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب ؓ قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: "كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله ﷺ وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم (وأشار ؓ إلى حلقه) من أبغض خلق الله إليه".

قال النووي ؒ: "قوله: (قالوا لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل) معناه: أن الكلمة أصلها صدق، قال الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40]، لكنهم أرادوا بها الإنكار على علي ؓ في تحكيمه". انتهى كلامه.

من أجل ذلك وجب على طالب الحق أن يبتغي الحق من مظانه، لا من المرجفين أنصاف المتعلمين، ولا من علماء الضلالة.

وكان سفيان بن عيينة وغيره من أهل العلم كالإمام أحمد وعبد الله بن المبارك يقولون: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

فكيف تترك أخي المجاهد أهل الثغر من العلماء الذين نفروا إلى أرض الجهاد والإسلام، كيف تترك هذا المعين الصافي، ثم تذهب لتأخذ دينك عن القاعدين بين أحضان طواغيت جزيرة العرب وغيرها، وما كفرهم ولا أنكر عليهم، يخالط جنوده ورجال أمنه ومخابراته من غير أن يبين لهم ما ارتكبوه من نواقض.

ولا تغتر أخي بسجن الطاغوت لأحدهم، فقد يكون تلميعا وإشهارا له ولأقواله، وإدخالا له على الإخوة في السجون؛ لإحداث البلبلة وإلقاء الشبهات بينهم، وقد كانت لهم الفرصة سانحة إن كانوا أهل حق وصدق أن ينفروا إلى أرض الجهاد، ويهاجروا إلى دار الإسلام.

فإن الطاغوت الذي يؤوي أمثال هؤلاء المنظرين للغلو في التكفير، ويسمح برواج بدعتهم هو نفسه الذي يؤوي أهل التجهم والإرجاء ويعينهم على الترويج لبدعتهم، وما ذلك إلا لكون الطرفين والمنهجين يؤديان لنتيجة واحدة؛ وهي الطعن في أهل الحق وترك الهجرة والجهاد في سبيل الله تعالى.

أخي المجاهد: كيف بعد إذ نجاك الله من شباك علماء الطواغيت أهل الإرجاء، تعود فتقع في شباك علماء الطواغيت المروجين للغلو المصدرين للشبهات؛ لكي يقعدوك عن جهادك، ويردوك عن هجرتك، فيسلم من بأسك أولياؤهم من أعداء الله تعالى.

وقد قال بعض السلف: "ما أمر الله تعالى عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: فإما إلى غلو، وإما إلى تقصير؛ فبأيهما ظفر قنع".

كيف تترك علم من يحمل معك السلاح، ويقاتل معك في الصف من أهل العلم والفقه -لا أعني أنصاف المتعلمين-، وتسلم عقلك وذهنك إلى من لا يستأمن على دينه، وهو يعيش في دعة سالما مسالما للطواغيت، وينظر لك من بعيد؟!

3 - السبب الثالث من أسباب الاختلاف والتنازع: البغي، يقال بغى فلان على فلان؛ أي تعدى عليه بالقول أو الفعل وتجاوز حده.

قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الشورى: 14].
وقال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الجاثية: 17].
وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة: 213].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: "الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد ... فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي، وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين، سواء كان قولا أو فعلا ...

وقال أيضا ؒ: "وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك: هو من هذا الباب؛ فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، ويكون المخطئ باغيا، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر". ([3]) انتهى كلامه.
وإن من البغي الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، وقذف المسلم بالكفر أو البدعة تعديا وظلما جزافا من غير بينة ...

أخرج ابن حبان في صحيحه عن حذيفة ؓ، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان ردئا للإسلام، غيره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشـرك»، قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشـرك، المرمي أم الرامي؟ قال: «بل الرامي».

وقال الآجري ؒ: "إن الله عز وجل بمنه وفضله أخبرنا في كتابه عمن تقدم من أهل الكتابين اليهود والنصارى، أنهم إنما هلكوا لما افترقوا في دينهم، وأعلمنا مولانا الكريم أن الذي حملهم على الفرقة عن الجماعة والميل إلى الباطل الذي نهوا عنه، إنما هو البغي والحسد، بعد أن علموا ما لم يعلم غيرهم، فحملهم شدة البغي والحسد إلى أن صاروا فرقا فهلكوا، فحذرنا مولانا الكريم أن نكون مثلهم فنهلك كما هلكوا، بل أمرنا عز وجل بلزوم الجماعة، ونهانا عن الفرقة، وكذلك حذرنا النبي ﷺ من الفرقة وأمرنا بالجماعة، وكذلك حذرنا أئمتنا ممن سلف من علماء المسلمين، كلهم يأمرون بلزوم الجماعة, وينهون عن الفرقة". ([4]) انتهى كلام الآجري ؒ.

وننكر أشد النكير على من يبغي ويتعدى فيكفر العلماء أمثال ابن قدامة المقدسـي والنووي وابن حجر العسقلاني وغيرهم ô ممن لهم على أمة الإسلام أياد بيضاء في نشـر العلم ونصـرة الشـريعة، بل نحفظ مكانتهم ونترحم عليهم، ونعتذر عما بدر منهم من أخطاء وزلات.

قال الشعبي -أحد أئمة التابعين- ؒ: "كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم". ([5])

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية". ([6]) انتهى كلامه ؒ.

وقال الشيخ عبد الله بن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ؒ: "ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها". انتهى كلامه ؒ.

وممن نثني عليهم، ونحفظ حقهم علينا أمراء الدولة الإسلامية من أبي مصعب الزرقاوي؛ أمير الاستشهاديين، الصادع بالحق والتوحيد، وقتّال أهل الشـرك والتنديد، مرورا بالشيخ المجاهد أبي عمر البغدادي صاحب العقيدة الراسخة والمواقف الشامخة، ووزيره الشيخ المجاهد أبي حمزة المهاجر صاحب التآليف والتصانيف النافعة، والشيخ أبي محمد العدناني قامع المنحرفين، وكاسر حدود الكافرين، والعالم الرباني أبي علي الأنباري، وغيرهم من أمراء هذه الدولة الذين قضوا في سبيل الله، نحسبهم والله حسيبهم، ولا نزكي على الله أحدا.

وستشتمل هذه السلسلة بإذن الله تعالى على بيان أمور منها:
* حكم التوقف في تكفير المشركين أو الكفار.
* حكم الطوائف الممتنعة، وحكم المخالف فيها.
* حكم ساكني ديار الكفر الطارئ.
ونسأل الله تعالى أن يبارك في هذه السلسلة العلمية، وأن يجعلها سببا لجمع كلمة المجاهدين على الكتاب والسنة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


[1])) مجموع الفتاوى (3/279).
[2])) مصنف ﭐبن أبي شيبة (7/562/37931).
[3])) الاستقامة (1/37(.
[4])) الشـريعة (1/270).
[5])) مجموع الفتاوى (7/284).
[6])) مجموع الفتاوى (35/103).



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 98
الخميس 1 محرم 1439 ه‍ـ
...المزيد

العبودية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم المرسلين، أما بعد... إذا عرف ...

العبودية


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم المرسلين، أما بعد...

إذا عرف المخلوق ربه، وأنه خالق الكون ومُدبِّره، وهو الذي يرزقه ويُنعم عليه النعم المتتالية، وجبت عليه عبادته والخضوع لأمره ونهيه.

• أهمية العبادة ومعناها

توحيد الله -تعالى- وعبادته وحده هي الغاية التي خلق الله -تعالى- لأجلها الخلق، وهي الأمر الأعظم والأوجب عليهم من خالقهم الذي يرزقهم ويدبّر أمورهم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، ودعوة توحيد الله -تعالى- بالعبادة هي دعوة المرسلين لأقوامهم، فكلهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، ولقد ذمَّ الله المستكبرين عن عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، والعبادة تُصرف لله وحده، وصرف شيء منها لغيره يبطل إسلام المرء.

وحاجة العبد للعبادة لا تُقاربها حاجة، وهي أشد من حاجة الجسد للطعام والشراب، لأنها حاجة القلب والروح، وهما أهم من الجسد، ولا يطمئنان ولا يسكنان ولا يشبعان ولا يرتويان إلا بالعبادة، وكلما طابت العبادة طاب القلب وارتاح، وإذا أقبل على الله اعتزَّ وإن كان ذليلا، واستغنى وإن كان محتاجا.

وأركان العبادة هي امتثال أمر الله مع الخضوع والمحبة والتعظيم، والأمور التي تدخل في العبادة: كل ما رضِيَه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالأقوال كالدعاء والاستغاثة وكالذكر وشهادة أن لا إله إلا الله والأقوال الداخلة في الصلاة من ذكر وقراءة القرآن ونحوها، والأعمال كالصلاة والجهاد والذبح والتحاكم في الخصومة وغير ذلك، والأعمال الباطنة مثل الرجاء والخوف والتوكل والتعظيم، وكل هذا إما أن يُفْعل لله فهو التوحيد، وإما أن يُفْعل لغيره فهو الشرك.

• لا تصِحُّ العبادة مع الشرك والبدعة

إن مقام العبودية من أعظم المقامات التي امتدح الله بها أنبياءه ومنها قوله -تعالى- في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] فالعبد المسلم يشترط لصحة عبادته ووصفه بالعبودية الحقيقية لله -تعالى- أن يكون مخلصا متابعا، فما معنى الإخلاص والمتابعة؟

الإخلاص هو ضد الشرك، ولا تصِحُّ العبادة إلا بإخلاصها أي تخليصها من أي نوع من أنواع الشرك المبطل لها، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، قال الإمام الطبري: "مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك" [جامع البيان].

وأما المتابعة فتعني أن تعبُد الله -عز وجل- بما شرع -سبحانه- في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌ)، وكل عمل بلا اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يزيد عامِلَه من الله إلا بُعدا، وإن الله -تعالى- يُعبَد وفق أمره لا بالآراء والأهواء، عن الحسن البصري قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا، صياما وصلاة، إلا ازداد من الله بعدا" [البدع لابن الوضاح].

• التوحيد وفضله والشرك وشره

فعبادة الله وحده هو توحيده، وعبادة غيره معه شرك، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنتُ ردفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمارٍ يقال له عفيرٌ، فقال: (يا معاذُ، هل تدري حقَّ اللهِ على عبادِه، وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّ حقَّ اللهِ على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذِّبَ من لا يشرك به شيئاً). فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: (لا تبشِّرهم فيتَّكلوا) [رواه البخاري ومسلم].

والتوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وفضل هذه الكلمة عظيم جليل، لمن أعطاها حقها فآمن بها وعمل بمضمونها، فالموحِّد لا يُخلَّد في النار كما ورد في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، وللموحِّد الأمن التام يوم القيامة كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وروى الترمذي عن أنس وحسَّنهُ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال اللَّه تبارك وتعالى: ...يا ابن آدم إنَّكَ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة).

ومن أتى بالتوحيد بأعلى درجاته دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما في حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى -صلى الله عليه وسلم- وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب). ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال (أنت منهم)، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].

فهذا فضل التوحيد، أما شرُّ نقيضه وهو الشرك فأمره جلل وخطبه عظيم مهول، فإن المشرك لا يغفر الله له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، بل مصيره إلى النار خالدا فيها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار)، فمن كان يصرف كل العبادات لله إلا عبادة يسيرة يصرفها لغيره فهو مشرك، وجزاؤه النار خالدا فيها فانتبه لهذا يا عبد الله.

وكثير من الناس يستهين بالشرك، ويظنُّ أن جهره بلا إله إلا الله أو حبَّه للرسول -صلى الله عليه وسلم- أو حُبَّه لأهل الدين أو بِرَّه بوالديه أو دعوته لدين الله وطباعة المصحف، أو حج بيت الله الحرام، يظن أن ذلك فقط ينجيه من النار! بل لا ينجيه من النار إلا إخلاص التوحيد لله وعدم صرف العبادة لغيره، فيعبد الله وحده ولا يتحاكم عند النزاعات إلى محاكم الطواغيت، ولا يوالي جندهم من شرطة وغيرها محبة ونصرة وإعانة، ولا يستغيث عند الشدائد بغير الله، ولا يطلب الشفاعة من غير الله، ولا يشارك في الانتخابات، ولا يذهب للسحرة ليحبِّبوا إليه زوجه أو ليرقوا له مريضه.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 ه‍ـ
...المزيد

اغتنم صحتك قبل سقمك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله ...

اغتنم صحتك قبل سقمك

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [رواه البيهقي وهو صحيح على شرط الشيخين].

وقد تكلمنا عن مفردات هذا الحديث، ولم يبق لنا إلا الحديث عن الصحة قبل السقم، وعند معاينة هذا الجزء من الحديث، تجول في النفس كثير من المعاني التي حققها المغتنمون من أهل الصحة فيما يكثرونه من الطاعات، وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله، ثم قد يقف الواقف في معنى الاغتنام حيرانا أمام من قُطِّعت بعض أجسادهم، فلم يعجزوا ويقعدوا، بل أكملوا الطريق إلى نهايته، فلله درهم وعلى الله أجرهم.

ثم قد ترى بعض أهل الصحة من ينطبق عليهم وصف العجز بكل معانيه، فإنهم مع تمام صحتهم عجزوا عن تنفيذ مراد الله -تعالى- منهم، فأين عذرهم وقد جاهد أهل البلاء بما تبقى من أجسادهم، حتى عجز القلم أن يكتب عن جميل فعالهم وكريم خصالهم؟ أولئك الذي قُطِّعت أرجلهم فجاهدوا بأيديهم فلم يكن ذلك عائقا أمامهم لإكمال مسيرهم إلى الله -تعالى- بصدق وقوة عزيمة، قد تعالت نفوسهم على حطام الدنيا وبهرجها، فجادوا بما بقي من أجسادهم لله رب العالمين.

• العاجز من أتبع النفس هواها

فالعاجز في هذه الأيام ليس ذلك الذي فقد شيئا من جسده، بل العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ، وقعد عن نصرة دين الله -تبارك وتعالى- في زمن الجهاد والذود عن الدين والحرمات، في زمان تكالب الأمم على أمة الإسلام في دولة الإسلام، فشمَّر لها أهل العزائم من أولئك الذين أبقى الله في أجسادهم ما يستطيعون به حمل السلاح أو قيادة سيارة مفخخة نحو أهدافهم، إن العاجز ليس ذاك الولي الصادق الذي أكمل طريقه إلى ربه، إنما العاجز هو الذي وهبه الله صحة وجسدا سليما فلم يغتنم هذه النعمة في ما يرضي الله تبارك وتعالى، ولم يستعملها في نصرة دينه وعباده المستضعفين، وهذا هو الذي نعجب منه في هذا الزمن، وكما قال الشاعر:

عجِبتُ لمن له قَدٌّ وحَدٌّ
وينبو نبوة القضم الكهامِ
ومنْ يجد الطريق إلى المعالي
فلا يذرُ المطيَّ بلا سنامِ
ولم أرَ في عيوب الناس شيئاً
كنقص القادرين على التمامِ

فلا عجب أن ترى مواكب المغتنمين ممن ابتلاهم الله بالإصابات والابتلاءات ناصبين صدورهم لعدوهم، تروسا لحماية جناب التوحيد، فلم يجد اليأس إلى قلوبهم طريقا، وهم لا يجدون عن المعالي محيصا، حتى يركبوا إلى المجد مراكبه، للسير إلى سعادتهم وطيب مقامهم، فمن العاجز أيها الصحيح الذي لم تسقم؟ ومن المغتنم أيها السليم المنعّم؟ هل فقهت معنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حول اغتنامك صحتك قبل سقمك؟

• السقم الحقيقي هو سقم القلب

إن السقم الحقيقي هو سقم القلب وعجزه وضعف إرادته عن نيل المطالب العالية، التي لا تصلها إلا النفوس المرضية عند ربها، التي لا ترضى بعيش الدون، فإما الحكم لله، وإما نار لا تنطفئ أوراها حتى تحرق جموع الكفار والمرتدين، وهنا يسقط القلم فما عاد يجد الكلمات التي يصف بها فعال أولئك الموحدين المبتلين بقطع وبتر، من الذين ركبوا مراكب المنايا، فأحلُّوا بساحة أعدائهم المهالك والرزايا، ولكن لا يزال في الجعبة من كلمات الأسف على أولئك الذين سلموا من كل بلاء، وقد أنعم الله عليهم بنعمة الصحة وسلامة الأعضاء، فوا أسفاه عليهم حين لم يجد إخواننا المبتلون لأنفسهم عذرا فمضوا في طريق الجهاد، وهؤلاء قد وجدوا لأنفسهم أعذارا فنكلوا عن العز والسؤدد، فماذا أعددت لنفسك أيها السليم المسكين بين يدي الجبار؟ وأي غنيمة فاتتك أيها المعافى لتعتق رقبتك من النار؟
نعم، إنها الإرادة التي لا تعرف الانكسار، وتسعى بالصبر والمصابرة لنصرة دين الله تبارك وتعالى، تلك التي خالطت قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا لمعنى الاغتنام إلا طلب الكفار ومقارعتهم، فهل سمعت بالأعمى الذي خرج ليحمل اللواء فقُتل في سبيل الله تعالى؟ إنه الصحابي الجليل ابن أم مكتوم، لم يتعذر بأنه أعمى بل ساقه قلبه البصير إلى خير كرامة، شهادة في سبيل الخالق جل وعلا، وهل سمعت بالأعرج الذي أراد أن يطأ بعرجته الجنة؟ إنه الصحابي عمرو بن الجموح، الذي كانت أمنيته أن يطأ بعرجته الجنة، فقُتل في سبيل الله -تعالى- ولم يعتذر لنفسه.

• جعفر ذو الجناحين قدوة كل مسلم

فيا أيها الجريح ويا أيها المبتلى اقتدِ بأولئك، ألا ترى مواكب المقتدين من إخوانك قد اقتدوا بهم بأبهى حلةٍ للاقتداء وقد شاهدتهم بأم عينيك؟ فسارع إلى جنة ربك، فنعم الغنيمة هذه، حيث يبدلك الله بجسد خير من جسدك وزوجة خير من زوجتك وصحبة خير من صحبتك، حيث لا تتمنى إلا أن تعود إلى الدنيا لتُقتل مرة أخرى، ولا يضرك بأي جسد تقتل، فقط لترى من كرامة القتل في سبيل الله.

نعم، إنها تلك الإرادة الجامحة التي تثور في قلب الموحد ليعلي صرح التوحيد، فينال رضا ربه الإله الواحد الأحد، إنها تلك النار التي توقدت في قلب الجيل الأول فضحَّوا تضحية منقطعة النظير حين كان القتال بالسيف والرمح، وهو قتال صعب شديد، فهذا جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- يوم مؤتة، قُطعت يمينه فأخذ راية التوحيد بشماله فقطعت، فاحتضنها بذراعيه حتى قُتل، فلله دره، فماذا كان جزاؤه يا أهل البلاء ويا أهل العافية على حد سواء؟ الجزاء أن الله -تبارك وتعالى- أبدله بيديه أجنحة يطير بها في الجنة، وروى الإمام البخاري في صحيحه أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا سلم على ابن جعفر، قال: "السلام عليك يا ابن ذي الجناحين".

فيا أخي السليم المعافى ماذا ستصنع بهذا الجسد إذا وافتك المنية، وقد أبليت صحتك بالذنوب واللهو، حتى أسقمت ذلك الجسد بسخط الله وغضبه، فهلا قمت لله قومة موحد صادق، فلعل تلك الأعضاء تشهد لك عند الله -تعالى- كما ستشهد لإخواننا المجاهدين الذين قُطِّعت أعضاؤهم في سبيل مرضاة ربهم، نحسبهم والله حسيبهم، فأعضاؤك إما أن تشهد لك أو عليك، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]، قال الإمام الطبري في تفسيره: "وذلك حين يجحد أحدهم ما اكتسب في الدنيا من الذنوب، عند تقرير الله إياه بها، فيختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فإن قال قائل: وكيف تشهد عليهم ألسنتهم حين يختم على أفواههم؟ قيل: عني بذلك أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض، لا أنَّ ألسنتهم تنطق وقد ختم على الأفواه".

• الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح

فيا صاحب الصحة والسلامة، أما آن لك أن تشهد لك أعضاؤك بالخير بعد أن أوردتها ما يغضب الله تعالى؟ وهلا التحقت وسابقت إخوانك سواء من عافاهم الله ومن ابتلاهم؟ ألا ترى أن السباق جار وأن الغاية سهلة المنال؟ فاغتنم صحتك قبل سقمك، وأقدم فنعم المغنم ونعم التسابق والتنافس، قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 22 - 25]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) [رواه مسلم].

وهنا نذكِّر إخواننا الجرحى والمصابين الذين ابتلاهم الله على طريق الجهاد فنقول لهم، إن جرحى الصحابة يوم أحد كانت الجراح فيهم فاشية، وعندما أتاهم منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حمراء الأسد نهضوا وتركوا الدواء، لأنهم أحق الناس بهذا الأجر العظيم، قال ابن هشام في سيرته: "قال ابن إسحاق: قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}: أي الجراح، وهم المؤمنون الذين ساروا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغد من يوم أُحد إلى حمراء الأسد على ما بهم من ألم الجراح: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]".

فيا أيها المجاهدون الجرحى ومن ابتلاهم الله -تعالى- في أجسادهم: أنتم أحق من غيركم بالتقوى والأجر العظيم، فأنتم أهل السبق وأهل العز في زمن الخنوع، فسارعوا قبل غيركم ولا تركنوا إلى الأعذار فإنها لا تأتي بخير في زمن المدافعة عن حياض الدين والحرمات، فأكملوا طريقكم إلى ربكم، واغتنموا الأجر، وسابقوا أولي العافية والسلامة إلى الجنة، فوالله إن هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليعمل العاملون، وعلى فوات العمر فليبك العاجزون المقصرون، والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 ه‍ـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 95 الافتتاحية: مزيد من خسائر الحرب للدول ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 95
الافتتاحية:

مزيد من خسائر الحرب للدول الصليبية


علَّق أحد المسؤولين الصليبيِّين على قضية استهدافهم لجنود الدولة الإسلامية بقوله: لقد دخلوا حربا وعليهم أن يتوقعوا أن يكون موتهم أحد نتائجها.

إن ما أجراه الله -تعالى- على لسان هذا الكافر حقيقة لا تقبل النقاش، وخاصة عند جنود الدولة الإسلامية، بل الحقيقة أن المجاهدين عندما يمضون للقتال لا يكون الموت مجرد احتمال بالنسبة إليهم، وإنما أمنية يطلبونها ويسعون للحصول عليها، لأن الموت في هذه الحالة هو شهادة في سبيل الله، وبها ينال المؤمن أعلى الدرجات عند رب الأرض والسماوات.

ولكن يبدو أن الصليبيِّين ما زالوا غير مدركين لحقيقة تأثير ما نطق بها أحد مسؤوليهم، ولذلك نجدهم يُظهرون كمّاً كبيراً من الاستغراب والدهشة عند كل هجوم عليهم في أرضهم من قبل جنود الدولة الإسلامية، وكأنهم يعيشون في عالم آخر، هو غير العالم الذي تخوض فيه جيوشهم حربا طاحنة ضد جيش الدولة الإسلامية، ويسعون فيها جهدهم لتدمير ديار الإسلام، وقتل أكبر عدد ممكن من أطفال المسلمين ونسائهم، وشيبهم وشبانهم.

إنها ليست المرة الأولى التي تنساق فيها الدول الصليبية خلف حاملة لواء الصليب في هذا العصر، أمريكا، كما أنها ليست المرة الأولى التي يدفعون فيها الثمن الباهظ لهذه التبعية لطواغيتها في حربهم على المسلمين.

والظاهر أن طواغيت الدول الأوروبية في كل مرة يُخرجون فيها جيوشهم لقتال المسلمين وقتلهم تحت لواء أمريكا، يحسُبون فقط حجم العوائد التي ستعود عليهم من المشاركة في هذه الحرب، وينسون حساب التكاليف الباهظة التي عليهم دفعها للحصول على العوائد التي يحلمون بها.

وقد جربت إسبانيا (نفسها) هذا الأمر من قبل، فانساقت وراء الأحمق المطاع بوش في غزوه للعراق، وهي تحلم بحقول النفط، وأموال الإعمار، فوجدت جيشها الذي أرسلته إلى هناك في مقدمة الأهداف التي استهدفها المجاهدون، وأعظموا فيها النكاية ، حتى أُجبرت الحكومة الإسبانية على سحب جيشها من العراق خاسئة ذليلة، تلعق جراحها، وتتلقى اللعنات من رعاياها، ولكن يبدو أن ذلك الدرس لم يكن كافيا ليتعظ الصليبيُّون.

فعندما زعمت الحكومات اللاحقة أنها استوعبت الدرس الأول، وعزمت ألا يشارك جيشها في الحرب المباشرة على الأرض، قررت أن تشارك في حرب الدولة الإسلامية من خلال تدريب الجيش الرافضي، وتقديم الدعم الكبير له، وذلك في إطار دفعها لحصتها من التكاليف في إطار مشاركتها في التحالف الصليبي الدولي الذي أنشأته أمريكا لقتال الدولة الإسلامية.

وكما أنها لم تتعظ من تجاربها السابقة، فإنها أيضا لم تتعظ من تجارب غيرها من الدول الصليبية الأوروبية المحاربة للمسلمين، والتي هي أشد منها بأسا وقوة، وأحكم أمنا، وأمنع حدودا، كبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا، التي نالها جميعا بأس جنود الدولة الإسلامية، الذين هبوا مجيبين لتحريض ولاة أمورهم على قتل الكافرين في عقر دورهم، فاستمرت في حربها على المسلمين، وهي تحسب نفسها في منأى عما أصاب أخواتها.

واليوم يكرر جنود الدولة الإسلامية في أرض العدوة القصوى ما فعله إخوانهم الأبطال في بقية الدول الصليبية، ويعظمون النكاية في دولة إسبانيا الصليبية، ويصيبونها في أعظم مقاتلها وهو قطاع السياحة الذي يقوم عليه الجزء الأكبر من اقتصادها، ويقتلون ويصيبون أكثر من 100 من اليهود والصليبيِّين، ليقدموا للصليبيِّين درسا جديدا في السياسة، يُنبههم إلى ضرورة الاستعداد لدفع التكاليف البشرية والاقتصادية الباهظة في حربهم على الدولة الإسلامية، قبل أن يحسبوا العوائد المتوقعة من هذه الحرب.

وقد أثبتت متابعة الأحداث، أن الدول الأوروبية الصليبية ما زالت تدفع التكاليف الكبيرة حتى بعد شهور من العمليات المباركة لجنود الخلافة في أراضيها، من استنفار للجيوش، وتعزيز للإجراءات الأمنية، وانخفاض في عائدات السياحة والتجارة، وحالة الرعب التي ليس أكبر مظاهرها الدوريات المنتشرة في الساحات، والحواجز الإسمنتية المنصوبة في الطرقات.

إن الهجمات على إسبانيا وأخواتها من الدول الكافرة ستستمر -بإذن الله- ما دامت هذه الدول في حالة حرب ضد الدولة الإسلامية، ولن يتمكنوا من إيقاف هذه الهجمات -بإذن الله- مهما نظّموا من إجراءات، وزادوا من احتياطات، وهم يعلمون ذلك جيدا، وإن تصعيد هذه العمليات بدرجة أكبر هو المأمول من جنود الدولة الإسلامية خلال الفترة القادمة، فلتستعد الحكومات الصليبية لمزيد من خسائر الحرب، ولمزيد من النزيف في الأموال والأنفس، وإن غدا لناظره قريب، والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 ه‍ـ
...المزيد

فرار المنتكسين نَفْيٌ لِلْخَبَث وَتَطْهِيرٌ لِلصَّف الحمد لله رب العالمين، من خلق الإنسان وهداه ...

فرار المنتكسين نَفْيٌ لِلْخَبَث وَتَطْهِيرٌ لِلصَّف

الحمد لله رب العالمين، من خلق الإنسان وهداه النجدين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم بثبات ويقين، أما بعد:

فإن الزيغ من بعد الرشاد، والضلال من بعد الهدى، والكفر من بعد الإيمان، والشرك من بعد التوحيد، والبدعة من بعد السنة، لهو من أكبر الخذلان والخسران، وإن الله -تعالى- لا يهدي إلى الحق إلا طيبا، ولا يلقي في ردغة الباطل إلا خبيثا.

وإن من تلوث بضلال، أو شاب عقيدته دخن، كثيرا ما ينتكس ويرتكس -إلا من يعصم اللهُ- وإن بدا منه صلاح أو فلاح، قد يخدع الناظرين إلى حاله حينا من الزمن، ثم سرعان ما تَجْفِئُ نفسُه زبدَها، فتنجلي عن عصارة من خبث ونفاق.

• البدع أصل الفساد

وتأمل -أرشدك الله- في هذه القصة لتستبين حقيقة المنتكسين، وأنهم عادة ما تكون لهم جذور في البدع والضلال حتى وإن ربا زرعهم وأينع بين أهل الفضل والمكرمات: "عن عبد الواحد بن صبرة قال: بلغ ابن مسعود أن عمرو بن عتبة في أصحاب له بنوا مسجدا بظهر الكوفة، فأمر عبد الله بذلك المسجد فهدم. ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحا معلوما ويهللون ويكبرون، قال: فلبس برنسا، ثم انطلق فجلس إليهم، فلما عرف ما يقولون رفع البرنس عن رأسه ثم قال: أنا أبو عبد الرحمن، ثم قال: لقد فَضَلْتم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما. قال: فقال عمرو بن عتبة: نستغفر الله، ثلاث مرات، ثم قال رجل من بني تميم: والله ما فَضَلْنا أصحاب محمد علما، ولا جئنا ببدعة ظلما، ولكنا قوم نذكر ربنا، فقال: بلى، والذي نفس ابن مسعود بيده، لقد فَضَلْتم أصحاب محمد علما، أو جئتم ببدعة ظلما، والذي نفس ابن مسعود بيده لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقا بعيدا، ولئن حرتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدا" [رواه ابن وضاح في البدع]، ورُوي أن بعض هؤلاء الذين طردهم ابن مسعود -رضي الله عنه- قد قالوا بعد ذلك بقول الخوارج، وناجزوا المسلمين في النهروان، فتأمل كيف كانت بدعهم في العبادات سبيلا إلى انتكاستهم عند النهايات، ولطالما كانت البدعة بريدا للضلال، فكيف بمن أخفى ما أشدّها من الضلالات!

ثم انظر إلى واصل بن عطاء، فقد كان من كبار الفصحاء والبلغاء، وكان يحضر دروس الحسن البصري رحمه الله، وسمّي بالغَزَّال لتردده على سوق الغزل ليتصدق على الفقيرات من النساء، فلما قال بأن الفاسق لا مؤمن ولا كافر، طرده الحسن عن مجلسه، فضلَّ وزاغ وكان أول من حمل لواء المعتزلة.

وكذلك تأمل -يرحمك الله- في حال رَجَّال بن عُنْفُوَة، وقد كان في وفد بني حنيفة الذين قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأسلموا، ولكنه افتتن بعد ذلك بمسيلمة الكذاب وارتد وقُتل على ذلك.

وما هذا إلا غيض من فيض المنتكسين، وقطرات من بحار ظلماتهم، فعلام إذن يحزن المرء إذا غادر الخلافة منتكس، أو يجزع إذا يمم بوجهه نحو ديار الكفر مرتكس؟

• المحن تطرد الخبث

إنها المحن إذ تنفي عن الخلافة الخبث كما ينفي الكير خبث الذهب، وتُطهّر الصف من رجس لوثات المنافقين ودنس شبهاتهم، وإن الموحّدين -والله- ليدعون الله أن يخرج هؤلاء جميعا من بين أظهرهم.

وكما قيل: إن من هاجر من أجل صورة فستعود به صورة، ومن هاجر من أجل قصة فستعود به قصة، ومن هاجر لأجل عقيدة ودين فسترسخ أقدامه في الهجرة، بإذن الله تعالى.

وكذلك اليوم نقول أن من هاجر للدولة بعد النصر والتمكين لأنه يروم الدعة والعيش مع الأقوياء، فسيعود أدراجه حتما عند المحنة والابتلاء، ولن يكون أبدا من أتباع رعيل خير القرون الذين قال الله –تعالى- فيهم: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، أولئك الذين مسّتهم القروح وعركتهم الشدائد، فما تراجعوا القهقرى وما انفضوا عن نبيّهم، بل ومنذ أن صاح فيهم مناديهم تلك الصيحة الأولى: إن كان رسول الله قد قُتل فقوموا وموتوا على ما مات عليه، بقيت تلكم الصيحة حاديهم في هذه الدنيا إلى أن قضوا، وما بدلوا تبديلا، فرضي الله عنهم وأرضاهم جميعا.

ومن هاجر ظانا أنه قد يجد لدخن عقيدته أو ضلاله متنفسا في دولة الإسلام، أو أنه قد يجد لبضاعته الفاسدة سوقا يبيع فيها ما اهترأ من عقائده بين أهل التوحيد الصافي، فسيخيب سعيه قطعا وستتقيّؤه أرض الخلافة الطيبة كما تقيأت الذين سبقوه وحاولوا تلويث منهجها ولا كرامة.
• المنتكسون آفة كل عصر

وأما من يرى في هروب الخبثاء حجة على جماعة المسلمين، وطعنا في منهجها، فليعد إلى كتب التفاسير ولينظر فيمن نزلت هذه الآية: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 86 - 89].

روى الإمام الطبري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل لي من توبة؟ قال: فنزلت هذه الآيات، فأرسل إليه قومه فأسلم" [جامع البيان في تأويل القرآن].

ولقد هاجر عبيد الله بن جحش إلى الحبشة مع زوجه أم المؤمنين حبيبة -رضي الله عنها- غير أنه انتكس على أم الرأس، فارتد على عقبيه وتنصر هناك ومات على ردته، وهو الذي كان يعد في جملة المنتسبين للأصحاب، فهل في هذا مأخذ على دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسالته؟ معاذ الله، ولكن عيون الشانئين بها رمد وقد عز المنصفون.

وما على دولة الإسلام ولا على أمرائها وجنودها من حرج ولا خوف، إن تولى عنها وعنهم كل البشر ما دام رب البشر يقول لخير البشر: {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} [التوبة: 129].

ولله در عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- حين قال: "والله إنْ أبالي إذا وجدتُ ثلاث مائة يصبرون صبري لو أَجْلَبَ عليَّ أهل الأرضِ" [سير أعلام النبلاء].

• ربنا لا تزغ قلوبنا..

ومع هذا النفي للخبث والتطهير للصف، لا يسعنا إلا أن نسأل الله أن يثبتنا وأن لا يجعلنا ممن تزل بهم الأقدام، ونذكر أهل التوحيد، من رعية وجنود، بأن لا يغتروا بما هم عليه اليوم من صلاح وثبات، فإن العبرة بالنهايات لا بالبدايات، ومع كل منتكس يهوي في دركات الباطل، حري بالمؤمن الفطن أن لا يستعظم ذلك، وأن يخشى على نفسه هذه الفتن التي باتت تغشانا، فما أمِنها على نفسه صاحب المقام المحمود، فكان أكثر حلفه -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري عن ابن عمر، قال: "كانت يمين النبي، صلى الله عليه وسلم: (لا ومقلب القلوب)".

وروى الإمام أحمد عن شهر بن حوشب، قال: "قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك). قالت: فقلت له: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك؟ قال: (يا أم سلمة، إنه ليس من آدمي، إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله -عز وجل- ما شاء أقام، وما شاء أزاغ).

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله: "وليعلم من أنعم الله عليه بمعرفة الشرك، الذي يخفى على أكثر الناس اليوم، أنه قد منح أعظم النعم، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ}، إلى قوله: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}، ثم لا يأمن مَن مَنّ الله عليه بذلك من الافتتان" [الدرر السنية].
فليحذر الموحد كل الحذر من أن يزيغ قلبه أو يضل فؤاده، أو أن يأخذه العجب بنفسه، والله -تعالى- يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ} [الأنعام: 110]، نعوذ بالله من الحور بعد الكور.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم على خاتِم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 94
الخميس 24 ذو القعدة 1438 ه‍ـ
...المزيد

تنبيه الأبرار لخطورة الاستئسار (2) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما ...

تنبيه الأبرار لخطورة الاستئسار (2)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فالخلاص من الكفار سبيل الموحدين الأحرار، هذا لأن المجاهد عزيز بدينه، ولا ينبغي له أن يكون في أغلال الكفار يفتنونه ليرُدُّوهُ ويصُدُّوهُ عن دينه، فإن الموحد إذا قدَّر الله عليه الأسر والاعتقال لحِكمة قضاها سبحانه، فلا بد له من السعي للخلاص من الأسر بأي طريقة مشروعة، والخوف كل الخوف هو من الفتنة في الدين.

• اصبر أبا جندل

فإن الصحابي الجليل أبا جندل -رضي الله عنه- عندما جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- مسلما، وجاء أبوه سهيل بن عمرو ليأخذه، وكان حينئذ على الشرك، لم يكن خوفه سوى من الفتنة في الدين، فقال كما في رواية الإمام أحمد: "...صرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معاشر المسلمين، أتردونني إلى أهل الشرك، فيفتنوني في ديني؟... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله -عز وجل- جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدا، وإنا لن نغدر بهم) قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب مع أبي جندل، فجعل يمشي إلى جنبه وهو يقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. قال [راوي الحديث]: ويدني قائم السيف منه [أي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أدنى السيف لأبي جندل، رضي الله عنه]. قال: يقول: رجوت أن يأخذ السيف، فيضرب به أباه).

ففي قصة أبي جندل -رضي الله عنه- ما يسلي كل أسير ابتلي على أمر الله تعالى، وهي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- للمأسورين بالصبر والاحتساب، فإن الموحد له ربٌّ ينجيه من هذا الكرب مع صبره على أمر الدين واحتساب الأجر عند الله سبحانه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله -عز وجل- جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا)، فلم يلبث حتى فرَّج الله كرب أبي جندل وكل مستضعف مأسور، فلحقوا بمِسْعَر الحرب أبي بصير رضي الله عنه.

قال الإمام الطبري: "وينفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلحق بأبي بصير، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم، فكانوا قد ضيقوا على قريش، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يناشدونه بالله وبالرحم لمَّا أَرْسَل إليهم! فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله فقدموا عليه المدينة" [تاريخ الطبري].

وفي قصة أبي جندل أيضا أن الفاروق عمر -رضي الله عنه- كان يحث أبا جندل على قتل أبيه الذي جاء ليأخذه أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الفعل، حيث كان يدني قائم السيف من أبي جندل ليأخذه ويضرب به أباه المشرك لينجو من أسره، لكنه لم يفعل رجاء إسلام أبيه، الذي أسلم فيما بعد وكانت له مواقف في نصرة الدين حين ارتدت العرب.

• الهرب من الأسر واجب على القادر عليه

فالموحدون هم الأعلون بدينهم، والأسر فيه فتنة في الدين وهذا هو هدف الكفار، فالسجن هو أحد أساليب الكفار والمرتدين للنيل من دين المسلم، وإيراده الكفر طوعا أو كرها، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، فدين الموحد هو ما يغيظ الكافر وهو سبب اجتماع أمم الكفر عليه، ولذلك لا ينبغي للموحد البقاء تحت قهر السجان والاستسلام للأسر، بل الهرب حين تتوفر الفرصة متوجِّبٌ إجماعا، ونقل الإجماع على ذلك الإمام ابن النحاس -رحمه الله- قائلا: "الأسير المقهور متى قدر على الهرب من الكفار لزمه ذلك بلا خلاف" [مشارع الأشواق].
ويجب على المأسور أن لا ينتظر، بل يجب عليه المبادرة وأن يتخذ الأسباب الممكنة لذلك ويسعى بكل طريقة ووسيلة للخلاص، سواء بقتل السجانين أو الهروب من دون قتلهم حسب الحال، واستخدام الحيلة وخداع الكفار مشروع في ذلك، ومن فعله فَلَهُ سلف من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمثلة واقعية من فعل إخوانه من جنود دولة الإسلام المقتدين بالسلف، ولقد بوَّب الإمام البخاري (باب: هل للأسير أن يقتل ويخدع الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة؟)، وأشار إلى قصة الصحابي الجليل مسعر الحرب أبي بصير، رضي الله عنه.
• أبو بصير قدوة لكل مؤمن مأسور

وأورد الإمام البخاري القصة كاملة في باب آخر من صحيحه، وفيها: "رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فجاءه أبو بصير -رجل من قريش- وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآه: (لقد رأى هذا ذعرا)، فلما انتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قُتل -واللهِ- صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد -واللهِ- أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مِسْعَر حرب، لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بِعِير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تناشده بالله والرحم، لمَّا أَرْسَل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]".

وفي هذه القصة دروس مفيدة للمجاهدين، منها أن أبا بصير -رضي الله عنه- تحايل على آسِرِه المشرك وأخذ سيفه بالتحايل عليه فقتله، وسعى لقتل الآخر الذي فرَّ مذعورا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على شجاعة أبي بصير بقوله: (ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد)، إشارة إلى شجاعته وحسن فعله وتشجيعا له وإقرارا له على صنعه، وحثاً للمسلمين المستضعفين على اللحاق به وهذا ما تحقق له فيما بعد من اجتماع عصبة من المؤمنين الفارين بدينهم معه.

• على نهج حذيفة البطاوي وإخوانه

وعلى سيرة السلف سار جنود دولة الإسلام مِمَّن وقعوا في أسر الصليبيين، فكم من الأنفاق التي حفروها في سجونهم، وكم من أخ هرب حتى من أشدها تحصينا، أما في سجون المرتدين، فحديث الآساد الأحرار الذين قتلوا سجانيهم في داخل سجن (أبو غريب) وأنجدهم إخوانهم من الخارج يعرفه العدو قبل الصديق، حيث خرجت جموع غفيرة من الموحدين، الذين كان لخروجهم أثر كبير في جهاد الكفار وتقوية بنيان الدولة الإسلامية، ومن قبلها محاولة ثلة من آساد بغداد، على رأسهم الأسد الهصور الشيخ حذيفة البطاوي تقبله الله، حيث أحكموا خطتهم واستطاعوا إدخال السلاح إلى داخل السجن بمساعدة إخوانهم من الخارج، فاستطاعوا قتل كبير محققي ومجرمي "مكافحة الإرهاب" فبلغوا ثأرهم وثأر إخوانهم، وقتلوا من قتلوا واستطاعوا الوصول لبوابة السجن فتدخل الصليبيون بطائراتهم وقُتل الإخوة تقبلهم الله، حيث أغاظوا الكفار وجعلوا الحسرة تقطع أكبادهم وقلوبهم، فنكلوا بهم أيما تنكيل، وأخذوا ثأرهم من المرتدين داخل السجن، فهؤلاء وأمثالهم في مشارق الأرض ومغاربها، هم أحفاد الصحابة أباة الضيم وفرسان النزال، وحاديهم في صنيعهم قول الشيخ أبي مصعب الزرقاوي تقبله الله: "ليس الذلة أن يُقتل المرء أو يُعتقل، ولكن الذلة أن يعيش عاجزا عن تطبيق شرعة ربه في الأرض، والذلة أن ترى اليهود يسرحون ويمرحون بين ظهراني المسلمين وأنت صامت لا تستطيع حراكا، ومكبل لا تستطيع فكاكا، والذلة أن يتمكن الصليبيون وأعوانهم من بسط سيطرتهم وبناء قواعد لهم، ثم الانطلاق منها لقتل المسلمين ومحاربة الله ورسوله، والذلة أن ترى أخواتك وهنَّ يصرُخن من قهر السجان الصليبي وأنت مرتاح البال قرير العين".

وبمثل هؤلاء الغُر الميامين من السلف والخلف فليقتدِ المقتدون، فإما حياة تحت ظل شرع رب العالمين، وإما قِتلة تغيظ الكافرين، والحمد لله رب العالمين.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 94
الخميس 24 ذو القعدة 1438 ه‍ـ
...المزيد

الأمير العسكري لولاية الرقة: معركة الرقة لن تكون نزهة للمرتدين والصليبيين حيث المعارك تستعر في ...

الأمير العسكري لولاية الرقة:
معركة الرقة لن تكون نزهة للمرتدين والصليبيين

حيث المعارك تستعر في نواحي المدينة التي صارت ساحة لمن أراد إحدى الحسنيين، ومقبرة للمرتدين وحلفائهم. فمن شاهد معركة الموصل عَلِم يقينا أن معركة الرقة لن تكون إلا خسارة وندامة للمرتدين وأعوانهم. فلن يتقدم الكفار شبرا في أرض الإسلام حتى تنوح نوائحهم على دماء أريقت فداء لجنود الصليبيين كما أريقت دماء الرافضة في الموصل، ولن يخلُوَ بيت من عويل نوائحهم، بإذن الله عز وجل.

(النبأ) تنقل لكم مجريات الحوار مع الأخ الأمير العسكري لولاية الرقة ليحدثنا عن أهم معالم المعركة هناك.

حَدِّثْنا عن ولاية الرقة وأهميتها الاستراتيجية ووضعها العسكري الحالي ومعنويات المجاهدين فيها.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... أما بعد:

لقد تمتعت الرقة بمكانة خاصة قبل الأهمية الاستراتيجية والعسكرية، إذ أنها من أولى المدن التي فتحها الله -سبحانه وتعالى- للمجاهدين، ونشروا فيها عقيدة التوحيد الصافي وحاربوا فيها الكفر بكل أنواعه، وكانت هي المنطلَق لتمدد الدولة الإسلامية، والمركز لعمليات الخلافة في مختلف الجبهات. أمَّا بالنسبة للأهمية الاستراتيجية، فتتمتع الرقة بموقع جغرافي يتوسط الأراضي التركية والمناطق المهمة في بلاد الشام، ويمكن اعتبارها مركز ثقل المدن الواقعة شمال الفرات.

أما عن معنويات المجاهدين، فهي عالية وإرادة القتال موجودة، بفضل الله، ولهم غايتان لا ثالث لهما، فإما شهادة ولقاء رب العالمين، وإما نصر وفتح وتمكين، إن شاء الله.

• ما الذي يهدِف إليه الصليبيون وعملاؤهم في المنطقة بحملتهم على الرقة؟

إن الهدف الرئيس من الحملة الصليبية هو القضاء على الإسلام وأهله، وردُّ الناس عن دينهم بعدما عاد إليهم التوحيد وقد طُمس حِقبة من الزمان.

وأبرز الأهداف العسكرية للحملة على الرقة هي:
• إبعاد المجاهدين عن مركز حَيَويٍّ لهم من النواحي الاقتصادية والعسكرية وغيرها.
• إخراج مجاهدي الدولة الإسلامية من إحدى أكبر مدنهم، ظناً منهم أن ذلك سيُقلل من انضمام المسلمين إلى الدولة الإسلامية.
• إعطاء الملاحدة فرصة لإقامة دُوَيْلَة لهم على مقربة من الأراضي التركية، ظناً منهم أن ذلك سيمنع دخول المجاهدين إلى أوروبا عبر المنافذ الحدودية.
• وصول الصليبيِّين إلى ضفاف نهر الفرات والسيطرة على أبرز المدن فيه وهي: الرقة والسيطرة على السدود المهمة فيها.
• إيهام الغرب والشرق أن استيلاء الصليبيِّين والملاحدة على الرقة، سيكون ضربة قاصمة للمجاهدين وعاملاً يقضي على الخلافة في الأرض، ولكن خابوا وخسِئوا إن شاء الله، فإنها باقية إلى قيام الساعة بإذن الله.

• كيف استعد جنود الخلافة وقادتهم للدفاع عن الولاية عموما ومدينة الرقة خصوصا؟

يسَّر الله -تعالى- للمجاهدين أسبابا للقتال والتصدي للحملة الصليبية والإثخان بأعداء الله، فلقد شَرَعَ المجاهدون بالولاية في بداية الحملة بامتصاص القوة الصليبية عبر الدفاع تارة، والهجوم المعاكس تارة، وضربِ العدو في العمق تارةً أخرى، ونصب الكمائن في مناطق العدو والمناطق التي يُتوقع دخول الكفار إليها، وكان لتلك العمليات أثر بالغ في الكفار والمرتدين، التي جعلت جحافله تبدو قلقة مضطربة، والخوف يعلو جباههم والرُّعبُ يملأ قلوبهم.

وإن من أنجح طرق الدفاع ضد تقدم المرتدين هي تفخيخ الأماكن المحتمل التقدم إليها، وخاصة الاستراتيجية منها، أو التي يريد العدو تحصيل نصر وهمي فيها، ومن الأساليب أيضاً نشر مفارز القنص بمختلف أنواعها الثقيلة منها أو الخفيفة في الأماكن الاستراتيجية التي تظهر فيها عورة العدو، والأماكن المرتفعة كالأبنية وغيرها.

ومن الأساليب أيضاً السيارات المفخخة التي تُغِيرُ على التجمعات والعتاد الذي لا يمكن الوصول إليه بالأسلحة الأخرى كقاذفات الصواريخ أو غيرها.
واعتمد الإخوة على التمويه مُتَّخذين منه سببا مهما لنجاح المعركة، وقام الإخوة أيضا بتقسيم المدينة إلى قواطع وقطعات صغيرة تكون ذاتية التصرف في حالة الطوارئ، وذاتية التعامل مع الأهداف، وكذلك يكون لها مؤن وذخائر، بحيث لا يحتاج القاطع إلى غيره من القواطع الأخرى، ويكون ذاتيَّ التصرف لتقدير المواقف ولترتيب الصفوف.

ومن الأساليب أيضا وضع ورش لصيانة السلاح وإصلاحه وكذلك تصنيعه بعدما أثبتت الدولة الإسلامية -بفضل الله- مهارة في تطوير السلاح، سواء إن كان سلاحا جويا أو طائرات مسيرة أو مضادات الأبنية والثكنات أو أسلحة القنص والكواتم، وكذلك العبوات... وغيرها من الأسلحة التي منَّ الله بها على عباده المجاهدين ولم نَبُح بها.

الأمير العسكري لولاية الرقة:
معركة الرقة لن تكون نزهة للمرتدين والصليبين
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 94 الافتتاحية: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 94
الافتتاحية:

حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ


يُزَيِّن أهل الباطل باطلهم بالأسماء البرّاقة، والأوصاف اللمّاعة، التي تستفِز فضول السُذَّج الأغرار، وتخدع بعض الأتقياء الأبرار، والتي قد تقترب أحيانا من أحكام ومعانٍ شرعية محمودة، ولكن حقيقتها تخالف حقيقة تلك الأحكام والمعاني، بل وتناقضها أحيانا.

ومن تلك المعاني التي يروّج لها أهل الباطل اليوم، قولهم أن الجهاد يجب أن يكون "جهاد أمة"، ولا يجوز أن ينحصر بحال في فئة من أبنائها، لأنهم أعجز من أن يقوموا بالواجبات الكبيرة لهذا الجهاد لوحدهم، فأعداء الدين كُثُر، وشوكتهم قوية، ولذلك فإن مشاركة "الأمة" كلها في هذا الجهاد ضرورية لترجيح كفة المجاهدين ضد أعدائهم.

وهذا المعنى وإن كان صحيحا في ذاته، فإن أهل الضلال يستخدمونه اليوم سُلَّما يهبطون من خلاله مزيدا من الدركات في رحلة تنازلاتهم التي لا تنتهي عن أحكام الشريعة إرضاء لأهوائهم، وطلبا لرضا المشركين عنهم، وذلك بقولهم أنه يجب التشارك في الجهاد مع مختلف الأحزاب والطوائف التي ينسبونها إلى الإسلام، وإن كان أكثرها طوائف كفر وردّة، وفي سبيل هذا التشارك لا بد من تقديم التنازلات لإرضاء هذه الطوائف، والوصول معها بذلك إلى حلول وسطية، ولو بالدخول معهم في كفرهم وردّتهم.

لقد فهِم مرتدو تنظيم القاعدة في الشام وأشباههم في كل مكان، من مصطلح "جهاد الأمة"، أن المجاهدين يجب أن لا ينعزلوا عن ما يسمونه "الأمة"، لكي لا يتسنى لأعدائهم ضربهم، ويقصدون بمصطلح "الأمة" هنا كل المنتسبين إلى الإسلام حقيقة أو زورا.

ولذلك فقد عزموا منذ بدايات تقرير منهجهم البدعي الضال، أن لا يسبِقوا هؤلاء بشيء، فيكونوا في صفهم دائما مهما كانت درجة تراجعهم، فإذا حصل وسبقوهم في أمر شرعي، أو تحرك ميداني، فلا بد أن يتداركوا أنفسهم ويتراجعوا مع أدنى هزة تصاحب هذا السبق، وذلك للاختفاء في صفوفهم، والاحتماء بهم، ودرء غدرهم وشرورهم، مع ما يتضمّنه ذلك من تضييع لأحكام الدين التي لا يقبلونها، وترك للجهاد وتعطيل له إن قرروا التوقف عنه لأي سبب كان، رغبة بما لدى المشركين، أو رهبة منهم.

وهذا بخلاف منهج أهل الحق، الذين يندفعون في طلبه، والسعي لإقراره في الأرض، ولو خالفهم من خالفهم، أو خذلهم من خذلهم، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في وصفهم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [رواه مسلم]، بل إن هذه الطائفة لا تكتفي بالحق لنفسها وأفرادها، وإنما تسعى جاهدة إلى جرِّ الناس إليه بكل وسيلة مشروعة، فمن جاء للحق طالبا فحيّ هلا، ومن أضرّ نفسه بإصراره على الباطل الذي سيكبُّه في نار جهنم، فلا بأس من إنقاذه من ظلمه لنفسه، وجرّه إلى الحق جرّا حتى يصير في زمرة أصحابه، وينال خيري الدنيا والآخرة، وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحدود، والتعزيرات إلا من هذا الباب.

وهكذا فإن المجاهد في سبيل الله -تعالى- لا يتأخر عن القيام بحكم من أحكام الشريعة حضر وقته، لمجرد تأخر الناس عنه، بل يتقدمهم إليه، ويُحرِّض المؤمنين منهم على اللحوق به، لقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84]، وإن ما يسميه الناس اليوم "الأمة الإسلامية" ويقصدون بذلك كل المنتسبين إلى الإسلام، لا يمكن أن تُدعى كلها إلى الجهاد في سبيل الله، إذ باتت تحمل في طياتها الكثير من طوائف الكفر والردة التي تنتسب جميعها إلى الإسلام و"الأمة الإسلامية" زورا وبهتانا، وليس هؤلاء بالتأكيد من المكلفين بالجهاد، بل ولا من الذين يجوز الاستعانة بهم في الحرب لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلن أستعين بمشرك) [رواه مسلم].

وإن مفهوم "جهاد الأمة" لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل وجود الجماعة المسلمة التي تسمع وتطيع لإمامها المسلم، فإن وُجِدت الحاجة لإخراج المسلمين كلهم إلى الجهاد أو لأي أمر فيه مصلحة لهم كان له ذلك، بما له من أمر ونهي عليهم بالمعروف، كما كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، ومن تبعهم من أئمة الهدى، والحاكمين بما أنزل الله.

وإن الدولة الإسلامية اليوم -بفضل الله- تحشد المسلمين جميعا لقتال المشركين، وتحرضهم على ذلك، وباتت تأطر من تحت سلطانها منهم على ذلك أطرا، وهكذا يكون المنهج النبوي في دفع الناس لأداء الواجب المتعين عليهم، والله الهادي إلى سواء السبيل.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 94
الخميس 24 ذو القعدة 1438 ه‍ـ
...المزيد

تناسي الكفار خلافاتهم في حربهم المجاهدين • لم يعد يخفى على أحد، في كل الساحات التي تمددت إليها ...

تناسي الكفار خلافاتهم في حربهم المجاهدين

• لم يعد يخفى على أحد، في كل الساحات التي تمددت إليها الدولة الإسلامية من شرق آسيا إلى أقاصي إفريقية، أنه مـا إن يسيطر جنودها على أرض مهما صغرت؛ حتى تُعقد ضدهم التحالفات العسكرية "الدولية أو الإقليمية"، وتؤجل بين المتحالفين كل الخلافات وتسخّر كل الإمكانيات للتفرغ لحربهم، إلا أنه مع طول أمد المعارك، تبدأ هـذه التحالفات بالتصدع شيئا فشيئا فالتبعات التي ترهق ميزانياتها ومعنويات جنودها، تحتم على الدول المشاركة الانكفاء على نفسها، وإعادة النظر في مخاطر "استنزاف مواردها" على مدى السنين القادمة، خصوصا أولئك الذين يقاتلون في أرض غير أرضهم، فهم وإن كانوا يدركون أن ما يفعلونه يهدف لدرء المخاطر التي تهدد مستقبلهم، وأنهم إن لم يقاتلوا المجاهدين حيث كانوا سيضطرون لقتالهم على أرضهم، إلا أن الأقدار لا تجري وفق ما يشتهون ويؤملون ويخططون، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

افتتاحية النبأ "فشل في الصميم" 443
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً