ولاية المُـتغلب - ولاية المتغلب (9): ملخص شروط وموانع طاعة المتغلب
مما سبق جميعُه، ومن خلال ما تم تفصيله في المقالات السابقة، رأيتُ أن ألخِّص هذه الشروط في مقال واحد، للتذكير وجمع صورة الموضوع بعد تشعبه، فيمكن أن نستخلص صفاتٍ للمتغلب وشروطًا للصبر عليه، مراعاة لنصوص الشرع ولقواعد المصالح والمفاسد المعتبرة شرعًا، مع التنبيه على أنَّ أول مصلحة هي موافقة الشرع ذاته، وأول مفسدة هي مخالفة الشرع ذاته.
ملخص شروط الصبر على المتغلب:
مما سبق جميعُه، ومن خلال ما تم تفصيله في المقالات السابقة، رأيتُ أن ألخِّص هذه الشروط في مقال واحد، للتذكير وجمع صورة الموضوع بعد تشعبه، فيمكن أن نستخلص صفاتٍ للمتغلب وشروطًا للصبر عليه، مراعاة لنصوص الشرع ولقواعد المصالح والمفاسد المعتبرة شرعًا، مع التنبيه على أنَّ أول مصلحة هي موافقة الشرع ذاته، وأول مفسدة هي مخالفة الشرع ذاته.
وهذه الشروط يمكن إجمالها في أربعة كُبرى، وهي:
1- ألا ينقلب هو أو يتغلَّب على حاكم شرعي حيٍّ، لا انقلاب أبيض ولا أحمر، فإن فعل ذلك فحكمه أن يُقاتَل ولو اقتضى قَتلَه، لحديث «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخِر منهما»(مسلم، صحيح مسلم، برقم:[1853])، والمُفَرِّق لجماعة المسلمين بعد اجتماعها: «من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يَشُقَّ عصاكم، ويفرِّق جماعتكم، فاقتلوه»(مسلم؛ صحيح مسلم برقم:[1852]) وفي رواية: «فاضربوه بالسيف كائناً من كان»، وفي حديث آخر:«من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»(مسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[1488])، ولحديث:«إنَّا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه»(متفق عليه)، وهذا للطامع المطالب، فكيف بالطاغي المغالب؟! وحديث: «من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا»(مسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[101])، وقد نقلنا في أصل هذا البحث أقوال العلماء القدماء.
فكيف نترك هذا الكم المبارك الصحيح الصريح من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في رفض ولاية المتغلب والمنقلب، ونذهب نبحث في ركام التاريخ ومتشابه الفقه، عن تسويق لها وتسويقٍ لنروِّض الأمة له؟!
ولأن المسارعة في شرعنة طاعة المتغلب تُورِث تَسَلْسُلَ المتغلبين وإغراءَهم بالتغلب والانقلاب، لطمعهم في تسليم الأمة لهم وطاعتهم، وأمنهم جانب الخروج عليهم ومنازعتهم ومنازلتهم، فتظل الأمة تعيش أحداث المتغلبين القاهرين، أما منازعتهم والأخذ على أيديهم فإنه يقطع الطمع أمامهم فلا يفكرون فيه، فتستقر الأمور وتُؤْمَن الشرور والفجور. كما في علة الحدود الشرعية تمامًا، ليكونوا عبرة لغيرهم، والحدُّ حدٌّ لذلك. وكما قال إبراهيم النخعي: "لأن في عدم الانتصار إغراء المتغلب على الظلم"، وإغراء الظلمة بالاقتداء به في تَغَلُّبِهِ وانقلابه. وقد ذكرت أدلته وأقوال العلماء من سلف هذه الأمة في المقالاتالثلاث: هـــــــــــــنا و هــــــــــنا و هــــــــنا
ولا يكفي هذا الشرط وحده، بل يستلزم كلَّ ما يأتي، ولا يُغني عن شيء منها أو بدونها.
2- أن يتغلب فِعْلاً، ويغلب الجميعَ، ويستقر له الأمر، ويستتب له الأمن، وتسكن له العامَّة والدهماء، وتأمن به الطرقات، وتُصان به الحرمات، وإلا لم يعد متغلبًا، بل يكون موقظًا فتنة كانت نائمة، ومقيمًا حربًا على شعب أعزل، حاملا لسلاح الأمة على أُمَّةٍ آمنة! لأن العلة للدخول في طاعته ألا نقوض الأمن وقد ساد، وألا نثير الخوف وقد باد، أما والأمير غير متحكِّم، والأمر غير مستقر، والأمن غير مبسوط، والطرق غير آمنة، فما علة الدخول تحت طاعته؟! وقد نقلنا في أصل هذا البحث أقوال العلماء القدماء.
وهذا التغلب ليس فيه دليل خاص، أعني طاعة الباغي المتغلب، بل الدليل على خلافه كما سبق، وإنما مراعاة لمقصد الشريعة في ارتكاب أخف الضررين وأقل المفسدتين، وتفويت أكبرهما، يُصبر على فعله وإن كان هو آثم بفعله هذا. وقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أئمة الشرك والكفر في مكة ولم يخرج عليهم بسلاح، لا ولاءً لهم وطاعة، ولكن لأن مفسدة الخروج أكبر من مفسدة الصبر حتى يفتح الله. ولا تلازم بين تكفيره لهم وخروجه عليهم، فقد تخرج ولم يكفر، وقد يكفر ولا تخرج. وقد فصَّلت القول فيه في المقال هـــــــــــــنا.
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الظلم والجور بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة كانوا فجاروا وظلموا، أي طرأ عليهم الظلم بعد التولية، والقاعدة أنه: يُغتفر في الاستدامة ما لا يُغتفر في الاستئناف، أما تولية الفاسق ابتداءً فمحرمة إجماعًا.
((ولا يكفي هذا الشرط وحده، بل يستلزم ما سبق وما سيأتي)).
3- أن يقيم الدِّين في الدولة، ويسوسها به، ويقود الأمة بكتاب الله تعالى، ويحكمها بشريعته، لحديث: «إن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا»(مسلم؛ صحيح مسلم، رقم:[1838]). وفي ألفاظه الأخرى الصحيحة كلها: «ما قادكم بكتاب الله»، «ما أقام لكم كتاب الله». والفاء في «فاسمعوا له وأطيعوا» تعليلية، فتفيد أن ما قبلها علةٌ لما بعدها، يعني أن إقامة الكتاب والقيادة به، وتحكيمه علة للسمع الطاعة، فإذا زالت العلة زال المعلول، والقاعدة أن "الحكم يدور مع علته، وجودًا وعدمًا"، وكذلكم حديث: «إنّ هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحدٌ إلا كبَّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين»(البخاري؛ صحيح البخاري، برقم:[3500])، وإلا وجب عزله والخروج عليه عند تحقق القدرة ولو كان مبايَعا أصلا، فضلا عن أن يكون لصًّا متغلبًا. وقبل ذلك الآية سورة، وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء:59].
قال مصطفى ديب البغا في تعليقه على صحيح البخاري: "«ما أقاموا الدين»: أي تجب طاعتهم وعدم منازعتهم طالما أنهم يقيمون شرع الله عز وجل، ويلتزمون حدوده؛ فإن قصروا في ذلك أو تجاوزوه جازت منازعتهم وسقطت طاعتهم"[3 /1289]، شرح حديث رقم:[3309]). وقد نقلنا في أصل هذا البحث أقوال العلماء القدماء.
وقد فصَّلنا القول فيها وأقوال العلماء في المقال: هـــــنا، وهذا: هـــــــنا.
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الظلم والجور والفسوق بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة لم يصل ظلمهم وفسقهم إلى ترك العمل بكتاب الله في الأمة وتعطيل شريعته في حياتها، واستبدالها بقوانين الكفر، حتى ولو قيل بأن فاعلها ليس كافرًا!
((ولا يكفي هذا الشرط وحده، وإن كان على رأس ما سبق)).
الجنكزخــان
4- أن يكون مسلمًا، وبإجماع جميع المسلمين على هذا الشرط، وهذا في المبايَع فضًلا عن المتغلب أو المنقلب! لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النساء:141]، وأي سبيل أكبر من أن يُحَكِّموهم في دينهم ودنياهم؟ ونواقض الإسلام عديدة ومَظاهر الشرك الأكبر كثيرة، ولكن يتعلق بأولياء أمر السياسة هو الحكم بشريعة الله، أضف إلى ذلك مَظاهر مظاهرة اليهود والنصارى في حرب الإسلام وأهله. وقد فصَّلناه في المقال هــــــــنا
ولقد أخَّرتُ هذا الشرطَ عمدًا، لأنه مربط الفرس في الحكام المعاصرين، وابتدأت بالمذكور أولا، وهو اشتراط الحكم بكتاب الله، حتى يكون حجةً حتى على الذين لا يجعلون من نواقض الإسلام الحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية الوضيعة في التشريع العام، وكأني أردت أن أقول هناك: حتى لو قيل عن الحاكم بغير الشرع أنه مسلم، فشرط طاعته أن يحكم بما أنزل الله، لأن العلة التي من أجلها نُصبت الإمامة، واجتمعت حوله الجماعة، هي حفظ الأمة دينا ودنيا، ولا يتم ذلك إلا بالتمسك بالشريعة، وما وراء ترك تحكيم الشريعة إلا الضيق والضنك والضلال، كما نطقت بذلك الآياتُ والأيَّـامُ ... لهذا الإلزام والحجاج أخَّرتُ الشرط الرابع وإن كان هو الأساس الأول والأشد اشتراطًا.
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الظلم والجَور بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة لم يصل ظلمهم وفسقهم إلى الكفر البواح، والشرك الصُّراح بالتشريع من دونه وبما لم يأذن به الله، وإدخال الناس قسرًا وقهرًا في دين غير دين الله.
ويتبع إن شاء الله تعالى بمقال: ولاية المتغلب (10): ليسوا سواء..فمالكم؟!
اللهم هل بلّغت.. اللهم فاشهد
ويمكن مراجعة المقالات السابقة من هذه السلسلة:
ولاية المتغلب (1) من هو المتغلب؟ وما ولايته؟
ولاية المتغلب (2): من هو الحاكم المطاع؟
ولاية المتغلب (3): الدليل الثاني: يقودكم بكتاب الله ويقيم فيكم الدين
ولاية المتغلب (4) استتبابُ الأمن وسكونُ الدهماء
ولاية المتغلب (5): الخليفة الثاني والطالب الحريص
ولاية المتغلب(6): المتغلب على حي والمتغلب في فراغ
ولاية المتغلب (7): حملوا السلاح علينا. فليسوا مِنَّا
ولاية المتغلب (8): شرط الإسلام في الولاية
تاريخ النشر: 7 جمادى الأولى 1436 (26/2/2015)
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: