إنَّ العبدَ المؤمنَ هوَ الذي عَرَفَ الغايةَ من خلقِهِ في هذهِ الحياةِ الدُّنيا, وذلك من خلالِ ...

إنَّ العبدَ المؤمنَ هوَ الذي عَرَفَ الغايةَ من خلقِهِ في هذهِ الحياةِ الدُّنيا, وذلك من خلالِ قولِهِ تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)
العبدُ المؤمنُ يُمارسُ عبادَتَهُ لله -عزَّ وجلَّ- في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ, في المنشَطِ والمكرَهِ؛ لأنَّهُ عَرَفَ ذلكَ من سيرةِ أصحابِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, وذلك عندما بايعَ الصَّحابةُ الكرامُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم- رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؛ كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ جابِرِ بن عبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُما- قَالَ في بيعة العقبة الكبرى: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ, عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ, وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ, وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ, وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ, وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ إليكم فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ, وَلَكُمْ الْجَنَّةُ قال: فقمنا إليه، فبايعناه..
عباد الله: المؤمنُ الحقُّ الذي لا يبرحُ بابَ مولاهُ وخالِقِهِ في كلِّ أحوالِهِ, ويَظَلُّ مُلتصقاً ببابِهِ مُترامياً على أعتابِهِ؛ لأنَّهُ عبدُهُ, ولأنَّهُ راجعٌ إليه. العبدُ المؤمنُ لا يعبدُ اللهَ -تعالى- على حالةٍ دونَ حالةٍ, ولا يعبدُ اللهَ -تعالى- على شرطٍ, ولا يتوجَّهُ إلى الله -تعالى- في حالةٍ دونَ أخرى,ولايعبد الله في وقت دون وقت ..بل هوَ عبدٌ متمسِّكٌ بِبَابِ مولاهُ العزيزِ إِنْ أعطاهُ أو مَنَعَهُ, إِنْ قَبِلَهُ أو طَرَدَهُ, إِنْ استجابَ دُعاءَهُ أو لم يَستَجِب, إِنْ أَعزَّهُ أو أذلَّهُ, إِنْ آتاهُ النِّعَمَ أو حَرَمَهُ إيَّاها.
أمَّا العَبدُ الذي يُقبِلُ على الله -تعالى- عندما يَرى النِّعَمَ تَتْرَى عليهِ وتَهوي عليهِ من كلِّ جانبٍ, وعندما يَرى الخيرَ موفوراً بينَ يدَيهِ, وإذا ما تحوَّلت هذهِ النِّعَمُ عنهُ, وابتلاهُ اللهُ -تعالى- بشيءٍ من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثَّمراتِ تبرَّمَ وأعرضَ واعترَضَ وتناسى عُبوديَّتَهُ لله -تعالى- فهوَ عبدُ سوءٍ, وهوَ في الحقيقةِ عَبْدُ نَفسِهِ وهواهُ ومصلحتِهِ, وهذا ينطبقُ عليه قولُ الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) -نعوذُ بالله أن نكونَ من ذلكَ الصِّنفِ-.
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: ﴿عَلَى حَرْفٍ﴾ : عَلَى شَكٍّ
قال الواحدي: (قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ أكثَرُ المفَسِّرين قالوا: على شَكٍّ وضَلالةٍ، وأصلُه مِن حَرْفِ الشَّيءِ: وهو طَرَفُه، نحوُ حَرفِ الجَبَلِ والحائطِ، الذي عليه القائِمُ غيرُ مُستَقِرٍّ؛ فالذي يَعبدُ اللهَ على حَرفٍ قَلِقٌ في دينِه، على غيرِ ثَباتٍ وطُمأنينةٍ، كالذي هو على حَرْفِ .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ: أَيْ: دَخَلَ فِي الدِّينِ عَلَى طَرَفٍ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُحِبُّهُ اسْتَقَرَّ، وَإِلَّا انْشَمَرَ وأنقطع وقال صاحب الكشاف: «على حرف» أى: على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم: لا على سكون وطمأنينة، كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن، وإلا فر وطار على وجهه ... » .
أضرب مثالا لأبين لكم يقول أحد الدعاة شاهدت قبل سنوات تسجيلاً مصوراً قصيراً لم أنسَه من بعد. مَدّ رجلٌ من المغامرين الحمقى خشبةً ضيّقةً بين عمارتين عاليتين ومشى عليها منتقلاً من العمارة الأولى إلى الثانية. ولعله تمرن جيداً على خشبة قليلة الارتفاع من قبل، فإنه لم يظهر عليه شيء من الخوف أو التردد حينما بدأ بالمشي بين العمارتين، ولكن يبدو أنه لم يحسب حساب تيار الهواء الذي يزداد قوةً في الأعلى، فلما هبّت عليه الريحُ القوية دفعَته فسقط من عَال وارتطم بالأرض فمات على الفور. يقول لا أزال أتذكر هذا المشهد المريع كلما قرأت قوله تبارك وتعالى: {ومن الناس مَن يعبد الله على حَرْف، فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به، وإن أصابَتْه فتنةٌ انقلب على وجهه}، فيُخيِّل لي خيالي عبادةَ أولئك العابدين على الحرف كمشي ذلك الأحمق على الخشبة الضيقة المعلقة في جوّ السماء، وكما دفعَته فأسقطَته أهونُ ريحٍ فإن أولئك القوم -هداهم الله- يُزلِّهم ويسقطهم أدنى ابتلاء. لقد شَبّه القرآن -في هذه الصورة العجيبة- عبادةَ أولئك القوم بالمشي على الحرف، وهو الطرف القَصِيّ من الطريق، فإنهم يتركون الجادّة العريضة التي يمشي الماشي فيها في أمان ولو مال إلى اليمين قليلاً أو مال إلى اليسار قليلا، ويأخذون الطرف الأقصى الضيق المحاذي للهاوية، فإذا تعرضوا لأي قلقلة (ولو كانت قلقلة هَيّنة يسيرة) سقطوا إلى الموت والضياع.. وقال تعالى: "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
قال صاحب المنار ما ملخصه: والمراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته، ودوامه، وسعادة أهله به، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله وجماعها التقوى، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله وقرب زواله، وخيبة صاحبه، وسرعة انقطاع آماله.
عباد الله.. من الناس من هو ضعيف الإيمان، لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالطه بشاشته يعبد على ضعف وشكٍّ، فيعبد الله على تردده، كالذي يقف على طرف جبل أو حائط لا يتماسك في وقفته، ويربط إيمانه بدنياه، { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ } إن عاش في صحة وسَعَة استمر على عبادته،{ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } إن حصل له ابتلاء بمكروه أو زوال محبوب أوشدة عزا شؤم ذلك إلى دينه، فرجع عنه كمن ينقلب على وجهه بعد استقامة، فهو بذلك خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
وسبب هذه الايه كما جاء عند البخاري عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهما، قالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} ، قالَ: كانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فإنْ ولَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلامًا، ونُتِجَتْ خَيْلُهُ، قالَ: هذا دِينٌ صالِحٌ، وإنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ، ولَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قالَ: هذا دِينُ سُوءٍ.
وعن ابن عباس أيضاً قال «كانَ مِن الأعْرابِ يَأتونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُسْلِمونَ، فإذا رَجَعوا إلى بِلادِهم، فإن وَجَدوا عامَ غَيْثٍ وعامَ خِصْبٍ وعامَ وِلادٍ حَسَنٍ قالوا: إنَّ دينَنا لَصالِحٌ فتَمَسَّكوا به، وإن وَجَدوه عامَ جُدوبةٍ وعامَ وِلادٍ سوءٍ وعامَ قَحْطٍ قالوا: َمَا في دينِنا هذا خَيْرٌ؟ فأَنزَلَ اللهُ على نَبِيِّه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية».
عن ابن عباس : كان أحدهم إذا قدم المدينة ، وهي أرض وبيئة ، فإن صح بها جسمه ، ونتجت فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأن إليه ، وقال : " ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيرا " . وإن أصابته فتنة . بلاء . أي : وإن أصابه وجع المدينة ، وولدت امرأته جارية ، وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرا . وذلك الفتنة .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت ، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه ، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر .
وقال مجاهد في قوله : ( انقلب على وجهه ) أي : ارتد كافرا ، وقوله : ( خسر الدنيا والآخرة ) أي : فلا هو حصل من الدنيا على شيء ، وأما الآخرة فقد كفر بالله تعالى ، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة; ولهذا قال ( ذلك هو الخسران المبين ) أي : هذه هي الخسارة العظيمة ، والصفقة الخاسرة .
وقال الشوكاني: (وقيلَ: الحرفُ: الشَّرطُ، أي: ومِن النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ على شرطٍ، والشَّرطُ هو قولُه: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ أي: خيرٌ دُنيوِيٌّ مِن رخاءٍ وعافيةٍ وخِصْبٍ وكثرةِ مالٍ).
وقال القرطبي : على حرف على شرط ؛ وذلك أن شيبة بن ربيعة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم – قبل أن يظهر أمره : ادع لي ربك أن يرزقني مالا ، وإبلا ، وخيلا ، وولدا حتى أومن بك وأعدل إلى دينك ؛ فدعا له فرزقه الله – عز وجل – ما تمنى ؛ ثم أراد الله - عز وجل – فتنته واختباره وهو أعلم به ، فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه : ومن الناس من يعبد الله على حرف يريد شرط ..
اتصلت إحدى البنات علي احد الشيوخ الكبار وقالت له إنها جلست 4 سنوات تقوم الليل تصلي ، وتدعو وتصوم ، واجتهدت في العبادة لكى يزوجها الله من ولد عمها ...الصدمة :تقول البنت إن ولد عمها خطب بنت عمه الثانيه !!هي انصدمت ، وتركت صلاتها ، صيامها ، وعبادتها لله تبارك وتعالى ، وما صارت مثل قبل وكرهت حالتها ووضعها ...
البنت تقول للشيخ: ما الذى حدث ولماذا تغيرت بعد كل هذه العباده والطاعة..
رد عليها الشيخ رداً مختصراً لكنه عظيم في معناه ، قال لها : افتحي القران على سورة الحج الآية (11) تجدين حل مشكلتك ..الآية تقول : {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}. على حرف يعني 'شرط' ، يعني بالمصطلح العامي عندنا / أعطني واعطيك (واحدة بواحدة)،
فهذا الذى يعبد الله على شرطٍ لم يتمكن الاسلام من قلبه، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُحِبُّهُ من متاع الدنيا استمر واسْتَقَرَّ ،وإن لم يجد ما يلبي شهواته ورغباته ترك دينه وكفر ، فهذا الصنف من الناس لم يتمكن الإيمان من قلبه، بل هو مزعزع العقيدة، تتحكم مصالحه فى إيمانه، فإن أصابه خير فرح به واطمأن، وإن أصابته شدة فى نفسه أو في ماله أو في ولده ارتد إلى الكفر، فخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران الحقيقى الواضح المبين . وهكذا ينظر بعض الناس إلى الدين .ينظر إليه على أنه رغد في العيش وسعة في الرزق يجلب النفع، ويربح التجارة،. فإذا أصابه ما يكره لم يصبر عليه، ونكص على عقبيه وخسر دينه ودنياه .والتعبير القرآني «عَلى حَرْفٍ» يعني غير متمكن من العقيدة، ولا متثبت في العبادة. والله يريدك أيها المؤمن عبداً له في الخير وفي الشر، في السراء وفي الضراء، فكلاهما فتنة واختبار، وما آمنتَ بالله إلا لأنك علمتَ أنه الإله الحق وأنه حكيم عادل قادر، ولا بد أنْ تأخذ ما يجري عليك من أحداث في ضوء هذه الصفات. فإنْ أثقلتْك الحياة وأصابك منها ما تكره فاعلم أن وراء هذا حكمة .فلا بُدَّ أنْ تؤمن بحكمة ربك في كل ما يُجريه عليك، سواء أكان نعيماً أو بُؤْساً، سواء ما يسعدك أو ما يحزنك .
لذلك يقول ابن رجب: " يا هذا اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه " ماذا يريد الله منك؟ اعبده بناءً على ما يريد منك، ولا تعبده بناءً على ما تريده منه، فإذا جئت مضطراً وغرقت في البحر، جئت تعبده لكي ينجيك، وإذا مرضت، صرت تعبده لكي يشفيك، وإذا افتقرت صرت تعبده لكي يغنيك، فمن عبده لمراده منه، فهو ممن يعبد الله على حرف، إن أصابه خيرٌ اطمأن به، لو جاءك المال قلت: هذه العبادة هذا الأثر منها، ولو جاءتك الصحة بعد المرض، قلت: هذا بسبب الدعاء والعبادة.
ولو طلبت الغنى بعد الفقر وما أتاك الغنى، وطلبت الصحة في المرض وما أتتك الصحة، هنا ينقلب الذين لم تثبت في طريق الدين أقدامهم. ولذلك قال: " يا هذا اعبد الله لمراده منك، لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف، إن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة
فإذاً: فمن يفعل العبادة على مراد نفسه وهواه، وليست على مراد الله، هذا ينتكس وينقلب قال: " وفي بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن شيءٌ عنده آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن شيءٌ عنده آثر من هوى نفسه".
قال الحسن: " ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي؛ حتى أنظر على طاعة الله أو على معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت ".
الكلمة أو النظرة أو الخطوة إن كان طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت، وهكذا تكون حقيقة العبودية أن ينزل العبد أعمال الجوارح على الآيات والأحاديث فإن وافقت مراد الله وما يحبه الله تقدم وعمل، وإن خالفت أحجم ورجع.
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم


الخطبة الثانية
أحبتي في الله...الناس معادن كما وضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم " الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام اذا فقهوا " , فيظهر معدن الإنسان المؤمن فيكون ارتباطه بالله تعالى حبا لله ولذاته ولثواب الآخرة العظيم , والثقة به سبحانه وتعالى
ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل الأعلى في جميع أحواله فكان إذا حل به الخير قال الحمد لله , وإن نزل به البلاء قال الحمد لله على كل حال , فهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان يعبد ربه في السراء والضراء فيقدم الحمد في تلك الحالتين .
وعندما يتعرض المؤمنون للاختبارات والامتحانات والابتلاءات والفتن ما يزيدهم ذلك إلا قربا إلى الله وليس بعدا أو انقلابا .
روى الترمذى وأبو داود والنسائى عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : كان رَجُلٌ يُقَالُ له مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ وكان رجلًا يَحْمِلُ الْأَسْرَى من مكةَ حتى يأتيَ بهِمُ المدينةَ قال وكانتِ امرأةٌ بَغِيٌّ بمكةَ يُقالُ لها عَنَاقٌ وكانت صديقةً له وإنه كان وَعَدَ رجلًا من أُسَارَى مكةَ يَحْمِلُهُ قال فجِئْتُ حتى انْتَهَيْتُ إلى ظِلِّ حائِطٍ من حَوَائِطِ مكةَ في ليلةٍ مُقْمِرَةٍ قال فجاءت عَنَاقٌ فأَبْصَرَتْ سَوَادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ فلما انْتَهَتْ إلَيَّ عَرَفَتْنى فقالت مَرْثَدٌ فقلتُ : مَرْثَدٌ قالت : مَرْحَبًا وأَهْلًا ..هَلُمَّ فَبِتْ عِنْدَنا الليلةَ قلتُ : يا عَنَاقُ ! حَرَّمَ اللهُ الزِّنَا ! قالت : يا أَهْلَ الخِيَامِ ! هذا الرجلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ قال : فتَبِعَنِي ثَمَانِيَةٌ وسَلَكْتُ الخَنْدَمَةَ فانْتَهَيْتُ إلى كَهْفٍ أو غارٍ فَدَخَلْتُ فجاءوا حتى قاموا على رَأْسِي فبَالُوا فظَلَّ بَوْلُهُم على رَأْسِي وأَعْماهُمُ اللهُ عَنِّي قال : ثم رَجَعُوا ورَجَعْتُ إلى صاحِبِي فحَمَلْتُهُ إلى المدينة
وهذا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، لَمَّا بُتِرَتْ (قطعت) رِجْلُهُ، وَفَقَدَ وَلَدَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، كَانَ لِي أَطْرَافٌ أَرْبَعَةٌ، فَأَخَذْتَ وَاحِدَاً، فَلَئِنْ كُنْتَ قَد أَخَذْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ، وَإِنْ كُنْتَ قَد ابْتَلَيْتَ فَلَطَالَمَا عَافَيْتَ، فَلَكَ الحَمْدُ على مَا أَخَذْتَ وعلى مَا عَافَيْتَ.
وَقَالَ في وَلَدِهِ: الحَمْدُ للهِ، كَانُوا سَبْعَةً، فَأَخَذْتَ مِنْهُمْ وَاحِدَاً وَأَبْقَيْتَ سِتَّةً، فَلَئِنْ كُنْتَ قَد ابْتَلَيْتَ فَلَطَالَمَا عَافَيْتَ، وَلَئِنْ كُنْتَ قَد أَخَذْتَ فَلَطَالَمَا أَعْطَيْتَ.
والابْتِلاءُ يَرُدُّ العَبْدَ إلى حَقِيقَتِهِ، وَيُظْهِرُ مَعْدِنَهُ، قَالَ تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾
وَرَحِمَ اللهُ تعالى الفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ حِينَ قَالَ: النَّاسُ مَا دَامُوا في عَافِيَةٍ مَسْتُورُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِمُ البَلاءُ صَارُوا إلى حَقَائِقِهِم، فَصَارَ المُؤْمِنُ إلى إِيمَانِهِ، وَصَارَ المُنَافِقُ إلى نِفَاقِهِ.
فينبغي للعبد التأمل فيها هي أن كل مصيبة وابتلاء هي له خير وأجر إن هو صبر واحتسب ، وأن كل ابتلاء ومصيبة هي له سوء وشر إن جزع وتسخط ، فإن وطَّن نفسه على تحمل المصائب ، والرضا عن الله بقضائه ، فلا يضره بعد ذلك إن علم سبب البلاء أو لم يعلمه ، بل الأَوْلى به دائما أن يتَّهِم نفسه بالذنب والتقصير ، ويفتش فيها عن خلل أو زلل ، فكلنا ذوو خطأ ، وأينا لم يفرط في جنب الله تعالى ، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أصاب المسلمين يوم أحد بمقتلة عظيمة ، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وخير البشر بعد الرسل والأنبياء ، بسبب مخالفةِ أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يظن المرء بعد ذلك في نفسه استحقاق رفعة الدرجات في كل ما يصيبه ، وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله – إذا رأى اشتداد الريح وتقلب السماء – يقول : هذا بسبب ذنوبي ، لو خرجت من بينكم ما أصابكم .
فكيف بحالنا نحن المقصرين المذنبين. ثم أولى من ذلك كله وأهم ، أن يحسن العبد الظن بربه دائما ، وعلى كل حال ؛ فالله سبحانه وتعالى هو أولى بالجميل ، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة .
قصة الشيخ عبد الحميد كشك مع المعلم عطية يقول الشيخ في مذكراته : جلست ذات يوم فدخل علىّ” المعلم عطية” قبل المغرب عندما أوشكت الشمس أن تودع الكون ، وجلس بجانبي حزينا وسألته عن حزنه فقال لي : أنت السبب !!
وسألته خيرا . فقال : لقد وصيتنا بأداء صلاة الفجر ولما عدت وجدت القفل قد كسر وقد أخذ اللص كل محتويات الغرفة ، وهذه أول مرة أصاب بمثل هذا !! أبعد ما تبت إلى الله يصيبني هذا الذي أصابني ؟!
وكان هذا الرجل يعمل بائعا للسمك ويقيم في الغرفة وحده ؛ ولابد أن يكون الجواب منطقيا ومقنعا فقلت له
وهل هذا يدعو إلى أن تحزن ؟ إن الإنسان عندما يتقدم للعمل بإحدى الوظائف لا يستلم عمله إلا بعد أن يقدم مسوغات التعيين وأنت اليوم قد تقدمت للعمل في ساحة الرحمن جل جلاله فلابد من مسوغات التعيين وها أنت ذا قد قدمتها بصبرك على البلاء ، فكن قرير العين مطمئن القلب فقد قال صلي الله عليه وسلم :” ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذي حتى الشوكة يشاكها وصبر عليها إلا كفر الله بها من خطاياه ورضي الرجل بقضاء الله بعد ما أنزل الله برد السكينة على قلبه وأصبح من أوتاد المسجد الذين ما أذن لمؤذن للصلاة إلا وهم داخلها لا تفوتهم تكبيرة الإحرام وراء الإمام .
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً