ثورة الحرّيّة والكرامة... خواطر وبصائر
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّـهِ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
يقول الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّـهِ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 4-7]، استوقفتني هذه الآيات الكريمة في بدايات سورة الروم، وكأنّها تتحدّث عن واقع شعبنا المجاهد المرابط في بلاد الشام.. الواقف بصوته الصادح، وصدره العاري، وظهره المكشوف، ليس له في محنته إلاّ الله.. وقد تخلّى عنه الأقربون، وجفاه الأبعدون..
إن ّهذه الآيات تحرّر المؤمن من أسر الواقع، واقع المحنة والابتلاء، وتحلّق به في آفاق قدرة الله المطلقة، التي لا يعجزها شيء، ووعده الذي لا يخلف، وتصل دنيا المؤمن بآخرته، وتقرّب بينهما، بل تصل بينهما بما يجعل الآخرة حاضرة في قلب المؤمن وعقله، وفي كلّ لحظة من حياته.. وقد خطرت لي خواطر ورؤى من وحي هذه الآيات أحببت أن أسجّلها:
(1) إنّ الصورة التي تجري على أرض سوريّة الحبيبة، بكلّ أجزائها وتفصيلاتها، وتبايناتها ووحشيّتها.. هي صورة مكشوفة مجسّمة، عن واقع السجون والمعتقلات، التي زرعها النظام الطاغي على مدار عقود من السنين في طول البلاد وعرضها، وتفنّن في قهر الشعب وإذلاله فيها.. فهي ليست غريبةً على الشعب السوريّ، الذي يعيش المعاناة والقهر، والذلّ والبطش منذ عقود، ولكنّ النظام القمعيّ الظالم كان يزوّر الحقائق، ويفتري الأكاذيب، ويعتّم على فساده وجرائمه، بآلة إعلاميّة ضخمة محتكرة، ويتواطأ معه أسياده، الذين يرون فيه حامي حمى إسرائيل.. ولكنّ اليوم غير الأمس، والجيل الجديد غير سابقه، وسبحان العليم الحكيم، مالك الملك، مغيّر الأحوال، وقاهر الجبابرة، ومذلّ الأكاسرة..
(2) لماذا هذه الثورة.. ثورة الحرّيّة والكرامة؟ إنّها ليست طموحاً سياسيّاً، لمنازعة حاكم ولا منافسة على مناصب ومغانم.. إنّها ثورة السجين على جلاّديه، وثورة مسلوب الحرّيّة والكرامة على سالبيه وغاصبيه، إنّها ثورة على قيود العبوديّة التي تتراكم على الأيدي والأرجل والأعناق عاماً بعد عام.. حتّى بلغت نصف قرن.. إنّها ثورة على القهر وإهدار الحقوق، التي تقايض بالكرامة، وترهن بالاستعباد، ويستبدل بها التسبيح والتقديس للطاغية مقابل أدنى الفتات.. ومنذ نصف قرن، والنظام المتسلّط على سورية يعتمد سياسة العصابات، والمافيات القذرة في الاغتيالات للتعامل مع خصومه السياسيّين، والتخلّص من حلفائه الأقربين، والانتقام من شركائه، والإيقاع بين الفرقاء المختلفين، وإنّ سجل الاغتيال السياسي الذي تورّطت به أجهزة القمع السورية هو الأكبر والأضخم مقارنة بأيّة دولة أخرى، ولم يقتصر الاغتيال السياسي على حدود سورية فقط، بل امتدّ إلى كل أنحاء العالم، من الكويت إلى لبنان، ومن مصر إلى ألمانيا.. إنّه لم يتورّع، ولن يتورّع حتّى عن اغتيال أقرب حلفائه وداعميه، والمتحالفين معه، أو أبنائهم، في سبيل مقايضة سياسيّة، أو إيصال رسالة متعدّدة الاتّجاهات، أو إحداث زوبعة يغطّي فيها على بعض جرائمه ومخازيه! وإنّ من قصور الإنسان وضعفه أن يقف أسير اللحظة الحاضرة، فلا يستشرف آفاق المستقبل، ولا يستنطق سنن الله في الخلق.. فربّما سارع اليأس إلى قلبه عند ذلك والإحباط.. فانسحب من الواقع، وألقى سلاحه، ونادى على نفسه بالهزيمة..
(3) الحرّيّة والكرامة توأمان لا ينفصلان، أو هما وجهان لعملة واحدة.. فحرّيّة الإنسان تولد مع ولادته، وكرامته هي من إرهاصات وجوده -أي من حين اكتشاف حمله- ألم يقل ربّنا جل وعلا: {وَلقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الأسراء: 70]، وقال الخليفة الفاروق الراشد عمر رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟!", وها قد هبّ شعبنا السوريّ الأبيّ يطلب الحرّيّة والكرامة.. بعد عقود من الصبر على الذلّ والهوان، والاستبداد والطغيان.. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى أن تتحلّى النفوس بثقافة الحرّيّة والكرامة.. التي تقتضي أوّل كلّ شيء أن نحترم الإنسان أيّاً كان.. انتماءه وعرقه، ومذهبه في الحياة ودينه.. وأن نحترم رأيه وفكره، وحقّه في التعبير عنه بكلّ وسيلة مشروعة، وأن نلغي من قاموس تعاملنا مفردات التخوين والاتّهام، التي هي جزء من اختصاص واحتكار لغة النظام وثقافته، وزرعه وإنتاجه، وقد أجهد نفسه، وجنّد طاقاته كلّ هذه العقود من السنين لصناعتها وإنتاجها، وزرعها وسقايتها، وتسويقها وتصديرها، حتّى جعل شعبنا الأبيّ ممسوخ الكيان، مشوّه الشخصيّة، تسبق تلك الثقافة العفنة على لسانه قبل فكره، وتسيطر على فكره قبل عقله.. وهل الاستبداد والطغيان الذي يثور عليه شعبنا الأبيّ إلاّ هذا؟! فما بال بعض الناس لا يزال تسيطر على لسانه وفكره لغة التخوين والاتّهام، والسباب والإرهاب الفكريّ والنفسيّ؟! أيظنّ هؤلاء أنّ الشعب يهرب من استبداد إلى استبداد، ومن ثقافة فساد إلى أختها؟! إنّ على هؤلاء أن يراجعوا ثقافتهم فيثوروا عليها، ويتطهّروا منها قبل أن يعلنوا الثورة على نظام الاستبداد والفساد.. وإلاّ فإنّهم ساقطون نفساً، وساقطون فكراً، وساقطون مجتمعاً.. ولن يقبل شعبنا بعد اليوم بمثل هذه العقليّة المتخلّفة، واللغة البائدة، والثقافة المفسدة..
(4) وما يجري اليوم في سورية ملحمة من ملاحم الجهاد التاريخيّة النادرة، ملحمة من أروع ملاحم الصراع بين الحقّ والباطل.. ملحمة يقف فيها الإيمان أمام الكفر والنفاق، ويقف الصدق أمام الكذب والدجل، والخداع والتلبيس، ويقف العدل أمام الظلم والقهر، والبغي والعدوان.. ملحمة يقف فيها شعبنا الأعزل المصابر أمام آلات القتل الثقيلة المدمّرة، ووحشيّة الإنسان، إذ يتجرّد من كلّ القيم، ويتسلّط على أخيه الإنسان.. ملحمة يكتبها الأطفال والنساء، والشباب والرجال، والشيوخ المستضعفون.. ملحمة تسطّر حروفها بدماء الشهداء، وبكاء الأطفال، وأنّات الثكالى، ودعاء الأرامل، وجراح المعذّبين، وآلام المعتقلين..
فهل ينسى التاريخ ما يجري على أرض الشام؟! وهل يغفل عنه فلا يسطّره؟!
(5) ولئن ضاعت الحقيقة أو ضيّعت عند بعض الناس، حتّى من السوريّين أنفسهم.. فإنّ التاريخ سيذكر تلك الدماء الزكيّة، التي روّت تراب الوطن بغير حساب..
سيذكر التاريخ بلا تزييف إعلاميّ كاذب، ولا دعايات مضلّلة، أنّ هذه الدماء التي أريقت في سبيل حرّيّة الإنسان وكرامته.. في سبيل وقف تيّار الفساد الهادر، الذي ضرب جذوره في الأرض، بتعمّد وسبق إصرار، وفي أعماق بعض النفوس، واستشرى بتخطيط ماكر عقوداً من الزمن..
سيذكر التاريخ أنّ أصالة هذا الشعب لا يمكن أن تغيّب، أو تمحى، أو تستبدل.. إلاّ إذا استُبدل تكوينُ الإنسان نفسه، فأصبح مخلوقاً آخر..
سيذكر التاريخ.. ولا يمكن لأحد أن يزيّف ذاكرته: عمق الجرح الغائر، الذي شقّه الأب الطاغية في جسد الوطن، وما صنع له من نظام مغرق في الفساد.. ثمّ ورثه الابن كما تورث المزرعة وقطيع الغنم، ليكمّل ما اختطّ أبوه..
سيذكر التاريخ عمق الجرح الغائر في كيان الإنسان السوريّ، وما عانته شخصيّته من تشويه وإفساد، وتخريب وتدمير، حتّى أصبحت ترى المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والزور والبهتان حقّاً مقدّساً، والكذب صدقاً، والإفساد في الأرض إصلاحاً، لا يشبهه إصلاح.. وغدت تدعو إلى المنكر، وتنصر أعوانه، وتحارب المعروف، وتستخفّ بأهله.. وإنّها لغربة للحقّ ما بعدها من غربة..
سيذكر التاريخ أنّ طاقات الأمّة ومواردها، وخيراتها وثرواتها أهدرت كلّها بين أيدي الطاغية وأعوانه، وجلاّديه وأذنابه..
سيذكر التاريخ أنّ هذه العظمة الكاذبة المصطنعة، التي بناها وبنيت له ما كانت إلاّ أوهاماً خادعة، ونسجاً واهناً من خيوط العنكبوت، أحيطت بهالات من الأوهام والأكاذيب، فذهب ضحيّة زيفها وخداعها أولئك المفتونون، وثبت أمامها فرسان الحقّ الأحرار، الأشاوس الأطهار، الصابرون على المرّ، القابضون على لهيب الجمر، الظاهرون على الحقّ، كما بشّر بهم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: «لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (صحيح مسلم)..
(6) ولا عجب من كلّ ما يحدث في هذه الثورة المُباركة، فالذهب يعرض على النار ليذهب خبثه، ويُحرَق صدأه، وتظهر حقيقته، ويسطع بريقه.. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
لقد شاءت إرادة الله لهذا الشعب الحرّ الأصيل أن يكشف عن أصالة معدنه ونفاسته، وأن يميز الخبيث من الطيّب، فيفضح أولئك المنافقين، الوصوليّين المنتكسين، الذين جعلوا من الوطن العزيز مرتعاً لكلّ خسيس، وجعلوا من أبنائه الأحرار سوقاً للنخاسة، يبيعون فيها ويشترون، ويساومون ويماكسون، ويزايدون ويتناجشون، بلا حاجز يحجزهم، ولا ضمير يردعهم، وراجت تجارتهم الزائفة الخبيثة، على حين غفلة من أهل الحقّ واستغفال، فحسبوا أن سوق نخاستهم ستدوم أبد الدهر..
(7) ولقد شرعتُ قبيل هلاك طاغية ليبيا بأيّام بكتابة مقالة عن توقّع هلاكه القريب، وإرهاصات ذلك، ففاجأنا الحدث قبل إتمام المقالة، فنظرت إلى مسوّدة أفكارها بين يدي فكأنّها كتبت منذ عشر سنين.. وإنّ واقع الثورة في سورية ليبشّر بمثل ذلك، وإنّه لصبر بعده الفرج بإذن الله.. فانظروا إلى الأمور ببصائر الإيمان، لا بالأبصار الكليلة، وضعف الإنسان، وبنور الحقّ لا بوساوس الشيطان.. {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]
(8) وأنت أيّها الطاغية، ومن سار في فلكك وركابك! ومن أعانك على قتل شعبنا الحرّ وتعذيبه، ولو بكلمات التأييد، ولو بشطر كلمة، ولو بصمت الموتى، أو قسمات الرضا على الوجوه.. نقول لك بكلّ ثقة ويقين بوعد الله ونصره، وإيمان بعدله وحكمته: إنّ يوم سقوطك بإذن الله قريب قريب.. وإنّ ساعة الحساب تتراءى لنا كما تتراءى الشمس من وراء حجب السحاب الرقيق، وما بين سطوعها وإحراقها إلاّ لحظات مرور السحاب وانقشاعه، وإننا على يقين بالله جل وعلا، أنّك تعيش في بؤس بئيس، وشقاء تعيس، لا ينافسك فيه إلاّ من كان على شاكلتك من الطغاة المجرمين، وأنّك تتخبّط في ظلمات بعضها فوق بعض، وكلّ لحظة قادمة تحمل لك من البؤس والعذاب ما لا تتخيّل.. وإنّ موتك أو حياتك، وإعدامك أو هربك سيّان أمام ما تعيشه من شقاء لا يمكن لبشر أن يطيقه! هذا إن بقي فيك ذرّة من كيان البشر أو مشاعر البشر...
وأنتم يا أعوان الطاغية وأزلامه وشبّيحته، منكم القتل لنا، ولنا وسام الشهادة، وشرف الدم، وكرامة الخلود.. ومنكم الخيانة للوطن شعبه وتاريخه، أرضه وسمائه، ومنّا الإخلاص للحقّ وحمل الأمانة.. ومنكم التجييش الطائفي، وبثّ الحقد وإشعال الفتن، ومنا الحرص على وحدة الشعب، وحسن التعامل والتعايش.. ومنكم الكذاب والشبيح، والمخبر الخسيس، ومنا الطفل الشهيد، والمرأة المجاهدة، والثائر الحرّ، والمثقّف والأديب، والمعتقل المصابر.. ومعكم الظالمون المستبدّون، والمنافقون المطبّلون، أعداء الحقّ والحريّة، والوطن والإنسانية، بسلاحهم وقواتهم، وتشجيعهم وتأييدهم، وفكرهم الفاسد الخرب، ومعنا الله جلّ جلاله، ومعنا قوى الحقّ والعدل، والحرية والكرامة، ومعنا أحرار جيشنا الأبطال، أهل الأمانة والشهامة، والعزّة والكرامة..
وإنّا لمنتصرون بإذن الله غالبون، وعد الله لا يخلف الله وعده، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون..
اللهم فارج الهمّ، كاشف الغمّ، مجيب دعوة المضطرّين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت ترحمنا، فارحمنا اللهمّ برحمة تغننا بها عمّن سواك، واجمع كلمة عبادك على الحقّ والتقوى، وعجّل بالفرج على عبادك المؤمنين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبد المجيد البيانوني
- التصنيف:
- المصدر: