خطر الفتوى الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ...

خطر الفتوى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..

فإن الفتوى في الإسلام لها أهمية عظيمة لأنها إخبار عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الله أو رسوله أحلَّ كذا، أو حرَّم كذا، ولأن القول على الله بغير علم من الكذب على اللهچ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف:23].

وقد عرف العلماء الفتوى بأنها بيان الحكم الشرعي من غير إلزام، فالمفتي يترك العمل بالفتوى، أو عدم العمل بها لما يكون من ورع المستفتي وتقواه فلا يُسْأَلُ عن ذلك، «والفتوى مكانها عند الله عظيم، تولاها الله بنفسه في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النساء: 176]. وقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127].

وتولاها الرسول صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون يسألونه صلى الله عليه وسلم ويفتيهم ثم بعد ذلك تولاها العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عمر بن الخطاب إذا عرضت مشكلة، جمع لها المهاجرون والأنصار يستشيرهم فيها، فبعد الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أهل العلم الصحيح وليس العلم المزيف أو العلم المدعى أو التسمي بالعلم، أو الثقافة كما يسمونها أو المفكر الإسلامي فلان، أو من كان حاصلًا على شهادة دراسية، ليس هذا من أهل الفتوى. فالذي يتولَّى الفتوى ويصدرها هو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المطلع على أقوال العلماء ليختار منها ما قام عليه الدليل، ولا يفتي إلا عند الحاجة قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [النحل:43]. وأهل الذكر هم العلماء، والذكر هو الوحي» (¬1).

أما الفتوى فإن خطرها عظيم، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون} [النحل:116].

قال الشافعي: «ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم ما نص في الكتاب، أو في السنة، أو في الإجماع، أو القياس على هذه الأصول، وما في معناها، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُون * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُون} [يونس:59 - 60]» (¬2).

قال ابن كثير: «وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم، بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها، ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة» (¬3). وفي هذا العصر تساهل الناس في تلقي الفتوى، فصار لكل قناة من القنوات الإذاعية مفت أو أكثر، والقنوات الفضائية صار لها مفت أو أكثر، وكذلك الجرائد والمجلات التي تنشر الفسق، والفجور لها مفت، والذين يفتون المثقفون، والأطباء، والصحفيون، والمهندسون .. وغيرهم من الجهال (¬4). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (¬5).

ولذلك كان السلف يكرهون الجرأة على الفتيا والحرص عليها والمسارعة إليها، والإكثار منها، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ أحدهم عن المسألة، ما منهم من أحد إلا ودَّ أن أخاه كفاه. وفي رواية: فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول» (¬6).

قال الإمام أحمد: «من عرض نفسه للفتيا، فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد تلجئ إليها الضرورة، قيل له: فأيما أفضل الكلام أو السكوت؟ قال: الإمساك أحبُّ إليَّ، قيل له: فإذا كانت ضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة الضرورة، وقال: الإمساك أسلم له.

وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره، ونهيه، وأنه موقوف، ومسؤول عن ذلك، وكان الإمام مالك إذا سُئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، «وجاءه رجل مسافر فسأله عن أربعين مسألة، فأجابه عن خمس مسائل، وقال عن البقية: (لا أدري)، فقال الرجل: جئتك من كذا وكذا، وتقول: (لا أدري)، قال: نعم، اركب راحلتك، وقل للناس: سألت مالكًا؟ وقال: (لا أدري)» (¬7). وَقَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ لِبَعضِ المُفتِينَ: «إِذَا سُئِلتَ عَن مَسأَلَةٍ، فَلَا يَكُنْ هَمُّكَ تَخلِيصَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ تَخلِيصَ نَفسِكَ أَوَّلًا» (¬8).

ومن الأسباب التي أدت إلى التساهل في الفتوى:

أولًا: حب الظهور وبريق الشهرة، فصاحب الفتاوى المتساهلة تزداد شعبيته، وتكثر جماهيره، ويُثنى عليه بأنه معتدل، وأنه يمثل المنهج الوسطي ... وغير ذلك من العبارات البراقة، بينما صاحب الورع والفتوى المستندة إلى الأدلة الشرعية يوصف بأنه متشدد، وأنه لا يعرف إلا لغة التحريم، وأنه يشق على الناس ويثقل عليهم.

ثانيًا: الجهل وعدم دراسة الأحكام الشرعية دراسة منهجية مؤصلة: وإنما الاعتماد على الثقافة العامة، والدراسة السطحية للمسائل.

ثالثًا: عدم استشعار مسؤولية الفتوى وما يترتب عليها، فيسأل بعضهم عن مسألة معينة، ويشاهده الملايين من البشر، ومع ذلك يجيب مباشرة ولو عرضت مسألته على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.

رابعًا: العجلة وعدم التأني والنظر والتأمل، فبعض المفتين في القنوات الفضائية يُسأَلُ عن أربع، أو خمس مسائل دفعة واحدة، ثم يجيب إجابة سريعة، «ويذكرون عن الشيخ محمد بن إبراهيم أنه كان لا يفتي وهو واقف إلا ما ندر، ولا يفتي وهو في السيارة، وإنما كان إذا أراد أن يفتي تربع واستحضر ذهنه واستجمع فتواه، وطلب من السائل أن يُلقي عليه المسألة، فعند ذلك يفتي، وكان المشايخ يروون عنه أنه ربما أَخَّرَ الفتوى شهرًا إذا كان لها صلة بأمر عظيم حتى ينظر فيها، ويستخير» (¬9).

خامسًا: إرضاء الكفار، والظلمة، وأهل الفسق والفجور، وذلك لأجل الحصول على شيء من متاع الدنيا وحطامها الفاني، إما منصب، أو مال، أو غير ذلك، وهذا حال علماء السوء، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِين} [التوبة:62].

ومن صور التساهل في الفتوى: أن بعضهم يرى إباحة الربا المنتشر لدى البنوك اليوم بكل صوره وأشكاله، وآخر يرى جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وثالث يرى أنه لا ينبغي إقامة حد الردة على المرتد في هذا الوقت لعدم مناسبته، ورابع يرى إباحة الغناء والمعازف، وخامس يرى جواز إرضاع الكبير بدون ضوابط، وسادس يرى جواز نكاح المرأة نفسها بدون ولي ولا شهود وذلك وسيلة إلى انتشار الزنا، بل وصل الأمر بأحدهم إلى أن قال: ما المانع أن يُبنَى كنيسة، ومعبد، ومسجد في مكان واحد، وكل يعبد ربه بطريقته الخاصة؟! وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» (¬10).

الخلاصة: أن المؤمن يجب عليه أن يحتاط لدينه، فإذا أُشْكِلَ عليه شيء سأل العالم الذي يثق به في دينه، ولا يسأل من هب ودب ممن لا تبرأ الذمة بسؤالهم، فإن الأمر دين، وكما قال محمد بن سيرين: إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (¬11).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) آداب المفتي والمستفتي، للشيخ صالح الفوزان (ص12 - 13)، أعدها للنشر: فهد ابن إبراهيم الفعيم.

(¬2) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 59).

(¬3) تفسير ابن كثير (7/ 373).

(¬4) الفتوى بين مطابقة الشرع، ومسايرة الأهواء، للشيخ صالح آل الشيخ ص9.

(¬5) صحيح البخاري برقم 100، وصحيح مسلم برقم 2673.

(¬6) سنن الدارمي (1/ 53)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 163).

(¬7) سير أعلام النبلاء (8/ 77).

(¬8) ذم المال والجاه، للحافظ ابن رجب الحنبلي ص38.

(¬9) الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء، للشيخ صالح آل الشيخ ص11.

(¬10) سنن الترمذي برقم 2229، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1582.

(¬11) مقدمة صحيح مسلم ص24.
...المزيد

مكائد الشيطان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ...

مكائد الشيطان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

«فإن الله سبحانه وتعالى ابتلى الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين، وصاحب لا ينام ولا يغفل عنه، يراه هو وقبيله من حيث لا يراه، يبذل جهده في معاداته في كل حال، ولا يدع أمراً يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله إليه، ذلكم الشيطان الذي أخبرنا الله بعداوته لنا، وأكثر في كتابه من ذكر خدعه ومكائده وخطواته التي يستدرج بها الناس للخروج عن الصراط المستقيم وكرر قصته مع أبينا آدم عليه السلام لتكون نصب أعيننا دائماً» (¬1). قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير (6)} [فاطر: 6]. وقال تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين (17)} [الأعراف: 17]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين (208)} [البقرة: 208].

قال البغوي رحمه الله: «أي: لا تسلكوا الطُّرُقَ التي يدعوكم إليها الشيطان، فإنه يُورِدُكُم موارِدَ العَطَبِ» (¬2).

ومن شره أنه يوسوس للعبد، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (2) إِلَهِ النَّاس (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس (5)} [الناس: 1 - 5]. فذكر وسوسته أولاً ثم ذكر محلها ثانياً وأنها في صدور الناس.

والوسوسة أظهر صفات الشيطان، وأشدها شراً، وأقواها تأثيراً، وهي أصل كل معصية وبلاء، روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً (¬3) أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» (¬4).

ولهذا يعرض للناس في صلاتهم ليفسد عليهم عبادتهم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّاذِينَ فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟» (¬5).

ومن شرِّهِ الإفساد بين المؤمنين بكل طريقة وحيلة، فقد نزغ بين يوسف عليه السلام وإخوته، قال تعالى ذاكراً اعتراف نبي الله يوسف بما مَنَّ الله عليه: {وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَاوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (100)} [يوسف: 100].

روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (¬6). قال النووي: وهذا الحديث من معجزات النبوة، ومعناه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتنة ونحوها (¬7).

روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ» (¬8).

والتحصن من الشيطان له طرق منها:

أولاً: الإخلاص: لما علم إبليس أنه لا سبيل على أهل الإخلاص استثناهم من شرطته التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين (83)} [ص: 82 - 83]. وقال تعالى في حق الصِّدِّيق يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين} [يوسف: 24]. فالإخلاص هو سبيل الخلاص من الشيطان، وأهل الإخلاص أعمالهم كلها لله وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم لله وبغضهم لله.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فالله تعالى يبتلي عبده المؤمن ليطهره من الذنوب والمعايب، ومن رحمته بعبده المخلص أن يصرف عنه ما يغار عليه منه، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين} (¬9). «فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا» (¬10)، «فلما أخلص يوسف عليه السلام لربه، صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، فالإخلاص هو سبيل الخلاص» (¬11).

ثانياً: قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، روى أبو داود في سننه من حديث أبي قتادة رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم مَرَّ عَلى ِأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وَهُمَا يُصَلِّيَانِ اللَّيلَ .. وجاء في آخر الحديث: أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ النَّبِيُ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ سَبَبِ رَفعِ صَوتِهِ بِالقُرْآنِ، فَقَالَ: أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ (¬12).

ثالثاً: قراءة سورة البقرة: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (¬13).

رابعاً: قراءة آية الكرسي عند النوم: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قصة قبضه على الشيطان .. وفي آخر الحديث علَّمه أن يقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فلما أخبر أبو هريرة النبي صلى اللهُ عليه وسلم بذلك قال: «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ» (¬14).

خامساً: قراءة المعوذتين: روى أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أمره بقراءة المعوذتين وقال له: «يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا» (¬15).

ومن المواضع التي ثبت في السنة أنها تُقرأ فيها: حين يصبح المؤمن، وحين يُمسي، وعند النوم، وأدبار الصلوات، والرقية بهما على المسحورين، والمرضى وغير ذلك.

سادساً: التهليل مائة مرة: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ» (¬16).

سابعاً: التسمية عند الخروج من البيت، وعند الجماع، وعند الدخول إلى الخلاء، وعند الطعام: روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» (¬17) (¬18).

ثامناً: وهو من أهمها معرفة تفاصيل عداوته وطرق خداعه التي جاء بيانها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم والاستعانة في ذلك بكتب أهل العلم الشارحة لهذه الأمور، ومنها: كتاب ابن القيم إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، وكتاب ابن الجوزي المسمى تلبيس ابليس .. وغيرها.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) الداء والدواء لابن القيم (148 - 149) بتصرف.

(¬2) شرح السنة للبغوي رحمه الله (14/ 404).

(¬3) حُممه: أي فحماً.

(¬4) برقم 5112 وصححه الألباني في سنن أبي داود (3/ 962) برقم 4264.

(¬5) برقم 608 وصحيح مسلم برقم 389.

(¬6) برقم 2812.

(¬7) صحيح مسلم بشرح النووي (60/ 156).

(¬8) برقم 2813.

(¬9) الاستقانة لابن تيمية ج2 ص59.

(¬10) إغاثة اللهفان ج2 ص141.

(¬11) مفتاح دار السعادة (1/ 75).

(¬12) برقم 1329 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 246 - 247) برقم 1180.

(¬13) برقم 780.

(¬14) برقم 2311.

(¬15) برقم 1463 وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (1/ 275) برقم 1299.

(¬16) برقم 3293 وصحيح مسلم برقم 2691.

(¬17) برقم 2018.

(¬18) انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي الحصن الحصين من الشيطان الرجيم.
...المزيد

الحياء الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله ...

الحياء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:

فإِنّ من الصفات الحميدة والأخلاق الجميلة التي دعا إليها الشارع: صفة الحياء.

قال تعالى عن موسى عليه السلام عندما سقى للمرأتين: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] الآية.

روى الإمام أحمد في كتابه الزهد، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -: أن رجلاً قال: يا رسول الله: أوصني، قال: «أُوصِيكَ أَن تَستَحِي مِنَ اللهِ كَمَا تَستَحِي رَجُلاً مِن صَالِحِي قَومِكَ» (¬1).

وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (¬2). وهذا الحديث فيه دليل على أن الحياء مانع للإِنسان من ارتكاب ما يضره في دينه، أو يخل بأدبه ومروءته، فإِذا فقدت منه هذه الخصلة لم يبال بما صنع.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» (¬3).

وكانت العرب في الجاهلية تتحلى بصفة الحياء، فهذا أبو سفيان قبل إسلامه عندما وقف أمام هرقل ملك الروم ليسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر عن نفسه قائلاً: لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عليه.

قال ابن القيم رحمه الله: وخلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، وهو خاصة الإِنسانية؛ فمن لا حياء فيه ليس معه من الإِنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخلق - أي الحياء- لم يكرم ضيف، ولم يوف بالوعد، ولم تؤد أمانه، ولم تقض لأَحدٍ حاجة؛ ولا تحرى الرجل الجميل ففعله والقبيح فتجنبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع عن فاحشة؛ ... فإن الباعث على هذه الأفعال إما ديني، وهو رجاء عاقبتها الحميدة، وإما دنيوي وهو ... حياء فاعلها من الخلق؛ فقد تبيّن أنه لولا الحياء إما من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبها ... إلى آخر ما قال» (¬4).

وقال عمر - رضي الله عنه -: مَن قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَن قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلبُهُ (¬5).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ» (¬6).

قال الشاعر:

إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ

فَلاَ وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيرٌ ... وَلاَ الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيرٍ ... وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

قال ابن القيم رحمه الله: ومن عقوبات المعاصي ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب الخير أجمعه، فقد جاء في الحديث الصحيح: «الْحَيَاءُ لاَ يَاتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» (¬7) والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم؛ بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعل، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه مطمع، ومن استحيا من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من معصيته لم يستح الله من عقوبته. اهـ (¬8).

روى ابن حبان في صحيحه من حديث أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا كَرِهَ اللهُ مِنْكَ شَيْئًا فَلاَ تَفعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ» (¬9).

قال القحطاني رحمه الله:

وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ ... وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَان

فَاسْتَحِي مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَهَا ... إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلاَمَ يَرَانِي

ومثاله: ما يقوم به بعض الذين يسافرون إلى الخارج لقضاء الشهوات والملذات، ثم يخبر أحدهم بجريمته التي فعل من شرب خمر أو فاحشة؛ أو غير ذلك من المعاصي، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» (¬10).

وهؤلاء لهم نصيب من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور:19].

وهنا أمر ينبغي التنبه له، وهو أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من الحياء، قال تعالى: {وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ} [الأحزاب: 53].

قال الإِمام النووي: قد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يُجله، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإِخلال ببعض الحقوق، والجواب عن هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة منهم: أبو عمرو بن الصلاح، أن هذا المانع ليس من الحياء؛ بل هو عجز وخور ومهانة، فالحياء الحقيقي خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. اهـ (¬11).

وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على إنكار المنكر وأمر بتغييره، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬12).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) الزهد للإمام أحمد (ص46)، والشعب للبيهقي (6/ 145 - 146) برقم (7738)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 376) برقم (741).

(¬2) صحيح البخاري برقم (6120).

(¬3) صحيح البخاري برقم (9)، وصحيح مسلم برقم (35).

(¬4) مختصر من كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص277) نقلاً عن كتاب نضرة النعيم (5/ 1802).

(¬5) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (ص82 - 83) برقم (93).

(¬6) صحيح البخاري برقم (24)، وصحيح مسلم برقم (36).

(¬7) صحيح البخاري برقم (6117)، وصحيح مسلم برقم (37).

(¬8) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (61 - 62).

(¬9) صحيح ابن حبان (3 - 4)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح موارد الظمآن برقم (2116).

(¬10) صحيح البخاري برقم (6069)، وصحيح مسلم برقم (2990).

(¬11) شرح صحيح مسلم (1/ 5 - 6).

(¬12) صحيح مسلم برقم (49).
...المزيد

شاب نشأ في عبادة الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن ...

شاب نشأ في عبادة الله

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (¬1).

يجمع الله الخلائق يوم القيامة، الأولين منهم والآخرين {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى} [النجم: 31]؛ في يوم طويل قدره، عظيم هوله، شديد كربه، حذَّر الله منه عباده وأمرهم بالاستعداد له.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].

وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17].

روى مسلم في صحيحه من حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ؛ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا» (¬2).

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» (¬3).

ولا يتسع الوقت للحديث عن السبعة، ولكن نقف وقفات يسيرة مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «شَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ».

فهذا الشاب وفقه الله منذ نشأ للأعمال الصالحة، وحببها إليه وكره إليه الأعمال السيئة وأعانه على تركها، إما بسبب تربية صالحة، أو رفقة طيبة، أو غير ذلك؛ وقد حفظه الله مما نشأ عليه كثير من الشباب من اللهو واللعب، وإضاعة الصلوات والانهماك في الشهوات والملذات، وقد أثنى الله على هذا النشء المبارك بقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

ولما كان الشباب داعيًا قويًا للشهوات، كان من أعجب الأمور الشاب الذي يلزم نفسه بالطاعة والاجتهاد فيها، واستحق بذلك أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله.

لقد علم أنه مسئول عن شبابه فيما أبلاه؛ فعمل بوصية نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها، حيث قال: «اغتَنِمْ خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ» (¬4).

روى الترمذي في سننه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟» (¬5).

والشباب هم عماد الأمة، وهم جيل المستقبل؛ منهم يتكون بناء الأمة، ومنهم ينشأ العلماء والمصلحون والمجاهدون وغيرهم من أبناء المجتمع، الذين إذا صلحوا انتفعت بهم مجتمعاتهم في الدُّنيا والآخرة.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬6).

ومن الأمثلة على الشباب الملتزم بطاعة ربه شباب الصحابة، أمثال أسامة بن زيد الذي أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيادة جيش المسلمين المتجه إلى الشام، وعمره لم يتجاوز السابعة عشر، وفي القوم كبار الصحابة، حتى أن أبا بكر كان يستأذن أسامة بن زيد أن يُبقي عمر عنده في المدينة فيأذن أسامة في ذلك، وعلي بن أبي طالب الذي بات في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما هاجر إلى المدينة وعرَّض نفسه للقتل، فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعفر بن أبي طالب الذي كان قائدًا لجيش المسلمين في معركة مؤتة الشهيرة خلفًا للقائد زيد بن حارثةگ الذي قُتِلَ في تلك المعركة، فحمل راية المسلمين وأخذ سيفه وهو يقول:

يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا ... طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا

وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ... عَلَيَّ إِنْ لاَقَيْتُهَا ضِرَابُهَا

فقطعوا يده اليمنى، فأَمسك الراية بيده اليسرى، فقطعوا يده اليسرى، فضم الراية إلى صدره، فتكاثروا عليه فقتلوه.

يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: الْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي الْقَتْلَى، فَإِذَا هُوَ قَد ضُرِبَ بِضْعًا وَتِسْعِينَ ضَرْبَةً مَا بَينَ ضَربَةٍ بِسَيفٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمحٍ (¬7).

قال تعالى: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].

ومن الأمثلة كذلك: محمد بن القاسم الذي فتح بلاد السند والهند وعمره لم يتجاوز السابعة عشر، كما تروي لنا كتب السير، قال الشاعر:

عُبَّادُ لَيْلٍ إِذَا جَنَّ الظَّلاَمُ بِهِم ... كَمْ عَابِدٍ دَمْعُهُ فِي الْخَدِّ أَجْرَاهُ

وأُسْدُ غَابٍ إِذَا نَادَى الْجِهَادُ بِهِم ... هَبُّوا إِلَى المَوْتِ يَسْتَجْدُونَ رُؤْيَاهُ

يَا رَبِّ فَابْعَثْ لَنَا مِن مِثْلِهِمْ نَفَرًا ... يُشِيِّدُونَ لَنَا مَجْدًا أَضَعْنَاهُ

ومن الأمثلة المعاصرة: الشباب الذين يملؤون المساجد، والمدارس، والجامعات، يطلبون العلم الشرعي، ويدعون إلى دين الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويلتحقون بحلقات تحفيظ القرآن الكريم.

وهذا شيء يثلج الصدر، وأمتنا لا يزال فيها الخير إلى يوم القيامة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) صحيح البخاري برقم (1423)، وصحيح مسلم برقم (1031).

(¬2) صحيح مسلم برقم (2864).

(¬3) صحيح البخاري برقم (6532)، وصحيح مسلم برقم (2863).

(¬4) مستدرك الحاكم (5/ 435) برقم (7916)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1077).

(¬5) سنن الترمذي برقم (2416)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (946).

(¬6) صحيح مسلم برقم (1631).

(¬7) صحيح البخاري برقم (4261).
...المزيد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اولاً اود ان اقول بأنني عضوة جديدة...... ثانياً عندي سؤال هل القرين ...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اولاً اود ان اقول بأنني عضوة جديدة...... ثانياً عندي سؤال هل القرين يستطيع ان يتسلط على الانسان بحيث يكون طالب الجن اي يفعل كما يفعل الجن مع الممسوس،ام ان القرين عمله ينحصر فقط في الوسوسة هل بإمكانه ان يصرع الانسان و يتكلم على لسانه...... وجزاكم الله خيراً ...المزيد

علاج الأمراض الروحية بالرقية الشرعية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف يمكنني معالجة الأمراض الروحية بالرقية الشرعية؟

إن كلمة الأمراض الروحية في الواقع هي عبارة عن كلمة تداولها بعض الذين لا يعرفون النصوص الشرعية، فنحن وممَّا لا شك فيه وإن كان لها قدر من الصحة، إلَّا أنها لا تُسمى بأمراضٍ روحية بالمعنى، فهذه الأمراض الروحية كالمشروبات الروحية التي يُطلقها بعض الذين لا يعرفون نصوص الشريعة، ولكن نحن نعرف أن الإنسان ... أكمل القراءة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً