المُسن الشاب!
لطالما سمعنا أن المرء عندما يبلغ سن الشيخوخة يصيبه الوهن وتضعف ذاكرته، هذه سنة الحياة، لا اختلاف عليها؛ فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ"(الروم :٥٤).
فالمشكلة ليست في هذا الضعف، إنما في الظواهر المصاحبة لهذا الضعف من اكتئاب واضطرابات نفسية أخري، ولسنا هنا لنتحدث عن هذه الظواهر وعن كيفية مواجهتها، وإنما لتسليط الضوء على زاويةٍ أخرى في حياة كبار السن وأخص بالذكر أهل الإيمان منهم الذين نشؤوا في طاعة الله وذكره.
لا أتحدث هنا عن أولي العلم والعلماء، وإنما عن طائفة مؤمنة أنهكتها الحياة والانغماس فيها، والسعي لكسب العيش، وتربية الأولاد حتى يكبروا، والاهتمام بأمور البيت.
بلى؛ نحن هنا نتحدث معكم عن حياة جديدة تدخلونها عندما يكبر سنكم ويضعف بدنكم ويتزوج أبناؤكم؛ ولا يبقى لكم سوى أنفسكم وفراغُ وقتٍ وعقل، فكيف ستكون حياتكم؟! ها نحن نتحدث عنكم؛ لعلكم تجدون هنا ما يعطيكم الأمل والقوة لتستكملوا الرسالة التي خلقتم لأجلها، ولا نستعرض معكم الضعف الخارجي الذي يصيبكم، فدعونا نتأمل عن القوة التي بداخلكم في عبادة ربكم و ذكره.
فعندما يصير كل شيء بالنسبة لكم بطيئًا؛ هذا البطء يصاحبه فراغ وقتٍ وعقل، فتأمل معي كيف ستكون حالته مع لسان ذاكر وقلب متفكر متدبر للكون حوله بأدق تفاصيله!
حينها، يا عزيزي الشيخ، سيصير لديك الوقت الكافي ليصبح التأمل والتدبر جزءٌ كبيرٌ من حياتك؛ وقد تعلمنا أن التفكر في مخلوقات الله يوصلنا إليه؛ فكفانا مقدماتٍ! فتعال معي أحكي لك قصةٌ عن شيخٍ كَبُر سِنه وضعف بدنه وذاكرته، وفيه ما فيه من الأمراض المزمنة، ولكن قلبه ما زال سليمًا ينبض بذكر الله تعالي، في رحلة من يوم واحد من لحظة استيقاظه إلى معاد نومه.
والمستغفرين بالأسحار
ها هو الشيخ قد استيقظ في معاده -كما تعود منذ الصغر- قُبيل الفجر، وأول ما نطق به كان دعاء النبي ﷺ «الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره»، هو يقولها الآن في حالة تأنٍ وقوة بأن ربه رد عليه روحه، وعافاه في جسده الضعيف، وأذن له أن يذكره في تلك الساعات المباركات، رغم ضعفه، ووهنه، وكبر سنه. ثم تلا الآيات المباركات من أواخر سورة آل عمران كفعل النبيﷺ أيضاً؛ مما زادت معه فرصته في أن يكون من أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض والذين يذكرون الله في جميع حالاتهم؛ قيامًا و قعودًا وعلى جنوبهم. ثم ذهب إلى الخلاء مرددًا دعاء النبيﷺ «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» ويقدم حال دخوله رجله اليسرى، ولن ينسى دعاء الدخول والخروج كما اعتاد نسيانه ؛ لتعجُله في مشاغل الدنيا، ثم يتطهر؛ استعدادًا لمناجاة ربه في تلك الساعات المباركات، والوقوف بين يديه قبل أذان الفجر؛ فيصلي من الليل ما تيسر له. وفي تلك الأوقات يحب الشيخ أن يملأ صحيفته بالاستغفار الكثير، فقد بشرنا النبيﷺ أنه قال «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير»، فأصبح لديه الآن الوقت كي يستغفر ربه حتى يطلع الفجر، وها هو المنادي يؤذن في الكون وفي قلب الشيخ: الله اكبر.. الله اكبر.. وانطلقت صيحة الحق، ويرددها الشيخ بكل قوةٍ وبكامل تفكيره وعقله، ثم يرجو أن يفوز بشفاعة النبيﷺ القائل« فمَن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشَّفاعة» فيقول «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محموداً الذي وعدته».
ينسي ألمًا ويزرعُ نخلاً ويمحي ذنبًا؟
وينزل الشيخ درجات السلم ببطءٍ شديد؛ مرتقيًا درجات العلى، يصاحبه تسبيحٌ بحمد الله كفعل أصحاب النبيﷺ في السنة المنسية «كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا»، وكان الشيخ فَطِنًا حينما يقرن تسبيح الله بتعظيمه فيقول "سبحان الله وبحمده.. سبحان الله العظيم"؛ وهو يعي تمامًا قيمة تلك الدقائق النفيسه التي هي منحةً من ربه شفاءً لهشاشة عظامه ومحواً لجميع ذنوبه ، ويغرس نخلًا، ألم يقل المصطفى ﷺ«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ في يومٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» ومن قال«سبحان الله العظيم وبحمده غُرست له نخلةٌ في الجنة». أما دعاء النبيﷺ «بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله» فيلهج به لسانه وهو خارج من البيت، ثم يذهب إلى المسجد، وهو يعلم أن كل خطوةٍ يخطوها إحداهما تحطُّ خطيئةً والأخرى ترفع درجة.
لماذا يذهب إلي الصلاة؟
وهو يخطو كل خطوةٍ إلى المسجد بسكينةٍ ووقارٍ، فيستحضر الشيخ بخبرته الطويلة في الذهاب إلى المساجد لماذا يذهب إلى الصلاة؟ غير أنها فرضٌ من الله علي كل مسلمٍ مستحضراً قول النبي ﷺ "يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها" فها هو ذا ذاهبٌ ليستريح من متاعب الحياة التي طالما أنهكته وهو لطالما واجهها بالصلاة فهو يذهب بعد خِبرةٍ طويلة للوقوف بين يديّ ربهُ ليُناجيه ذاهبٌ بضعفه ليُقويه وهذا في الماضي فماذا الآن! ذاهبٌ ليستنير بنور الصلاة كما نوره بذلك قول النبيﷺ«والصلاةُ نور» وسكت! أي إنها نورٌ لكل شئ فإن شئت ليستنير قلبُك أو بصيرتك في الدنيا أو علي الصِراط ، ذاهبٌ بفقره ليُغنيه وعيْنه ليست علي المال؛إنما علي النفس، فبعد هذا العمر الطويل أيقن أن الغني الحقيقي هو غني النفس مُتعلِمًا من قول النبيﷺ وموقِنًا به« ليس الغِنى عن كثرة العرَض(المال)، ولكن الغِنى غِنى النفس»
ذاهبٌ ومُتذكِرٌ ليرجوا أن يوافق تكبيراته تكبيرة الملائكة ليُغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما بشرنا النبي ﷺ من «إذا أَمَّنَ الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة: غفر له ما تقدم من ذنبه»
فهو في ذمة الله؟
ليصل إلى المسجد بسكينةٍ تتغشاه ، فلا ينسى وقت دخوله المسجد أن يصلي على رسول اللَّه ﷺ ويرجو أن يفتح الله له من أبواب رحمته، ثم يشرع في الفوز بأفضل ما في الدنيا وما فيها بركعتي الفجر مستحضراً قول النبي ﷺ«رَكْعتا الفجْرِ خيْرٌ مِنَ الدُّنيا ومَا فِيها». وعند الفراغ من الركعتين يستكمل دعاءه الذي بدأه قبل أذان الفجر؛ممتثلاً لأمر النبي ﷺ«إن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة فادعوا». ثم يقام للصلاة ويستعد الشيخ ليكون في ذمة الله وحمايته وحفظه؛ لعلمه بضعفه ولأنه لا يملك أي شيء إلا هاتين الركعتين التي يصبح بهما في أمان الله، كما قال النبيﷺ «مَن صَلَّى الصُّبحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ»، وبعد الانتهاء من صلاة الصبح يصحبُنا الشيخ في رحلةٍ جديدة، وهي رحلة الحج والعمرة، وهو جالس في مكانه.
رحلة الحج والعمرة
ثم يبدأ بعد صلاة الفجر مباشرة في الذهاب إلى رحلة الحج والعمرة، وهو جالس في مكانه يذكر الله؛ مستحضرًا قول النبي ﷺ«من صلى الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة». وبعد الانتهاء من أذكار الصلاة يبدأ في أذكار الصباح، وهو يعلم مدى قوتها في حفظه، فلطالما كانت درعه في الحياة عندما كان صغيرًا؛ فكيف إذا صار كبيرًا ضعيفًا؟ إنه في قمة الاحتياج إليها، وتشرق الشمس ويحين وقت صلاة الضحى، فيصلي الشيخ صلاة الأوابين؛ عملًا بقول النبي ﷺ«صَلاةُ الأَوَّابِينَ إِذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ»، ويتصدق على جميع عظامه؛ لِيتم الحجة والعمرة، قال النبي ﷺ «يُصْبِحُ علَى كُلِّ سُلَامَى مِن أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ….وَيُجْزِئُ مِن ذلكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُما مِنَ الضُّحَى»ثم يخرج من المسجد بدعاء النبي ﷺ«اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم اعصمني من الشَّيطان الرَّجيم».
يوم روتيني
ثم يستكمل الشيخ يومه في الأعمال الروتينية، لكن بنيات صالحة؛ فالعادات بالنيات تتحول إلى عبادات، واقتداءً بسنة ﷺ في الانتقال بين أعمال الخير من صلةٍ للأرحام وإدخال للسرور على أهل بيته، حتى ينتقل إلى سريره مستعدًّا للنوم.
إلي نهاية اليوم، إلى النوم بلا ضمانات
وقبل أن يخلد إلى فراشه يرغب في أن ينهي يومه بصلاة الوتر؛ عملًا بوصية صاحب رسول الله ﷺ أبي هريرة: «أوصاني خليلي بثلاث… ومنها أن أُوتر قبل أن أنام». ثم يتوجه إلى النوم بترديد الأذكار؛ لأنه لا يملك أي ضمانات، هل سيستيقظ ثانيةً ليعيش يومًا ثانيًا متلذذًا بعبادة ربه وذكره، أم على جنة أو علي نار؟ ليس هناك أي ضمانات ويكون رجاؤه الأخير بربه أن يختم حياته بأذكار النوم؛ فيبدأ بآية الكرسي؛ لئلا يقربه شيطان في ليلته هذه، ثم يتلو خواتيم سورة البقرة؛ ليكفيه الله كل شيء مستحضراً قول النبي ﷺ«مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» فيُرزق طمأنينة القلب وأيضًا حمدًا لله على نعمه، مستشعراً كلماتٍ تُكتبُ بماء الذهب كان يتلفظ بها النبي ﷺقبل نومه«الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافيَ له ولامُؤوي». ثم دعا ربه بدُعاء نومٍ آخر«باسمك ربي وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصَّالحين». ويزداد تأمله في ذلك الدعاء كلما ازداد عمره، وهنا يكون الختام كختام نبيه وحبيبه ﷺ«اللهم أسلمتُ نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت»؛ ومستبشرًا بقول النبي ﷺ أن من قال هذا الدعاء مات على الفطرة، وأوصانا بأن يكون هذا الدعاء آخر كلمات نقولها قبل النوم.
هل تريد أن تعرف الآن من هو هذا الشيخ؟
حسنًا.. هو أنت يا من تقرأ هذه القصة، سواء كنت في مُقتبلِ عُمرك أم بلغ منك الكبر مبلغًا ، فما أجمل أن تُعاش الحياة كيوم شيخ! فلا يصيبكم الهم خوفًا من كبر السن؛ لأنكم تعلمون الآن ما الذي ينتظركم، وما الذي يصاحب كبر السن هذا. وإن كنت صبيًّا، فلتستمتع بالقصة، أيُها الصبيّ!
لا حزن بعد الآن!
نعم؛ لا حزن بعد تعرفك على قصة ذلك الشيخ، لا حزن بعد الآن علي الأعمار التي تنقضي، لا تخشى كبر السن بعد الآن؛ ما دامت تلك السنوات تُعمرها بذكر الله، فأنت الآن تريد الحصول علي أكبر قدرٍ من السنوات؛ ليزداد عداد حسناتك، وترفع درجاتك. فلا تُحدثني الآن عن أي فشلٍ في حياة ذلك المُسنّ، أو خسارةْ في أي مجال من مجالات الحياة من مال أو تجارة أو زوجة أو أولاد؛ ولكن حدثني عن عدد السنوات التي قضاها في عبادة ربه؛ متلذذاً بذكره.. ولكن حدثني عن عدد التسبيحات التي بنى بها نخلًا في الجنة، وعن النوافل التي بنى بها بيوتًا في الجنة، وعن عدد "لا حول ولا قوة إلا بالله" التي فاز بترديدها بكنوزٍ في الجنة، وعن عدد الآيات التي قرأها في كتاب ربه؛ فزاد عداد حسناته؛ بل حدثني عن شهر رمضان المبارك، وكم شهر صامه إيمانًا واحتسابًا، وكم ختمةٍ ختمها من كتاب الله، وعن ليالي القدر التي قامها، وحدثني عن عدد أيام عرفة التي صامها، وعن شعائر الحج والعمرة التي أداها، وعن عدد الصلوات والتسليمات على المصطفي ﷺ، وعن عدد الركعات التي ركعها لله .. وحدثني عن الصدقات التي تصدق بها وعن الأخرى التي تبسم بها، وعن وعن وعن وعن… لن ننتهي؛ فليس كبر السن وانتهاء العمر هو الذي يصيبنا بالهم والغم، بل نظرتنا لذلك السن ولتلك الحياة؛ فإن كنت تريد أن تتغير نظرتك، فما زالت الفرصة سانحة؛ فاقتنصها! تعرف على ربك، وعلى سنه نبيك. وصفوة القول قول المصطفى ﷺ "خير الناس من طال عمره وحسن عمله"".
الآن… هل تريد أن تكون من خير الناس أم لا؟ ...المزيد
المُسن الشاب! لطالما سمعنا أن المرء عندما يبلغ سن ...
المُسن الشاب!
لطالما سمعنا أن المرء عندما يبلغ سن الشيخوخة يصيبه الوهن وتضعف ذاكرته، هذه سنة الحياة، لا اختلاف عليها؛ فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز " ...المزيد
لطالما سمعنا أن المرء عندما يبلغ سن الشيخوخة يصيبه الوهن وتضعف ذاكرته، هذه سنة الحياة، لا اختلاف عليها؛ فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز " ...المزيد