إلى ملحمة دابق الكبرى (١/٣) لما ابتُلي المؤمنون بمرضى القلوب والمرجفين في المدينة، وزاغت ...

إلى ملحمة دابق الكبرى

(١/٣)
لما ابتُلي المؤمنون بمرضى القلوب والمرجفين في المدينة، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر يوم الأحزاب، وظُنّت بالله الظنون المختلفة، كما أخرج الطبري وابن أبي حاتم عن الحسن البصري -رحمه الله- في تأويل قوله سبحانه: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، قال: «ظنون مختلفة: ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حق أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون»، ثم قال {الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، كما أخرج الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة -رحمه الله- في تأويلها، قال: «قال ذلك أُناس من المنافقين: قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم وقد حُصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا»...
حينها -في شدّة البأس والضر- علم المؤمنون أن نصر الله قريب، كما أخرج الطبري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، قال: «ذلك أن الله قال لهم في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، فلمّا مسّهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأوّل المؤمنون ذلك، ولم يزدهم ذلك إلا إيمانا وتسليما».

فالمؤمنون يتذكرون آيات الله -جل وعلا- وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خنادقهم، ويتأوّلون ما فيها من الأخبار والعلامات على بلاياهم، لا تُبعدهم الزلازل والشدائد عن تدبّر آيات الله والحكمة، بل تزيدهم في جهادهم واجتهادهم صبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، وتصديقا بتحقيق ما وعدهم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بينما يرتاب المنافقون ومرضى القلوب فيستهزئون بوعد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويطعنون فيه، ويغتر الكفرة والطواغيت بجبروتهم وكبريائهم، ظانين {بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، أن العزيز الحكيم -سبحانه وتعالى- سيخذل دينه وأولياءه، بل ويظهر أعداءه وكلمتهم، حتى يكون الدين كله لغيره أبدا، تعالى الله عن ظن الجاهلين علوا كبيرا، وإنما يستدرجهم الله من حيث لا يعلمون، فيجتهدون في تحقيق مكر الله بهم، والعاقبة الآجلة {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
ومن ذلك أن عُبّاد الصليب وأولياءهم (الأتراك والصحوات) حشدوا في ريف حلب الشمالي معلنين دابق هدفهم الأكبر، زاعمين أن تدنيسها بأقدامهم النجسة وراياتهم الرجسة سيكون انتصارا معنويا عظيما على الدولة الإسلامية، ظانين أن جنودها لا يميّزون بين «معركة دابق الصغرى» وملحمة دابق الكبرى، وعليه، إذا انحازت عن دابق - ثبت الله جنود الخلافة فيها- لم تكن حاملة راية العقاب المنتصرة في الملاحم، ليتركها جندها بعد الانحياز زمرا زمرا.

ولم يعلم عُبّاد الصليب وأولياؤهم المرتدون -وأنّى لهم ذلك- أن ملحمة دابق الكبرى تسبقها أحداث عظام من علامات الساعة الصغرى يعلمها المؤمنون المرابطون في خنادقهم، وهي ما أخبر بها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا [وفي رواية: سَبَوا منا] نقاتلهم؛ فيقول المسلمون: لا، والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا؛ فيقاتلونهم، فينهزم ثلث، لا يتوب الله عليهم أبدا، ويُقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبدا، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم! فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- فأمّهم، فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) [رواه مسلم].


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

رسالة في النفاق للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب مختصرة من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما ...

رسالة في النفاق
للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب
مختصرة من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله

اعلم -رحمك الله- أن الله تعالى منذ بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- وأعزّه بالهجرة والنصر، صار الناس ثلاثة أقسام: قسم مؤمنون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسم كفار: وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسم منافقون: وهم الذين آمنوا به ظاهرا لا باطنا، ولهذا افتتح الله سورة البقرة بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة في صفة المنافقين.
وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشُعب كما دل عليه الكتاب والسنة، وكما فسّره علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في الحديث المأثور عنه، فمن النفاق ما هو نفاق أكبر ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أُبيّ وغيره، مثل أن يُظهِر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المَسَرَّة بانخفاض دينه، أو المَسَاءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر موجود في زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وما زال بعده أكثر من عهده لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها والنفاق موجود، فوجوده فيما دون ذلك أولى به، وهذا ضرب النفاق الأكبر، والعياذ بالله.

وأما النفاق الأصغر، فهو نفاق الأعمال ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدَّث، ويُخلف إذا وعد، أو يخون إذا ائتُمِن، للحديث المشهور عنه، صلى الله عليه وسلم، قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِنَ خان، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) [رواه مسلم].

ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين لقوله، صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يَغْزُ، ولم يحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق) [رواه مسلم].

وقد أنزل الله سورة براءة التي تُسَمَّى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين كما قاله ابن عباس -رضي الله عنه- قال: «هي الفاضحة، ما زالت تنزل {وَمِنْهُم} {وَمِنْهُم} حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذُكِرَ فيها»، وعن المقداد بن الأسود قال: «هي سورة البَحُوث، لأنها بحثَتْ عن سرائر المنافقين»، وقال قتادة: «هي المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين».

وهذه السورة نزلت في آخر مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم غزوة تبوك، وقد أعز الله الإسلام وأظهره، فكشف فيها عن أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن والبخل، فأما الجبن، فهو ترك الجهاد، وأما البخل، فهو عن النفقة في سبيل الله.

وقال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]، وقال: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16].

فأما وصفهم فيها بالجبن والفزع، فقد قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} يلجؤون إليه مثل المعاقل والحصون، {أَوْ مَغَارَاتٍ} يغورون فيها كما يغور الماء، {أَوْ مُدَّخَلاً} وهو الذي يُتكلف الدخول إليه ولو بكُلْفَة ومشقة، {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} عن الجهاد، {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 56-57]، أي: يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، كالفرس الجَمُوح الذي إذا حمل لم يرده اللجام.

وقد قال تعالى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد، وقال تعالى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 44-45]، فهذا إخبار من الله أن المؤمن لا يستأذن في ترك الجهاد، وإنما يستأذن الذين لا يؤمنون بالله، فكيف بالتارك من غير استئذان؟
وقال في وصفهم بالشح: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]، فإذا كان هذا ذَمُّ الله -تبارك وتعالى- لمن أنفق وهو كاره، فكيف بمن ترك النفقة رأسا؟

وقد أخبر أن المنافقين لما قربوا من المدينة، تارة يقولون للمؤمنين: «هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فأنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم!» وتارة يقولون: «أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، وإلا لو كنا قد سافرنا، ما أصابنا هذا!» وتارة يقولون: «أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم!» وتارة يقولون: «أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا أنفسكم وتهلكوا الناس معكم!»
وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي، فأخبر الله عنهم بقوله، عز وجل: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 20]، فوصفهم -تبارك وتعالى- بثلاثة أوصاف؛ الأول: أنهم -لخوفهم- يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذا حال الجبان الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن. الوصف الثاني: أن الأحزاب إذا جاؤوا تَمَنَّوْا أن لا يكونوا بينكم، بل في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: «أيش خبر المدينة؟ وأيش خبر الناس؟» الوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا، وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا، وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة الصحيفة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

أكفّاركم خير من أولئكم (1/2) وكذلك بيّن الله أن العقاب مرتبط بالمعصية، فمن فعلها كان مستحقا ...

أكفّاركم خير من أولئكم

(1/2)
وكذلك بيّن الله أن العقاب مرتبط بالمعصية، فمن فعلها كان مستحقا للعذاب والعقاب من الله، لذلك أنزل لقريش يحذرهم وبال شركهم ومعصيتهم، بعدما قصّ عليهم نبأ من ناله العذاب قبلهم من أقوام نوح وصالح ولوط جزاء لما فعلوه من المعاصي: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [سورة القمر: 43]، قال القرطبي: «أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدّم من الأمم الذين أُهلكوا بكفرهم» [الجامع لأحكام القرآن]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن اللّه أخبر أن سنّته لن تُبَدّل ولن تتحول، وسنّته عادته التي يسوِّي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة» [مجموع الفتاوى].

ومن المصائب التي ابتلي بها المسلمون في هذا الزمان وفي كل زمان، ما يرونه من تسلط بعض السفهاء على دين الإسلام، واتخاذه هزوا ولعبا، يقبلون منه ما اشتهوا، ويردّون منه ما كرهوا، بل والمصيبة الأكبر أنهم يجيزون لأنفسهم من المعاصي والضلال ما يحرّمونه على غيرهم، ويكفّرون أعداءهم ببعضها، فإن فعلوها هم أو من يحبّونهم صارت أعمالا صالحة يُتقرّب بها إلى الله.

وقد كان هذا دأب أهل الضلال في كل حين، فنجد أن المشركين كانوا يفعلون الفواحش من البدع ثم ينسبونها إلى الله، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف: 28]، ونجد الضالين من بني إسرائيل يأمرون الناس بالطاعات ولا يفعلونها، كما في قوله تعالى: (أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [سورة البقرة: 44]، ونجد من زنادقة الصوفية من كان يكذب على الناس فيزعم أنه غير مكلف بالعبادات لأنه أقرب إلى الله من باقي العباد، واليوم صرنا نرى من الفصائل والأحزاب التي تنسب نفسها للإسلام العجب العجاب في هذا الباب.

فتجدهم يقاتلون بعض الطواغيت، ويكفّرونهم على أفعالهم، ثم تجدهم يفعلون نفس أفعال الطواغيت، دون أن ينكر بعضهم على بعض، بل تجدهم يبرّرون لأنفسهم ولأحبابهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه ليجعلوا أفعالهم الكفرية موافقة للشريعة، بل ويجعلونها من الأعمال الصالحات، إن لم تصبح من الواجبات في بعض الأحيان، التي يؤثّمون تاركها.

وهذا التناقض الحاصل لدى القوم مردّه إلى أنهم لا يطبّقون الحكم الواحد على الحالتين بمنهج واحد، فالقانون الوضعي الذي تحكم به المحاكم في مناطق الضفة الغربية من فلسطين تحت حكم الطاغوت محمود عباس هو القانون الوضعي ذاته الذي تحكم به المحاكم في قطاع غزة تحت حكم طواغيت الإخوان من أمثال إسماعيل هنية وحزبه.

فعلى أي أساس إذن تكون الحكومة في الضفة الغربية طاغوتية مرتدة، وتكون الحكومة في قطاع غزة حكومة «شرعية»؟!

والحال مشابه في مصر، فالطاغوت حسني مبارك كان كافر مرتدا في نظر الأحزاب والفصائل، لأنه يحكم بغير ما أنزل الله، فلما نزع الله منه الملك، وصار الطاغوت محمد مرسي حاكما لمصر، حكم بالقانون الوضعي ذاته الذي كان يحكم به مبارك، ولكن الأحزاب والفصائل أعطت لمرسي وحكومته وصف «الشرعية»، بالرغم أن هذا الفعل المكفر الذي هو الحكم بالقانون الوضعي قد وقع من الطاغوتين كليهما.

فعلى أي أساس يكون الطاغوت (حسني) مرتدا يجب على المسلمين الخروج عليه وجهاده وخلعه، ويكون الطاغوت (مرسي) «مسلما» يجب على المسلمين تأييده ومناصرته، والدعاء له، والعمل على تثبيت حكمه، أو إعادته إليه بعد نزعه منه؟!
وإذا تابعنا نظرة كثير من تلك الفصائل والأحزاب إلى الديموقراطية نجد أنهم في الغالب يصرّحون بأن المجالس التشريعية أو البرلمانات هي مجالس كفرية لأنها تشرّع القوانين الوضعيّة التي يحكم بها الطواغيت، من حكام بغير ما أنزل الله، وقضاة في المحاكم الوضعية، وما شابه، وعليه فإنهم يكفّرون من يدخل تلك البرلمانات من الأحزاب العلمانية، والقوميين والعشائريين، وفي الوقت نفسه تتهافت تلك الفصائل والأحزاب على الترشح للدخول في تلك البرلمانات، وتخرج في مظاهرات، وتقوم بالثورات إذا منعت من ذلك، بل وتعطي لمشاركتها في هذا الشرك لقب «الجهاد السياسي» أو «جهاد الكلمة»، ومن يُقتل من أتباعها على يد الطواغيت وهو يطالب بالديموقرطية تعطيه لقب «الشهادة»!


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 34
الثلاثاء 2 رمضان 1437 ه‍ـ

مقتطف من مقال:
أكفّاركم خير من أولئكم
...المزيد

كيف نستقبل رمضان؟ (2/2) رابعا: التوبة الصادقة النصوح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ...

كيف نستقبل
رمضان؟
(2/2)

رابعا: التوبة الصادقة النصوح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [سورة التحريم: 8]، وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور: 31]، وقال جل جلاله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [سورة هود: 3]، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مئة مرة) [رواه مسلم]، وحث -صلى الله عليه وسلم-على التوبة، بقوله: (يا أيها الناس توبوا إلى الله) [رواه مسلم].

ورمضان شهر التوبة، فلا تفوِّت الفرصة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- المنبر يوما، فقال: (آمين، آمين، آمين) قيل له: يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا؟! فقال: (قال لي جبريل: رغم أنف عبد دخل عليه رمضان لم يغفر له. فقلت: آمين...) الحديث [حديث حسن رواه البخاري في الأدب المفرد]، وعنه أيضا –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر) [رواه مسلم].

فتب إلى الله -عبد الله- يَكُ خيرا لك في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [سورة التوبة: 74]، تب فإن الله يحب التوابين، تب إلى ربك ليتوب ربك عليك، فقد قال سبحانه الذي هو أرحم بك من والدتك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة: 160].

تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الجرائم من تدارك


خامسا: البدء بأعمال رمضان في شهر شعبان، فإن كان رمضان موسما للتقوى، فإن شعبان مرحلة لا بد من النجاح فيها قبل دخول رمضان، وإن العبادة في شعبان بمثابة تدريب مهم يسبق الدخول لمضمار التنافس في عبادات رمضان.
وإننا نجد من تتبع سيرة النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه لم يكن يصوم من الشهور نافلة كما كان يفعل في شعبان.

وكما أن صوم شعبان توطئة (تهيئة) لصوم رمضان، كذلك فإن قراءة القرآن وقيام الليل والصدقات وصلة الرحم، وغيرها من العبادات في شعبان بمثابة إعداد واستعداد لأمثالها في رمضان، قال ابن رجب الحنبلي: «ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرع فيه ما يُشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن»، وقال أيضا: «كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبّوا على المصاحف، فقرؤوها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان، وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القرّاء» [لطائف المعارف].


سادسا: تنظيم الوقت وقطع الشواغل وإنجاز المتعلقات وتفريغ الذهن، فاقض جميع حوائجك -أخي المسلم- من مواد غذائية وملابس الأطفال للعيد وغيرها من الأمور، اقضها في شعبان، بحيث لا يشغلك شاغل عن العبادة في رمضان.
وإياك إياك والإسراف في المباحات، كالطعام والشراب والملبس، كما يفعل كثيرٌ من الناس، فيتزوّدون في شعبان لرمضان بأنواع المأكولات والمشروبات! فكأن رمضان موسم للأكل والشرب! فيتزوّدون بزاد الدنيا، ولا يتزوّدون بزاد الآخرة، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة البقرة: 197].

فأين هؤلاء من السلف الصالح الذين كانوا يقطعون مجالس العلم للتفرغ لرمضان، كما كان يفعل الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- فإنه إذا دخل رمضان يفرّ من الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن.


فيا أخي الحبيب:
أمامك شهر عظيم، أحسن استقباله، وعظّم شعائره، بالكف عن الغيبة والنميمة وحفظ السمع والبصر واللسان عن الحرام وغيرها من المعاصي، فإن لم تغتنم هذه الفرصة ولم تستعد لها، فهذا يعني أن رمضان سيدخل عليك وينقضي كما انقضى رمضان الذي قبله، ولن تخرج منه إلا بالحسرة والندامة، كما أنك لا تدري أتبلغ رمضان الذي بعده أم لا؟! فكم تعرف من أناس أدركوا رمضان الفائت ولن يدركوا رمضان القادم!


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 33
الثلاثاء 24 شعبان 1437 ه‍ـ

مقال:
كيف نستقبل رمضان؟
...المزيد

كيف نستقبل رمضان؟ (2/1) ما هي إلا أيام ويقدم علينا شهر عظيم، شهر الصيام والقيام والقرآن، شهر ...

كيف نستقبل
رمضان؟
(2/1)

ما هي إلا أيام ويقدم علينا شهر عظيم، شهر الصيام والقيام والقرآن، شهر المغفرة والرضوان، فيه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران، فضّله الله تعالى على سائر الشهور، ففيه أُنزل القرآن، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من صامه أو قامه إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه، فيه ليالٍ عشر، هي خير ليالي السنة، شهر رمضان الذي ترتبط به القلوب والأبدان لما تجده النفوس من بهجة واطمئنان، وحب للخيرات وترك للمنكرات، زمن يجتمع فيه المسلمون على البر، ويعتصمون بحبل الله، فتراهم يجتمعون للإفطار ويجتمعون للتراويح ويجتمعون في حلق الذكر والقرآن.

لذا كان حريّا بنا أن نحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، ونغتنم أيامه ولياليه لئلا يفوتنا الخير العميم، ونتفقّه في العبادات المرتبطة بهذا الموسم الحافل، ولا ننشغل بمفضول عن فاضل، فنستقبل ضيفنا بأحسن استقبال، فهو ضيف عزيز غالٍ، مثله كمثل من له حبيب أو صاحب أو قريب، غاب عنه أحد عشر شهرا! ثم علم بمجيئه إليه زائرا عما قريب، فماذا هو صانع لملاقاته واستضافته؟! ونحن سوف نستقبله في غضون أيام، وقد جلب لنا معه أعظم الهدايا وأجزل العطايا وأحلى الكلام، فلا بد أن نحفظ لهذا الضيف قدره وننزله ما يستحق من مكانته.

فإليك أخي الحبيب بعض التوصيات علها تنفعك في تهيئة نفسك لاستقبال شهر رمضان المبارك، وهي:
أولا: الفرح بقدوم رمضان، والاستبشار بحلوله، والسرور بالعبادات التي شرعها الله فيه، وذلك من تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى، {ذَلكَ وَمَنْ يُعَظّمْ شَعَائرَ اللَّه فَإنَّهَا منْ تَقْوَى الْقُلُوب} [سورة الحج: 32].

فأول أدب من الآداب الشرعية بين يدي رمضان، أن تتأهب لقدومه قبل الاستهلال، وأن تكون النفس بحلوله مستبشرة، قال تعالى: {قُلْ بفَضْل اللَّه وَبرَحْمَته فَبذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس: 58]، ومحبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل، فترى المؤمنين الصادقين متلهفين مشتاقين إلى رمضان، تحنّ قلوبهم إلى صوم نهاره، وتئن صدورهم لقيام ليله، وتهفو نفوسهم لعمارة أوقاته بالذكر والقرآن والصدقات، يفرحون بقدوم شهر رمضان، ويدعون الله أن يبلغهم إياه، ويكحل أعينهم برؤية إشراقة هلاله، ويتم عليهم نعمة إتمام صيامه وقيامه، ويستشعرون قلة أيامه وسرعة انقضائه، ويستحضرون الحزن على رحيله ووداعه، ولسان حالهم يردد:
مرحبا أهلا وسهلا بالصيام ... يا حبيبا زارنا في كل عام


ثانيا: تبادل التهاني والتبريكات بحلول شهر رمضان، ذلك أن بلوغ شهر رمضان وإدراكه نعمة دينية كبيرة، حري أن يُهنَّأ المسلم على بلوغها، وقد أُثر عن السلف أنهم كانوا يسألون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وفي الستة الأخرى يسألونه القبول، كما أننا نرى العشرات ونسمع عن أضعافهم ممن يموتون قبل بلوغهم الشهر! فمن بلغ رمضان حيا صحيحا قادرا على الصوم، فهذه من نعم الله تعالى عليه، تستحق الحمد والشكر.
قال ابن رجب الحنبلي، رحمه الله: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشّر أصحابه بقدوم رمضان، كما خرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشّر أصحابه، يقول: (قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)، قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان» [لطائف المعارف].


ثالثا: تَعلُّم ما لا بد منه من فقه الصيام، أحكامه وآدابه، في الحضر والسفر، والعبادات المرتبطة برمضان من تراويح واعتكاف وزكاة فطر وغيرها، وهذه الأحكام والآداب مبسوطة في كتب الفقه، فمما لا شك فيه أن من يعبد الله -في رمضان وغيره- بعلم أفضل بكثير ممن يؤدي العبادات دون معرفة أحكامها إن صحّت نيته، بل قد يترتب على الجهل بأحكام العبادة ضياع ثوابها، ووجوب إعادتها إن كانت من الواجبات، لذلك يجب على المسلم تعلّم أحكام الصيام، طلبا للعمل بها بشكل صحيح، من غير مخالفة ولا بدعة، وكذلك كي لا يحمّل العبد نفسه بما ليس من الدين في الصيام، فيرهق نفسه في غير عبادة الله.


رابعا: التوبة الصادقة النصوح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آَمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّه تَوْبَةً نَصُوحًا} [سورة التحريم: 8]، وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إلَى اللَّه جَميعًا أَيُّهَا الْمُؤْمنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ} [سورة النور: 31]، وقال جل جلاله: {وَأَن اسْتَغْفرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْه} [سورة هود: 3]، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مئة مرة) [رواه مسلم]، وحث -صلى الله عليه وسلم-على التوبة، بقوله: (يا أيها الناس توبوا إلى الله) [رواه مسلم].


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 33
الثلاثاء 24 شعبان 1437 ه‍ـ

مقال:
كيف نستقبل رمضان؟
...المزيد

أكفّاركم خير من أولئكم (1/2) وكذلك بيّن الله أن العقاب مرتبط بالمعصية، فمن فعلها كان مستحقا ...

أكفّاركم خير من أولئكم

(1/2)
وكذلك بيّن الله أن العقاب مرتبط بالمعصية، فمن فعلها كان مستحقا للعذاب والعقاب من الله، لذلك أنزل لقريش يحذرهم وبال شركهم ومعصيتهم، بعدما قصّ عليهم نبأ من ناله العذاب قبلهم من أقوام نوح وصالح ولوط جزاء لما فعلوه من المعاصي: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [سورة القمر: 43]، قال القرطبي: «أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدّم من الأمم الذين أُهلكوا بكفرهم» [الجامع لأحكام القرآن]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن اللّه أخبر أن سنّته لن تُبَدّل ولن تتحول، وسنّته عادته التي يسوِّي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة» [مجموع الفتاوى].

ومن المصائب التي ابتلي بها المسلمون في هذا الزمان وفي كل زمان، ما يرونه من تسلط بعض السفهاء على دين الإسلام، واتخاذه هزوا ولعبا، يقبلون منه ما اشتهوا، ويردّون منه ما كرهوا، بل والمصيبة الأكبر أنهم يجيزون لأنفسهم من المعاصي والضلال ما يحرّمونه على غيرهم، ويكفّرون أعداءهم ببعضها، فإن فعلوها هم أو من يحبّونهم صارت أعمالا صالحة يُتقرّب بها إلى الله.

وقد كان هذا دأب أهل الضلال في كل حين، فنجد أن المشركين كانوا يفعلون الفواحش من البدع ثم ينسبونها إلى الله، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف: 28]، ونجد الضالين من بني إسرائيل يأمرون الناس بالطاعات ولا يفعلونها، كما في قوله تعالى: (أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [سورة البقرة: 44]، ونجد من زنادقة الصوفية من كان يكذب على الناس فيزعم أنه غير مكلف بالعبادات لأنه أقرب إلى الله من باقي العباد، واليوم صرنا نرى من الفصائل والأحزاب التي تنسب نفسها للإسلام العجب العجاب في هذا الباب.

فتجدهم يقاتلون بعض الطواغيت، ويكفّرونهم على أفعالهم، ثم تجدهم يفعلون نفس أفعال الطواغيت، دون أن ينكر بعضهم على بعض، بل تجدهم يبرّرون لأنفسهم ولأحبابهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه ليجعلوا أفعالهم الكفرية موافقة للشريعة، بل ويجعلونها من الأعمال الصالحات، إن لم تصبح من الواجبات في بعض الأحيان، التي يؤثّمون تاركها.

وهذا التناقض الحاصل لدى القوم مردّه إلى أنهم لا يطبّقون الحكم الواحد على الحالتين بمنهج واحد، فالقانون الوضعي الذي تحكم به المحاكم في مناطق الضفة الغربية من فلسطين تحت حكم الطاغوت محمود عباس هو القانون الوضعي ذاته الذي تحكم به المحاكم في قطاع غزة تحت حكم طواغيت الإخوان من أمثال إسماعيل هنية وحزبه.

فعلى أي أساس إذن تكون الحكومة في الضفة الغربية طاغوتية مرتدة، وتكون الحكومة في قطاع غزة حكومة «شرعية»؟!

والحال مشابه في مصر، فالطاغوت حسني مبارك كان كافر مرتدا في نظر الأحزاب والفصائل، لأنه يحكم بغير ما أنزل الله، فلما نزع الله منه الملك، وصار الطاغوت محمد مرسي حاكما لمصر، حكم بالقانون الوضعي ذاته الذي كان يحكم به مبارك، ولكن الأحزاب والفصائل أعطت لمرسي وحكومته وصف «الشرعية»، بالرغم أن هذا الفعل المكفر الذي هو الحكم بالقانون الوضعي قد وقع من الطاغوتين كليهما.

فعلى أي أساس يكون الطاغوت (حسني) مرتدا يجب على المسلمين الخروج عليه وجهاده وخلعه، ويكون الطاغوت (مرسي) «مسلما» يجب على المسلمين تأييده ومناصرته، والدعاء له، والعمل على تثبيت حكمه، أو إعادته إليه بعد نزعه منه؟!
وإذا تابعنا نظرة كثير من تلك الفصائل والأحزاب إلى الديموقراطية نجد أنهم في الغالب يصرّحون بأن المجالس التشريعية أو البرلمانات هي مجالس كفرية لأنها تشرّع القوانين الوضعيّة التي يحكم بها الطواغيت، من حكام بغير ما أنزل الله، وقضاة في المحاكم الوضعية، وما شابه، وعليه فإنهم يكفّرون من يدخل تلك البرلمانات من الأحزاب العلمانية، والقوميين والعشائريين، وفي الوقت نفسه تتهافت تلك الفصائل والأحزاب على الترشح للدخول في تلك البرلمانات، وتخرج في مظاهرات، وتقوم بالثورات إذا منعت من ذلك، بل وتعطي لمشاركتها في هذا الشرك لقب «الجهاد السياسي» أو «جهاد الكلمة»، ومن يُقتل من أتباعها على يد الطواغيت وهو يطالب بالديموقرطية تعطيه لقب «الشهادة»!


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 34
الثلاثاء 2 رمضان 1437 ه‍ـ

مقتطف من مقال:
أكفّاركم خير من أولئكم
...المزيد

أبو جليبيب الإعلامي كتاباتي ستشرب من دمائي لتعلن أنّ في موتي حياتي كم من محنة أخفت في طياتها ...

أبو جليبيب الإعلامي
كتاباتي ستشرب من دمائي
لتعلن أنّ في موتي حياتي

كم من محنة أخفت في طياتها منحة! فمع ازدياد ضغط أهله عليه لينزع فكرة النفير من ذهنه، ويترك متابعة أخبار المجاهدين، ويتوقف عن إطلاع إخوانه على إصداراتهم، وصل الأمر به إلى درجة لم يعد يطيق فيها الصبر على أذاهم، فعزم على فراقهم، والهجرة إلى دار الإسلام، والنفير إلى ساحات الجهاد من جديد، وأعانه على ذلك تعلق أخيه الأصغر به، ورغبته في أن يكون صاحبه في طريق الهجرة، ونصيره في أرض الجهاد.

خرجا من بيتهما لا يعرفان أين يتوجهان، فأمضيا يومهما تائهين في المدينة، لا يدريان كيف يبدآن رحلة الهجرة إلى الشام التي تفصلهم عنها آلاف الأميال، ولا يملكان من تكاليف الرحلة ما يعينهما عليها، بل إنهما اضطرا إلى بيع هواتفهما ليشتريا بأثمانها الطعام والشراب.

وبينما كانا يستريحان في أحد المساجد، منّ الله عليهما بأحد المسلمين دلّهم على الطريق، وآزرهم بما استطاع من المال الذي جمعه لهما، فأكملا ثمن تذاكر الطائرة إلى تركيا، ومنّ الله عليهما بمسلم آخر رأى فقر حالهما فأمدهما من المال ما يمكنّهما من عبور الحدود حتى دخلوا مناطق خارج سيطرة الدولة الإسلامية، ومنها عبرا بسهولة إلى مناطق الدولة الإسلامية فلم يشتبه المرتدون بهما لصغر سنهما، ولكون أوراقهما تثبت أنهما من أهل البلاد، فيسر الله وصولهما إلى دار الإسلام بعد رحلة طويلة، كان أنيسهم فيها دعاؤهم «اللهم دبّر لنا فإننا لا نحسن التدبير».

أنهى أبو جليبيب دوراته الشرعية والعسكرية، ليتم تفريغه للعمل الإعلامي بعد فترة من الرباط، وبعد تزكيته من قبل من يعرفه قبل النفير، وممن صاحبه في المعسكرات والرباط، فيصبح فردا من أفراد المكتب الإعلامي لولاية البركة، ويكون شعلة نشاط وحيوية بين إخوانه الإعلاميين.

كان متعدّد المواهب، فقد استغل فترة استعداده للنفير بالتدرب على عدّة برامج حاسوبية لتصميم الصور وتعديلها، وإخراج الإصدارات المرئية، كما كان صاحب ملكة في فن التصوير طوّرها بحضوره دورة في التصوير الاحترافي داخل الدولة الإسلامية، ليتفرغ بعدها لهذا المجال، ممضيا وقته مع دواوين الولاية في تغطية نشاطاتها، ومنشغلا مع المرابطين في الثغور في تغطية أخبارهم، ومع الاستشهاديين في تسجيل وصاياهم.

وما إن يسمع هيعة للحرب إلا ويمضى إليها يبتغي الموت مضانّه، فيدخل منغمسا مع الجنود المقتحمين ليغطي غزواتهم وينقل للمسلمين صور بطولاتهم، فشارك في الاشتباكات، وصبر تحت دوي القنابل وأزيز الطائرات، وثبت مع إخوانه محاصرا معهم مرّات ومرّات، ولم تقعده الإصابات عن متابعة جهاده، ومضاعفة جهده، بل كان لا يأخذ من النقاهة إلا ما يكفيه للنهوض من جديد والعودة لساحات القتال، ومنازل الأبطال، وكانت أطول فترات انقطاعه عنها أسابيع قليلة قضاها طريح الفراش بعد إصابته بشظية قذيفة هاون سقطت بجواره في معركة (تل تمر) واخترقت صدره ومزّقت رئته، وفور استقرار حالته عاد للعمل داخل المكتب في التصميم وصنع الإصدارات ونشر الأخبار، حتى عاد للعمل الميداني مصورا ومخرجا.

بعد انحياز جنود الخلافة من مدينة الشدادي، عُيِّن أميرا على المكتب الإعلامي في ولاية البركة، حيث كانت المعارك لا تزال على أشدها بين جنود الرحمن وأولياء الشيطان جنوب المدينة، وكان أبو جليبيب على عادته التي لا يفارقها لصيقا بالجبهات، مخالطا لسرايا الانغماسيين وكتائب الاقتحامات، لا تبعده عنهم متطلبات العمل، ولا تشغل باله الإمارة، ولا تلهيه العروس التي لم يمض على بنائه بها فترة طويلة، فكانت نهايته بينهم، أثناء عمل عسكري في قرية (كشكش جبور) حيث استهدفته طائرة صليبية بصاروخ، أحال جسده أشلاء، لينال –بإذن الله– ما تمنّى، ويلحق بإخوانه الذين سبقوه من إعلاميي ولاية البركة، أبي الحارث الجوالي، وأبي عبيدة الزبيدي، وأبي عمر غريبة، وأبي البراء الطائي، وأبي جعفر الحسيني، وأبي طارق الهول، وأبي حمزة الأنصاري تقبلهم الله جميعا في الشهداء، وأحسن لهم الجزاء.

رحل أبو جليبب وإخوانه الإعلاميون، ولسان حال كل منهم يقول: لقد شربت كلماتنا من دمائنا، ولقد صدقنا ما عاهدنا الله عليه، ومضينا فيما دعونا الأمة إليه، فقضينا نحبنا، ولا زال منا من ينتظر، وما بدلنا تبديلا، ولن يبدلوا تبديلا، نحسبهم جميعا كذلك، ولا نزكي على الله أحدا.

رحلوا جميعا، بعدما اقتحموا أرواحنا، واحتل كل منهم حيزا كبيرا من نفوسنا، رحلوا وما تركوا لنا إلا الذكريات الجميلة، وسيرهم العطرة، التي نرويها لمن بعدهم، حتى يأذن الله أن نلحق بهم، فنصير أمثالهم، نسأل الله أن يتقبل منا ومنهم.


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 34
الثلاثاء 2 رمضان 1437 ه‍ـ

مقتطف من قصة شهيد:
أبو جليبيب الإعلامي
...المزيد

لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين الحمد لله الذي رفع ذكر العالِمِين، والصلاة والسلام على ...

لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين


الحمد لله الذي رفع ذكر العالِمِين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء وأولي العلم الراسخين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
فقد قال الله تعالى في محكم التنزيل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وقال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- وهو يذكر فضل العلم: «واستشهد الله -عز وجل- بأهل العلم على أجلّ مشهود به، وهو التوحيد، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وفي ضمن ذلك تعديلهم، فإنه سبحانه وتعالى لا يستشهد بمجروح» [مدارج السالكين].

ثم قال رحمه الله: «ويكفي في شرفه [أي شرف العلم] أنّ فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها، وتظلهم بها، وأن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وحتى النمل في جحرها، وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير» [مدارج السالكين].

- وجوب طلب العلم:

ولقد فرض الله تعالى طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، فالرجال والنساء في طلب العلم الشرعي النافع سواء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [رواه ابن ماجه والطبراني].

قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: «اعلم أن طلب العلم فريضة، وأنه شفاء للقلوب المريضة، وأن أهم ما على العبد معرفة دينه الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار أعاذنا الله منها» [الدرر السنية].

وقال ابن رجب الحنبلي، رحمه الله: «فإنه يجب على كل مسلم معرفة ما يحتاج إليه في دينه، كالطهارة والصلاة والصيام، ويجب على من له مال معرفة ما يجب عليه في ماله من زكاة ونفقة، وحج وجهاد، وكذلك يجب على كل من يبيع ويشتري أن يتعلم ما يحل ويحرم من البيوع، كما قال عمر، رضي الله عنه: لا يبيع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين» [مجموع رسائل ابن رجب].
ولذلك كان من أوجب الواجبات على دولة الإسلام ما إن مكنها الله تعالى في الأرض، أن حرصت على نشر العلم الشرعي بين رعاياها، فأقيمت الدورات الشرعية وانتشرت حلق الذكر والتعليم في المساجد.

وقد كانت الدولة الإسلامية -سددها الله- ولا زالت تحث النساء على طلب العلم، وتقيم لهن الدروس والمحاضرات، وتنشر بينهن الرسائل النافعة، والكتب الجامعة.

- المسلمة ترفع الجهل عن نفسها وأهلها ومن حولها:

عن ابن عمر، رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) [متفق عليه]، فوجب على المسلمة تعلُّم أمر دينها لرفع الجهل عن نفسها وأطفالها ومن حولها، وتأسيا بمن كان قبلنا من الصحابيات ونساء السلف والصالحين.

ولتعلم الأخت المسلمة أن تنشئة النساء في الحلية والزينة والترف وما أباحه الشارع لهن، لا يجب أن يكون مبلغ همّ المسلمة، ولتقلب صفحات التاريخ، ولتطرق أبواب السير والتراجم، لتجد فيها حدائق غَنَّاء بزهرات يفوح عبيرها مع كل سطر، زهرات هن نساء خيِّرات، زوجات وأمهات وفي نفس الوقت عالمات فقيهات محدِّثات، تعلمن وعلمن، وحفِظن وحفَّظن، بل وتفقهن وأفتين.

- أم المؤمنين تعلم علماء الصحابة:

فها هي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها وعن أبيها- يشهد لها كبار الصحابة –رضوان الله عليهم- بغزارة العلم، عائشة معلمة الأمة التي قال عنها الزهري: «لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل».
وسئل مسروق إن كانت عائشة تحسن الفرائض، فقال: «والذي لا إله غيره، لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض» [رواه الدارمي].

وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: «ما أشكل علينا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث قط، فسألنا عائشة -رضي الله عنها- إلا وجدنا عندها منه علما» [رواه مالك في الموطأ].


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 32
الثلاثاء 17 شعبان 1437 ه‍ـ

مقتطف من مقال:
لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين
...المزيد

الرِّفقُ خُلُق الأنبياء (2/1) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ...

الرِّفقُ خُلُق الأنبياء
(2/1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الله تعالى رفيق يحب الرفق في الأمر كله [حديث متفق عليه]، وقد حثّ سبحانه صفوة خلقه نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- على الترفق بالمسلمين فقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [سورة آل عمران: 159] وقال له جل جلاله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء: 215].

فكان -صلوات الله وسلامه عليه- أرفق الناس بالناس، بل كان الرفق علامة من علامات نبوته -صلى الله عليه وسلم- ومن صور رفقه ما رواه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن).
وما رواه البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، رضي الله عنهم: (دعوه وهريقوا على بوله سَجلا من ماء، أو ذَنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين).

وروى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي، صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا).

وهذا مع قوم آذوه وسبوه وسفهوه وطاردوه، صلى الله عليه وسلم.

ولما كانت هذه منزلة الرفق بالناس من الدين، حث عليها أرفق الناس بالناس، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة صحيحة، كقوله، صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) وقوله: (يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا)، وقوله: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هيِّن ليِّن سهل).

كما تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعل كل عنيف غليظ بغير حق، فقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به) [رواه مسلم]، وقال: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر) [متفق عليه].

ويروى أن رجلا قبطيا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين! سابقت ابن عمرو بن العاص (وكان والي مصر آنذاك) فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين! فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويجلب ابنه معه، فلما قدم، قال عمر للمصري: خذ السوط فاضربه، فجعل يضرب، وعمر يردد: «اضرب ابن الأكرمين»، ثم التفت عمر لعمرو وقال له: «مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!» فقال عمرو: يا أمير المؤمنين! لم أعلم ولم يأتني [جامع الأحاديث للسيوطي].

فانظر -أخي- كيف يقتص لـمعاهد من ابن صحابي! كيف لا وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من إيذاء الكافر الذمي، إن كان من رعية الدولة الإسلامية، فقال: (ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) [صحيح، رواه أبو داود].
ومن هنا ندعوك -أخانا المسلم- إلى التحلي بهذا الخلق العظيم، فكن محظوظا برفقك ولا تكن محروما بفضاضتك، (فمن أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ومن حُرِم حظه من الرفق فقد حُرِم حظه من الخير) [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]، وليكن أمرك بالمعروف معروفا، ولا يكن نهيك عن المنكر منكرا، واختر أحسن كلماتك وعباراتك.

واعلم أن الكلمة الطيبة صدقة، وتبسَّم في وجوه المسلمين ليطمئنوا إليك، واعلم أن تبسمك في وجه أخيك المسلم صدقة.

وإياك إياك أن تحكم على الناس بالهلاك، وترى نفسك أنت وحدك الناجي! وإلا كنت أنت أهلك الناس أو أنك أنت الذي أهلكتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلَكُهم) [رواه مسلم]، وفي رواية (فهو أهلَكَهم)، وكلا المعنيين صحيح.


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 32
شعبان 1437 ه‍ـ
...المزيد

الرِّفقُ خُلُق الأنبياء (2/2) وإلى كل مجاهد في سبيل الله، نخصه بالتذكير ونقول له: يا قرة ...

الرِّفقُ خُلُق الأنبياء
(2/2)

وإلى كل مجاهد في سبيل الله، نخصه بالتذكير ونقول له:

يا قرة العين، وتاج الرأس، يا من اعتليت ذروة سنام الإسلام، يا بائعا نفسك لربك: أشفق بالناس لأنك أحق بالشفقة من غيرك، فما نذرت نفسك ومالك إلا لإقامة شرع الله ونصرة المستضعفين ونشر التوحيد وإنقاذ الناس من الضلال وتعليمهم أمر دينهم، فكيف يتأتى ذلك منك بغير الرفق والحلم والرحمة والشفقة!

واحذر -أخا الجهاد- من أن تغتر بجهادك وعلمك وعملك، ولا تقل إن الله اصطفاني لأني كذا وكذا، وقد أوتيت ذلك على علم عندي!

لا، بل تذكر دائما أن هدايتك وجهادك نعمة من الله مـنّها عليك برحمته، فاشكر هذه النعمة بالتواضع للناس ولا تكفرها بالتعالي عليهم، واحفظ هذه الآية الكريمة ورددها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [سورة النساء: 94].

فالله الله في رعايا الخلافة، فإن لهم عليك حق الإحسان إليهم، والرفق بهم، ونصيحتهم، ورعاية مصالحهم، وليكن شعارك ما وصاك به الشيخ المجاهد أبو حمزة المهاجر -رحمه الله- حيث قال: «فترفقوا بالناس وأشعروهم حلاوة الإسلام وعزته، وإياكم أن تشعروهم الخوف من الإسلام وأحكامه، وإن كان ثمة أمر مُرٌّ على أهلنا، فاعملوا له من الحلو والطيب من القول والفعل ما يتقبل الناس مُرَّه، وعلى الجملة: حببوا للناس دينه وأحكامه ودولة الإسلام» [الوصية الثلاثينية لأمراء وجنود الدولة الإسلامية].

هذا، ومما ينبغي التنبيه عليه: أنه وكما أن للرفق مواضعه المحمودة، فإنّ للشدّة والغلظة مواضعها المحمودة أيضا، كما قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة: 73]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [سورة الفتح: 29]، وقال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [سورة محمد: 4]، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [سورة النور: 2].

وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وقال: (وايم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت، لقطعت يدها) [متفق عليهما]، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر قريش! أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح) [صحيح رواه أحمد وغيره].

وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في نقاش الصحابة له في قتال مانعي الزكاة: «والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها» [متفق عليه]، وللفاروق عمر وسيف الله خالد وأسد الله حمزة وغيرهم من الصحابة، مواقف مشهودة في الشدة حربا لأعداء الله، وزجرا للعصاة والمبتدعين، فليراجعها من يريد الاستئناس بها في سيرهم العطرة، رضوان الله عليهم.

اللهم إنا نسألك قلبا واسعا ولسانا طيبا ووجها باسما، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 32
شعبان 1437 ه‍ـ
...المزيد

تنامي نشاط الدولة الإسلامية في الصومال في الآونة الأخيرة تزاحمت تقارير مراكز الاستخبارات ...

تنامي نشاط الدولة الإسلامية في الصومال

في الآونة الأخيرة تزاحمت تقارير مراكز الاستخبارات الصليبية المموهة، في التحذير من خطر تنامي نشاط الدولة الإسلامية في الصومال، وأنها توسعت وتمددت وعززت من قدراتها، وكالعادة فإنهم يعزون ذلك دوما - وفق نظرتهم الجاهلية - إلى الأسباب المادية البحتة والتي لا تخلو من: "زيادة الاضطرابات الإقليمية" و "وعورة التضاريس الجغرافية" و "تدفق الإيرادات المالية" إلى غيرها من التفسيرات الأرضية المادية، وينسون تماما الشطر الأهم من الرواية وهو أن الجهاد قدر الله تعالى وفريضة من فرائضه وشريعة من شرائعه التي لم تُنسخ ولم تُستبدل، بل هي ماضية باقية ما بقي الصراع بين الإسلام والكفر.

ينسون - الصليبيون والمرتدون - أن الجهاد في شريعة المسلمين ماض ولو تحداه كل طواغيت العرب والعجم، ولو سعت قوى الكفر لمنعه، وهي بالفعل تحاول ذلك منذ بزوغ فجر الإسلام وانطلاق جهاد الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، بقيادة النبي محمد ﷺ وصحابته العدول.

• افتتاحية النبأ العدد 476
• لقراءة الافتتاحية كاملة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

لمن يريد الخلافة وأقول لزعماء وقادة الفصائل والجماعات والأحزاب والفرق والتنظيمات، الذين يحاربون ...

لمن يريد الخلافة

وأقول لزعماء وقادة الفصائل والجماعات والأحزاب والفرق والتنظيمات، الذين يحاربون الخلافة، ويزعمون أنهم يعملون لإعادة الخلافة! لهؤلاء ومن وافقهم أقول: سنمضي بإذن الله في دربنا وإنها الخلافة، فإن أعجبكم؛ فتوبوا وأوبوا والتحقوا بركبها وانصروها فإنها الخلافة، أقمناها بحد السيف رغماً عن أمريكا وحلفائها مغالبة لطواغيت الأرض وحكامها، وإنا ماضون بأمر ربنا نعلي صرحها، ونعيد مجدها.

من كلمة صوتية للشيخ المجاهد أبي محمد العدناني الشامي - تقبله الله - { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ}


• للإستماع للكلمة الصوتية، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً