فصل: شروط العمل الحسن، وتقبيح الرياء وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ الْقَوِيُّ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ لَهُ ...

فصل: شروط العمل الحسن، وتقبيح الرياء
وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ الْقَوِيُّ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ لَهُ الْحَقَّ؛ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا كَانَتْ جَمِيعُ الْحَسَنَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شَيْئَيْنِ: أَنْ يُرَادَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ؛ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلشَّرِيعَةِ. فَهَذَا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ؛ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَوَّلَ ثَلَاثَةٍ تُسْجَرُ بِهِمْ جَهَنَّمُ: رَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَقْرَأهُ لِيَقُولَ النَّاسُ: هُوَ عَالِمٌ وَقَارِئٌ. وَرَجُلٌ قَاتَلَ وَجَاهَدَ لِيَقُولَ النَّاسُ: هُوَ شُجَاعٌ وَجَرِيءٌ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ وَأَعْطَى لِيَقُولَ النَّاسُ: جَوَادٌ سَخِيٌّ} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ هُمْ بِإِزَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَعَلَّمَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ كَانَ صِدِّيقًا؛ وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَقُتِلَ كَانَ شَهِيدًا وَمَنْ تَصَدَّقَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ كَانَ صَالِحًا؛ وَلِهَذَا يَسْأَلُ الْمُفْرِطُ فِي مَالِهِ الرَّجْعَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أُعْطِيَ مَالًا فَلَمْ يَحُجَّ مِنْهُ وَلَمْ يُزَكِّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الْكَلَامِيَّةُ يَحْتَاجُ الْمُخْبِرُ بِهَا أَنْ يَكُونَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ: حَقًّا صَوَابًا. وَمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ. فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ؛ الْمُتَّبِعُ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ الْعِبَادُ بِهَا إذَا كَانَتْ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: كَانَتْ حَقًّا صَوَابًا مُوَافِقًا لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ. وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مِنْ الْقِسْمَيْنِ كَانَ مِنْ الْبَاطِلِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَالْجَهْلِ وَإِنْ كَانَ يُسَمِّيهِ مَنْ يُسَمِّيهِ عُلُومًا وَمَعْقُولَاتٍ؛ وَعِبَادَاتٍ وَمُجَاهَدَاتٍ؛ وَأَذْوَاقًا وَمَقَامَاتٍ. وَيَحْتَاجُ أَيْضًا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَلِكَ لِأَمْرِ اللَّهِ؛ وَيَنْهَى عَنْهُ لِنَهْيِ اللَّهِ؛ وَيُخْبِرَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَإِيمَانٌ وَهُدًى كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ. كَمَا تَحْتَاجُ الْعِبَادَةُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. فَإِذَا قِيلَ ذَلِكَ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ؛ أَوْ لِإِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْفَضِيلَةِ؛ أَوْ لِطَلَبِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَاتِلِ شَجَاعَةً وَحَمِيَّةً وَرِيَاءً. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَك مَا وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَقَالِ؛ وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالْحَالِ. فَكَثِيرًا مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ خِلَافُ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوِفَاقِهَا. وَكَثِيرًا مَا يَتَعَبَّدُ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَاتِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهَا؛ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهَا أَوْ مَا يَتَضَمَّنُ مَشْرُوعًا مَحْظُورًا. وَكَثِيرًا مَا يُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ قِتَالًا مُخَالِفًا لِلْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ أَوْ مُتَضَمِّنًا لِمَأْمُورِ مَحْظُورٍ. ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: الْمَأْمُورُ؛ وَالْمَحْظُورُ؛ وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ: قَدْ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَقَدْ يَجْتَمِعُ لَهُ هَذَا وَهَذَا. فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْسَامٍ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَفِي الْأَمْوَالِ الْمُنْفَقَةِ عَلَيْهَا مِنْ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ: الْفَيْءُ وَغَيْرُهُ وَالْأَمْوَالُ الْمَوْقُوفَةُ؛ وَالْأَمْوَالُ الْمُوصَى بِهَا وَالْمَنْذُورَةُ؛ وَأَنْوَاعُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَالصِّلَاتِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ لُبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَخَلْطِ عَمَلٍ صَالِحٍ وَآخَرَ سَيْءٍ. وَالسَّيِّئُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا مَغْفُورًا لَهُ. كَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ الَّذِي لَهُ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرًا مُكَفَّرًا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَقَدْ يَكُونُ مَغْفُورًا بِتَوْبَةِ أَوْ بِحَسَنَاتِ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ؛ أَوْ مُكَفَّرًا بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إلَّا أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إرَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . وَالْإِسْلَامُ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَكَبِّرًا. وَالثَّانِي الْإِخْلَاصُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} فَلَا يَكُونُ مُشْرِكًا وَهُوَ: أَنْ يَسْلَمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وَالْإِسْلَامُ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا مُعَدَّى بِحَرْفِ اللَّامِ؛ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؛ وَمِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} وَمَثَلَ قَوْله تَعَالَى {قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَمِثْلَ قَوْلِهِ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وَمَثَلَ قَوْلِهِ: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} . وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا مَقْرُونًا بِالْإِحْسَانِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فَقَدْ أَنْكَرَ أَنَّ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الدِّينِ؛ وَهُوَ إسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ مَعَ الْإِحْسَانِ وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. أَثْبَتَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ وَالْقَضِيَّةُ الْعَامَّةُ رَدًّا لِمَا زَعَمَ مَنْ زَعَمَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مُتَهَوِّدٌ أَوْ مُتَنَصِّرٌ. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ - وَهُمَا إسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ؛ وَالْإِحْسَانُ - هُمَا الْأَصْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ وَهَمَا: كَوْنُ الْعَمَلِ خَالِصًا لِلَّهِ صَوَابًا: مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ إسْلَامَ الْوَجْهِ لِلَّهِ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ لِلَّهِ؛ كَمَا
قَالَ بَعْضُهُمْ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْت مُحْصِيهِ ... رَبَّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وَقَدْ اسْتَعْمَلَ هُنَا أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ: إسْلَامُ الْوَجْهِ؛ وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . وَقَوْلُهُ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وَتَوْجِيهُ الْوَجْهِ كَقَوْلِ الْخَلِيلِ: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وَكَذَلِكَ كَانَ {النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي صَلَاتِهِ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَقُولُ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك} . فَالْوَجْهُ يَتَنَاوَلُ الْمُتَوَجِّهَ وَالْمُتَوَجَّهَ إلَيْهِ وَيَتَنَاوَلُ الْمُتَوَجَّهَ نَفْسَهُ كَمَا يُقَالُ: أَيُّ وَجْهٍ تُرِيدُ؟ أَيْ: أَيُّ وُجْهَةٍ وَنَاحِيَةٍ تَقْصِدُ: وَذَلِكَ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ. فَحَيْثُ تَوَجَّهَ الْإِنْسَانُ تَوَجَّهَ وَجْهُهُ؛ وَوَجْهُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَوَجُّهِهِ؛ وَهَذَا فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ جَمِيعًا. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ. وَالْبَاطِنُ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ هُوَ الْكَمَالُ وَالشِّعَارُ فَإِذَا تَوَجَّهَ قَلْبُهُ إلَى شَيْءٍ تَبِعَهُ وَجْهُهُ الظَّاهِرُ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَصْدُهُ وَمُرَادُهُ وَتَوَجُّهُهُ إلَى اللَّهِ فَهَذَا صَلَاحُ إرَادَتِهِ وَقَصْدُهُ
فَإِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُحْسِنًا فَقَدْ اجْتَمَعَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ صَالِحًا وَلَا يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ: وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ وَكَانَ مُحْسِنًا فِي عَمَلِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلثَّوَابِ سَالِمٌ مِنْ الْعِقَابِ. وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ يَجْمَعُونَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ؛ كَقَوْلِ الْفُضَيْل ابْنِ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ فَقِيلَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ شَاهِينَ واللالكائي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ إلَّا بِنِيَّةِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ. وَرَوَيَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلَهُ وَلَفْظُهُ: " لَا يَصْلُحُ " مَكَانَ يُقْبَلُ. وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ كَافِيًا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إذْ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٍ؛ لَا بُدَّ مِنْ هَذَيْنِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ
مَعَ الْبُغْضِ وَالِاسْتِكْبَارِ لَا يَكُونُ إيمَانًا - بِاتِّفَاقِ الْمُؤْمِنِينَ - حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالتَّصْدِيقِ عَمَلٌ. وَأَصْلُ الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْحُبُّ وَالتَّعْظِيمُ الْمُنَافِي لِلْبُغْضِ وَالِاسْتِكْبَارِ ثُمَّ قَالُوا: وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ إلَّا بِنِيَّةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْهُ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَالُوا: وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ؛ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ وَالنِّيَّةَ الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْنُونًا مَشْرُوعًا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: يَكُونُ بِدْعَةً لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ؛ وَلَا يَصْلُحُ: مِثْلَ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَفْظُ " السُّنَّةِ " فِي كَلَامِ السَّلَفِ يَتَنَاوَلُ السُّنَّةَ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الِاعْتِقَادَاتِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ يَقْصِدُونَ الْكَلَامَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَهَذَا كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَوَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
[ابن تيمية ,مجموع الفتاوى ,28/]
...المزيد

حكم من يؤخر الصلاة الظهر والعصر وصلاة الفجر ابن تيمية رحمه الله وسئل رحمه الله تعالى ورضي ...

حكم من يؤخر الصلاة الظهر والعصر وصلاة الفجر ابن تيمية رحمه الله


وسئل رحمه الله تعالى ورضي عنه عن أقوام يؤخرون صلاة
الظهر والعصر إلى بعد المغرب أو يؤخرون الفجر إلى بعد طلوع الشمس ويقولون إن لهم أشغالا كالزرع والحرث والصيد وشبه ذلك من الصنائع وربما يكون بينهم وبين الماء ما لو ذهبوا إليه تبطلت أشغالهم أو أن عليهم جن




وَسُئِلَ رحمه الله - تعالى - ورضي عنه، عَنْ أَقْوَامٍ يُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ الظهر والعصر إلى بعد المغرب، أو يُؤخرون الفجر إلى بعد طلوع الشمس، ويقولون: إن لهم أشغالاً - كالزرع والحرث والصيد وشبه ذلك من الصنائع - وربما يكون بينهم وبين الماء ما لو ذهبوا إليه تبطلت أشغالهم، أو أن عليهم جنابة حتى يغتسلوا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أن يفعلوا ذَلِكَ أَمْ لَا؟






فَأَجَابَ رحمه الله - تعالى -: الحمد لله رب العالمين، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْل، وَلَا يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ بِشُغْلٍ مِنْ الْأَشْغَالِ لَا لِحَصْدٍ وَلَا حَرْثٍ وَلَا صَنَاعَةٍ ولا غير ذلك، وَلَا لِجَنَابَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ، وَلَا لصَيْدٍ وَلَا لَهْوٍ وَلَا لَعِبٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلِّيَ الْفَجْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا يَتْرُكَ ذَلِكَ لِصَنَاعَةٍ وَلَا لَهْوٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْغَالِ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَمْنَعَ مَمْلُوكَهُ، وَلَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَجِيرَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، ولا للرجل أن يمنع زوجته من الصلاة في وقتها، ومتى أَخَّرَهَا لِصَنَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ (خِدْمَةٍ أو أُسْتَاذٍ) أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ، بَلْ يَجِبَ قَتْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بحسب استطاعته أُلْزِمَ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، لِاشْتِغَالِهِ بِالصِّنَاعَةِ أو الصَّيْدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ




فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ترك صَلَاة الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»، وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ».
«وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِاشْتِغَالِهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ صَلَّاهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ»؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}» وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ»، فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ (بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ حَالَ الْقِتَالِ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعَنْه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ حَالَ الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ التَّأْخِيرِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَشْتَغِلُ بِالْقِتَالِ وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوَقْتِ.
وَأَمَّا تَأْخِيرُ [الصَّلَاةِ لِغَيْرِ] الْجِهَادِ - لصَنَاعَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ • الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: هُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصلاة عَنْ وَقْتِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنْ صَلَّاهَا فِي الْوَقْتِ. فَتَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَالْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ وَتَأْخِيرَ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ بِمَنْزِلَةِ تَأْخِيرِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى شَوَّالٍ؛ فَمَنْ قَالَ: أُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِاللَّيْلِ، فَهُوَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: أُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَصُومُ في شَوَّال.
وَإِنَّمَا يُعْذَرُ بِالتَّأْخِيرِ النَّائِمُ وَالنَّاسِي كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ».
فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لِجَنَابَةٍ وَلَا حَدَثٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا قَدْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَقْدِرُ على أَنْ يُزِيلَهَا يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانًا وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي ثِيَابِهِ، وَهَكَذَا الْمَرِيضُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». فَالْمَرِيضُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ يُصَلِّي قَاعِدًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَائِمًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرْضٌ، وَالْوَقْتُ أَوْكَدُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ فِي وَقْتِهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ.
وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بمزدلفة بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَبَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلسَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ.
وَأَمَّا تَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ فَلَا يَجُوزُ لا لسفرٍ وَلَا لمرضٍ وَلَا لِشَغْلٍ وَلَا صنَاعَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ».
لَكِنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ولَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، بَلْ الرَّكْعَتَانِ تُجْزِئُ للْمُسَافِرَ [فِي سَفَرِ] الْقَصْرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَكِلَاهُمَا ضَلَالٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ يُسْتَتَابُ قَائِلُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَأَفْطَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَضَى؛ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا لو صَامَ فِي السَّفَرِ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ صَلَّى أَرْبَعًا فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ.
فَالْمَرِيضُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّوْمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ [وَالْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصِّيَامَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ] وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا آكَدُ مِنْ الصيام فِي وَقْتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، وقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أنت إذَا كَانَ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُن الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا أو يميتون الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ قُلْت: ما تَأْمُرنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ».
وَعَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنْ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا. فَقَالَ رَجُلٌ: أنصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ إنْ شِئْتم، وَاجْعَلُوهَا تَطَوُّعًا» رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد.
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ بِكُمْ إذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا؟ قُلْت: فَمَا تَأْمُرنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لميقاتها، وَاجْعَلْ صَلَاتَك مَعَهُمْ نَافِلَةً».
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ عُرْيَانًا - مِثْلَ أَنْ تَنْكَسِرَ بِهِمْ السَّفِينَةُ أَوْ تَسْلُبَهُ القطع ثِيَابَهُ - فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانًا، وإن كان يعلم أنه يجد الثياب بعد الوقت.
وَالْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ بَعْدَ الْوَقْتِ.
وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ الْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا فَخَافَ إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يَمْرَضَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاغْتِسَال، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وجد الْمَاءَ فَأَمْسهُ بَشَرَتَك؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ».
وَكُلُّ مَا يُبَاحُ بِالْمَاءِ يُبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ، فَإِذَا تَيَمَّمَ لِصَلَاة قَرَأَ الْقُرْآنَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ إنما أبيح لِأُمَّةِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاث: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ
تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي»، وَفِي لَفْظٍ: «وجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ».
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ [وَهَلْ يَتَيَمَّمُ] لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ (والصحيح أن التيمم كالماء يفعله قبل ويبقى بعد الوقت) ويُصَلِّي مَا شَاءَ كَمَا يُصَلِّي بِالْمَاءِ، وَلَا يَنْقُضُهُ إلَّا مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ والْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وجد الْمَاءَ فَأَمْسهُ بَشَرَتَك؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُهَا بِهِ صَلَّى فِي الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ نجَاسَة - كَمَا صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - وَجُرْحُهُ يَثْعبُ دَمًا - وَلَمْ يُؤَخِّرْ الصَّلَاةَ حَتَّى يخرج الْوَقْتُ.
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا فَقِيلَ: يُصَلِّي عُرْيَانًا، وَقِيلَ: يُصَلِّي فِيهِ وَيُعِيدُ، وَقِيلَ: يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُعِيدُ، وهو أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا طُمَأْنِينَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَطْمَئِنَّ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ». وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ فَصَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ لَمْعَةً من قَدَمِهِ
لَمْ يُمِسَّهَا الْمَاءُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَائتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
وَمَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا فِي الْوَقْتِ وَالْمَاءُ بَعِيدٌ مِنْهُ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا يَضُرُّهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ أَوْ تَسْخِينُ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَإِذَا كَانَا جُنُبَيْنِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الِاغْتِسَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الْوَقْتِ وَلَمْ يُمْكِنْهَا الِاغْتِسَالُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِه تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ فِي الْوَقْتِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ.
وَإِذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ، وإِذَا اغْتَسَلَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُنَا يَقُولُونَ: يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: بَلْ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا هُنَا وَيُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِالْغُسْلِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا».
فَالْوَقْتُ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا فِي حَقِّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشمس فَقَدْ صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا، وَلَمْ يُفَوِّتْهَا عن وقتها في حقه، بِخِلَافِ مَنْ اسْتَيْقَظَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ولَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَذَكَرَهَا فَإِنَّهُ يَغْتَسِلُ حِينَئِذٍ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - كَمَا اسْتَيْقَظَ أَصْحَابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ عَامَ خَيْبَرَ - فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى حِينِ الزَّوَالِ، فَإِذَا قدرنا أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلُ، وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ، وَلَا يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ، وَيُسْتَحَبُّ له أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامَ فِيهِ كَمَا انْتَقَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ، وَقَالَ: «هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ شَيْطَانٌ». وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُسَمَّى قَضَاءً أَوْ أَدَاءً؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْقٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قد سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً، كَمَا قَالَ فِي الْجُمُعَةِ:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}، وَقَالَ في الحج: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ لا يفْعَلَانِ إلا فِي الْوَقْتِ، والْقَضَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ إكْمَالُ الشَّيْءِ وَإِتْمَامُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}. أَيْ أَتَمَّهُنَّ وأَكْمَلَهُنَّ، فَمَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَامِلَةً فَقَدْ قَضَاهَا وَإِنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَنَوَاهَا أَدَاءً ثُمَّ تَبَيَّنَ له أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّتْ صلاته، وَلَوْ اعْتَقَدَ خُرُوجَ الوقت فَنَوَاهَا قَضَاءً، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ سَوَاءً نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً، فَالْجُمُعَةُ تَصِحُّ سَوَاءٌ نَوَاهَا قَضَاءً أو أَدَاءً إذا أَرَادَ الْقَضَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ.
وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا في وَقْت الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ فَقَدْ صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَا بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَا قَدْ صَلَّيَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لِغَيْرِهِمَا، فَمَنْ سَمَّى ذَلِكَ قَضَاءً بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَكَانَ من لُغَتِهِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ في وَقْتِها الْمُقَدَّرِ شَرْعًا لِلْعُمُومِ، فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ.
فَلَيْسَ لِأَحَدِ قَطُّ شُغْلٌ يُسْقِطُ عَنْهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا بِحَيْثُ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ، لَكِنْ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ، فَمَا قَدِرَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهَا فَعَلَهُ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ عَنْهُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْعُذْرِ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ وَبَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، فَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، (ويجوز للمسافر النازل عند الشافعي وأحمد) فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَهُوَ
قَوْلُ مالك.
وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ، بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإِنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَرْبَعٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، فَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَهَلْ تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ أَرْبَعًا، وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، أو كَانَ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ؛ كَمَا «جَمَعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ»، وَ «كَانَ يَجْمَعُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ» أَحْيَانًا، «كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَوَالِ الشمس أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا»، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحين، وَأَمَّا إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ، هَذَا إذَا كَانَ لَا يَنْزِلُ إلا
وَقْت الْمَغْرِبِ، كَمَا كَانَ بِعَرَفَةَ لَا يُفِيضُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَنْزِلُ وَقْتَ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا.
فَلَيْسَ الْقَصْرُ كَالْجَمْعِ، بَلْ الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ، وَمَنْ سَوَّى مِنْ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَبِأَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا وَالْعُلَمَاءُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا سُنَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ، وَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْآخَرِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟
وَأَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد؛ فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْحَرَجِ وَللشُّغْلِ لِحَدِيثٍ رُوِيَ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِه: يَعْنِي: إذَا كَانَ هُنَاكَ شُغْلٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْجَمْعُ لِلْمَرَضِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي صَلَاتَيْ النَّهَارِ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ، وَيَجُوزُ
فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ [وَنَحْوِ ذَلِكَ]، وَيَجُوزُ لِلْمُرْضِعِ أَنْ تَجْمَعَ إذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهَا غَسْلُ الثَّوْبِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد.
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ؟
فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نُصُوصُهُ وَأُصُولُهُ، وَقَالَ الشافعي وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَواضِعِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[ابن تيمية ,المسائل والأجوبة لابن تيمية ,]
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً