ما هي الحياة الطيبة؟ الحياة الطيِّبة مطلب عظيم وغاية نبيلة؛ بل هي مطلب كل النَّاس وغايتهم ...

ما هي الحياة الطيبة؟


الحياة الطيِّبة مطلب عظيم وغاية نبيلة؛ بل هي مطلب كل النَّاس وغايتهم التي عنها يبحثون، وخلفها يركضون، وفي سبيلها يضحُّون ويبذُلون؛ فما من إنسان في هذه الحياة إلَّا وتراه يسعى ويكدح ويضني نفسه ويجهدها؛ كل ذلك بحثًا عن الحياة الطيِّبة، وطمعًا في الحصول عليها.

والناس جميعًا على ذلك متَّفقون، ولكنَّهم يختلفون في سُبل هذه الحياة الطيِّبة وفي نوعها ومسالكها، وتبعًا لذلك فإنهم يختلفون في الوسائل والسبل التي توصلهم إلى هذه الحياة إن وصلوا إليها.

مختلفون على كافَّة مستوياتهم؛ كانوا أممًا أو شعوبًا، أو مجتمعات صغيرة أو كبيرة، بل حتى الأسرة الواحدة تجد فيها ألوانًا شتَّى في فهم معنى الحياة الطيبة.

وللناس في كل زمان أفهام حول هذه الحياة الطيبة، وهم تبعًا لذلك أصناف؛ فمنهم من يرى الحياة الطيِّبة في كثرة المال وسعة الرزق، ومنهم من يراها في الولد أو في المنصب أو في الجاه.

لكن الله تعالى - ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87] - قد حدَّد لنا مفهوم الحياة الطيِّبة وسبيلها في كتابه الكريم، فقال: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

ولذلك السعادة الحقيقة والحياة الطيِّبة تكون بالقرب من الله، القرب ممَّن؟
من ملك الملوك، وجبَّار السموات والأرض، الأمر أمرُه، والخلق خلقه، والتدبير تدبيره.
ولذلك تجد الإنسان المعرِض دائمًا في قلق وفي تعَب.
تجد الشخص يتمتَّع بكل الشهوات، ولكن واللهِ تجد ألذَّ الناس بالشهوات أكثرهم آلامًا نفسية، وأكثرهم قلقًا نفسيًّا، وأكثرهم ضجرًا بالحياة.

واذهب وابحث عن أغنى الناس، تجده أتعس الناس في الحياة؛ لماذا؟
لأنَّ اللهَ جعل راحةَ الأرواح بالقرب منه، وجعل لذَّة الحياة بالقرب منه، وجعل أُنس الحياة في الأنس به سبحانه.
• والصلاة الواحدة يفعلها الإنسان من فرائض الله بمجرَّد ما ينتهي من ركوعه وسجوده وعبوديَّته إلى ربه، بمجرَّد ما يخرج من مسجده، يحسُّ براحة نفسيَّة، والله لو بذَل لها أموالَ الدنيا ما استطاع إليها سبيلًا.
• الحياة الطيِّبة في القرب من الله، الحياة الهنيئة في القرب من الله.

إذا لم تَطِبِ الحياة بالقرب من الله، فبمن تطيب؟
• الحياة الطيبة.. تحرير للنَّفس من قيود المادَّة وأغلال الشهوات، ثم تسبيحها في ملكوت الأرض والسموات.
• الحياة الطيبة.. سموُّ الإنسان عن حاجات جسده الفاني دون أن يهملها، والاستجابة لحاجات نفسه الخالدة دون أن ينسى حقوقَ الآخرين.
• الحياة الطيبة.. لا تتراجع بتراجع صحَّة الجسد، ولكنها تتزايد بتزايد إقبال النفس على ربها.
• الحياة الطيبة.. لا تنتهي بموت؛ بل تبلغ أوجها به.
• الحياة الطيبة.. لا تضمنها أعراض زائلة كالمال والسلطان، ولكن يَضمنها ربٌّ كريم، ومن بيده مقاليد السموات والأرض والناس أجمعين.

• وفوق ذلك فالحياة الطيبة.. راحة بال وعافية بدن، وتوافر حاجة وسمو مكانة، وطيب زوجة وصلاح ذرِّية؛ ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97] بالقناعة؛ وذلك أنَّ من قنَّعه الله بما قسم له من رِزق، لم يَكثر للدنيا تعبه، ولم يعظُم فيها نَصَبه، ولم يتكدَّر فيها عيشه باتباعه ما فاته منها، وحرصه على ما لعلَّه لا يدركه فيها.

• مَن عمل بطاعة الله عزَّ وجل وهو مصدِّق بثواب الله عز وجل وعقابِه جلَّت عظمته، ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].

• الحياة الطيبة.. الرِّزق الحلال في الدنيا، والقناعة في الدنيا، وأن يحيا مؤمنًا عاملًا بطاعة الله، إنها السعادة، وهي الجنة، ولا تطيب لأحد حياة دون الجنَّة.

وهي رزق يوم بيوم، وقيل: إنَّها حلاوة العبادة وأكل الحلال، ويقال: إنَّها عيش الإنسان في بلده مع الكفاية والعافية، وقيل: مطلق الكفاية والعافية.

• إنها القناعة، والقناعة كنز لا يفنى؛ ((ارضَ بما قسَم الله لك، تكن أغنى الناس)).
• إنها الرِّزق الحلال؛ يأكل حلالًا ويلبس حلالًا.
• إنها الرزق الطيِّب، والعمل الصالح، إنها حلاوة الطاعة، إنَّها العافية والكفاية.
• إنها الرِّضا بالقضاء، إنها الحياة الطيبة؛ وذلك بطمأنينة قلبه وسكون نفسه.

• الحياة الطيبة فيها الاتصال بالله، والثِّقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحَّة والهدوء، والرِّضا والبركة، وسكَن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصَّالح، وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة، وليس المال إلَّا عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل، حين يتَّصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله.

﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].. المراد بالحياة هي الحياة الدُّنيا، وطيب هذه الحياة يجيء من نفحات الإيمان بالله، تلك النَّفحات التي تثلج الصدر بالطمأنينة والرِّضا، وتدفئ النفس بالرجاء والأمل، بتلك القوة التي لا حدود لها، والتي منها مصادر الأمور، و

إليها مَصايرها؛ وذلك كله من عاجِل الثواب الجزيل الذي أعدَّه الله لعباده المؤمنين؛ كما يقول تبارك وتعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [النساء: 134].

والطيب: ما يطيب ويحسن، وضد الطيب: الخبيث والسيئ، وهذا وعدٌ بخيرات الدنيا، وأعظمها الرِّضا بما قسم لهم، وحسن أملهم بالعاقبة والصحَّة والعافية وعزَّة الإسلام في نفوسهم، وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النُّفوس، ويعطي الله فيه عباده المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم، ومَن راقب نفسَه، رأى شواهدَ هذا.
وقد عقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

اللهَ اللهَ في الخلوات؛ أكثِروا مِن قراءة القرآن، أكثِروا من الأذكار؛ أذكار الصباح وأذكار المساء، الأذكار المطلقة، أكثِر من الذِّكر يا عبدَ الله، أكثِر من قيام الليل، أكثر من صِيام النهار.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].

والله الموفق.
...المزيد

الحكمة من الفتن حتى يصير الناس الى فسطاطين روى أبو داود بسند صحيح عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي ...

الحكمة من الفتن
حتى يصير الناس الى فسطاطين
روى أبو داود بسند صحيح عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما ، قال: كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، فَذَكَرَ الْفِتَنَ فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ: " هِيَ هَرَبٌ وَحَربٌ... ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ، لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً، فَإِذَا قِيلَ: انْقَضَتْ، تَمَادَتْ...حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ، فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ، مِنْ يَوْمِهِ، أَوْ مِنْ غَدِهِ "
يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمة الله من هذه الفتن وهي حتى يصير الناس الى فسطاطين أي مدينتين أو جماعتين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، ليس فيه إلا أعمال الإيمان وأقوال الإيمان وعقائد الإيمان، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه ليس فيه إلا أعمال النفاق وعقائد النفاق وأقوال النفاق.
يجري الله على الأمة آلاما من المحن حتى يميز الخبيث من الطيب (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)
الأحداث التي نعيشها اليوم والتي عشناها بالأمس والتي سنعيشها غدا كلها تجري في هذا السياق، الناس في طريقهم الى التمايز إيمان لا نفاق فيه، ونفاق لا إيمان فيه.
هذه الأمة حذرت منذ الزمن الأول من عدوها التي يعيش بداخلها في أوساطها.
سور القرآن فضحت أخلاق المنافقين خلقا خلقا، إقرأ سورة التوبة ومنهم ومنهم ، ولكي تتضح الصورة جلية يقدر الله للمنافقين جولات في الزمن تقوى فيها شوكتهم وتعلوا رايتهم، فينالون من المؤمنين ويكشرون عن أنيابهم ويكونون أشد فتكا بالمؤمنين من الكافرين الخلص، ولهذا جعل الله مصيرهم في الدرك الأسفل من النار، إنهم الاعداء الحقيقيون كما قال الله (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)

ليس الإيمان أن يتلفظ الإنسان بالشهادتين وهو يفعل كل ما ينقض هاتين الشهادتين، ليس الإيمان أن يتلفظ بالشهادتين ويتبجح بحب القرآن وهو يناصر ضد هذا القرآن وشريعة الله.
هما طريقان لا ثالث لهما إما الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وإما الولاء لأعداء الله الذين يحاربون شريعة الله، هنا تتضح المواقف، ويعرف أهل الإيمان من أهل النفاق.
يحكى في كتب الأدب أن عصفورتين وقفتا على شجرة تنظران الى الصياد وقد وقعت في شباكه مجموعة من العصافير فقالت واحدة لأختها: انظري الى رحمت هذا الصياد ما أشد رحمته بأخوتنا العصافير، إنه يذبح العصافير ودموعه تسيل فقالت الأخرى انظري الى فعل يديه ولا تنظري لدموع خديه، إن دموعه تسيل من شدة البرد ويريد أن يتدفى بلحم هذه العصافير.
فلا ينبغي للمؤمنين أن تكون قد سيطرت عليهم الغفلة فينخدعوا بالأقوال دون الأفعال.
...المزيد

( علاقة العبادة بالأخلاق) إنَّ العبادات التي شُرعت في الإسلام هي عبارة عن تمارين متكرِّرة لتعويد ...

( علاقة العبادة بالأخلاق)
إنَّ العبادات التي شُرعت في الإسلام هي عبارة عن تمارين متكرِّرة لتعويد المرء أن يَحيا بأخلاق عظيمة؛ فمثلًا الصلاة نتعلم منها الأخلاق العظيمة؛ فالله يقول: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، وكذلك الصوم هو عبادة مفروضة، ولم يُفرَض علينا من أجل الامتناع عن الأكل والشراب والجِماع فقط، إنما هو عبادة مفروضة يهذِّب الرُّوح، ويكبَح جماح الشهوات، وهو مدرسة عظيمة نتربى فيها على الأخلاق الفاضلة؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرفث ولا يفسق، فإنْ سابَّه أحد أو شاتَمَه، فليقلْ: إني صائمٌ))، وهكذا في سائر العبادات مِن حجٍّ وزكاة وغيرها، يتعلَّم منها المسلم الأخلاق العظيمة.



وحسْن الخلُق هو وسام عظيم نكتشف عظمته من خلال تفرُّد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف دون غيره؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فلا بدَّ أن نقتديَ برسول الله في هذا الخلُق العظيم، فحسْن الخلُق مُنطلق لكل عمل خير، فتنال بهذا الخلُق الدرجات العلى في الجنة، وتنال منزلة الصائم الذي لا يُفطِر، والقائم الذي لا يَفتُر، وكذلك مُجاوَرة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.



فالله سبحانه وتعالى أمر نبيَّه وأمَّته مِن بعده بحسن الخلق؛ فقال سبحانه: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الإسراء: 53]، ويقول سبحانه واصفًا عباد الرحمن بحسن الخلُق، فقال: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]، ويقول سبحانه حاكيًا عن لقمان وهو يَعظ ابنَه بالأخلاق الحسنة: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، ويقول سبحانه: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].



فلقد أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحِلم عند الجهل، والعفْو عند الإساءة، فلا يَستوي الإحسان إلى الخَلق ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها، فإذا أساء إليك مسيء من الخَلق، خصوصًا مَن له حقٌّ كبير عليك؛ كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابِلْه بالإحسان إليه، فإنْ قطَعك فصِلْهُ، وإن ظلمك فاعفُ عنه، وإن هجَرَك فطيِّب له الكلام، وابذُلْ له السلام، وكذلك لا يستوي الإيمان بالله وطاعته والشرك بالله ومعصيته، ولا تستوي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دين الحق ودعوة الكفار إلى الضلال البعيد، ولا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها ويُثيب عليها ولا السيئة التي يكرهها الله ويعاقِب عليها، فالحسنة لا يستوي أثرها، كما لا تستوي قيمتها مع السيئة.



الصبرُ والتسامُح والاستعلاء على رغبة النفس في مُقابلة الشر بالشر - يَردُّ النفوس الجامِحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومِن الجماح إلى اللين.



مَن أساء إليك، فادفعه عنك بالإحسان، فادفع بالحلم جهل الجاهل، وبالعفو إساءة المسيء، وإذا اعترضتك سيئة، فادفعها بالحسنة، كذلك كما لو أساء إليك رجلٌ إساءةً، فالحسنة أن تعفو عنه؛ مثل أن يذمك فتَمدَحه، فإذا فعل المسلم ذلك عصَمَه الله من الشيطان، وخضع له عدوُّه كأنه وليٌّ قريب إليه مِن الشفقة عليه والإحسان إليه، ويصير المسيء الذي بينك وبينه عداوة كأنه من ملاطفته وبره صديقٌ قريب، وكذلك إذا قابل المسلم إساءةَ عدوِّه بالإحسان، انقلب من العداوة إلى المحبة، ومن البغضة إلى المودَّة، ثم بعد ذلك يَصير العدو كالصديق، والبعيد عنه كالقريب.



إذًا فتلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يَعطف ويسامح وهو قادر على الإساءة والردِّ، وهذه القدرة ضرورية لتُؤتي السماحةُ أثَرَها.



وهذه الدرجة درجة دفع السيئة بالحسنة، والسماحة التي تَستعلي على دفعات الغيظ والغضب، والتوازن الذي يَعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحُسنى - درجة عظيمة لا يُلقَّاها كل إنسان، فهي في حاجة إلى الصبر، وهي كذلك حظٌّ موهوبٌ يتفضَّل به الله على عباده الذين يُحاولون فيستحقون ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35]، وهذه الآيات التي سبقت قيل: نزلت في أبي جهل؛ كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأُمر النبيُّ بالعفو عنه، فإذا كان ذلك الرجل مشركًا، ومع هذا عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فالأَولى والأَحرى أن نَعفو عن بعضِنا البعض؛ فالله سبحانه وتعالى يقولُ وهو يتحدَّث عن أهل الجنة المتقين: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134

].



وما يوفَّق لهذه الأخلاق وهذه الخصال الحميدة إلا الذين صبروا نفوسهم على ما تكرَه، وأجبروها على ما يُحبُّ الله؛ فإنَّ النفوس مجبولة على مُقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟! فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثَلَ أمْرَ ربه، وعرَف جزيل الثواب، وعلِم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا يُفيد شيئًا، ولا يَزيد العداوة إلا شدةً، وأن إحسانه إليه ليس بواضعٍ قدرَه، بل مَن تواضَعَ لله رفَعَه؛ هان عليه الأمر مُتلذذًا مستحليًا له؛ لكونه من خصال خواص الخلق التي يَنال بها العبد الرِّفعة في الدنيا والآخرة، التي هي مِن أكبر خصال مكارم الأخلاق، ولا عجب أن رأينا أحد محقِّقي علماء الإسلام مثل ابن القيم يقول: "الدين هو الخلُق، فمَن زاد عليك في الخلُقِ، زاد عليك في الدين"؛ مدارج السالكين.



إن أخطر شيء على أخلاق الناس هو هذه الدنيا بمَتاعها ومُغرياتها، بزخارفها وشهواتها مِن النساء والبنين...، إنَّ الغلوَّ في حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، والتنافس عليها أساس كل بلية!



من أجل متاع الدنيا يَبيع الأخ أخاه، ويَقتُل الابن أباه، ومِن أجلها يخون الناسُ الأمانات ويَنكثون العهود، ومن أجلها يَجحد الناس الحقوق ويَنسَوْن الواجبات... إلخ!

وإنَّما الأُممُ الأخلاق ما بقيَتْ ♦♦♦ فإنْ هُمُ ذهبَتْ أخلاقُهم ذهَبُوا



والله الموفِّق.
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً