الخرساء ...

منذ 2005-06-03
5/4/1426 هـ - 13/05/2005 م

عندما تتحرك أصابع الاتهام نحو أحدنا، تراه يلجأ إلى نواياه مُتدرِّعاً بِها، مشيراً إليها، ناسياً أن هذه النوايا خرساء وإن تكلّمت.. وأنها لا تشغل حيّزاً من الفراغ سوى ذلك الذي في جوفه!

هذا هو حال نوايانا، فهي تبعث بشفراتٍ لاتصل إلى سوانا ولا يسمعها أو يفكّ أسرارها أحد غيرنا، ومع هذا فإننا نستغلها في الشفاعة لأنفُسنا ونطلب من الناس أن تتفهمها وتتعامل معها وكأنها مسموعة أو مرئية، فهل يحق لنا يا تُرى أن نُطالِب بذلك؟ وهل يجوز لأحدِنا أن يُشير إلى نيته يستشفعها أو يطلب من الآخرين تفهمها والتعامل معها وكأنها مسموعة أو مرئية؟ هل تكفي النوايا شفيعاً؟ وهل تُجزيء عن الأفعال؟!

قبل أن تحاول أن تجِيب على الأسئلة، دعني أذكرك - أيها القارئ - بحقيقة، أن للفعل لغةً قد تختلِف عن تلك التي تتحدث بها النوايا، وأن هذا الاختلاف قد يجعلهما في تباين شديد في كثير من الأحيان، وسأذكر لكم هنا مِثالاً جمع بين أطيب النوايا وأعنف الأفعال، فلنقرأه بتمعن ونتفكّر فيه ونحاول اعتبار الدروس من خِلاله.

تأمل أفعال العبد الصالح الوارِدة في الآيات التالية { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً . فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً . فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً . قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [الكهف:71-78]

ثمّ أنظر إلى نواياه التي فسّرها هُنا { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً . وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً . فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [الكهف:79-82]

وتأمّل حالِ موسى عليهِ السلام حين صمّ عن استيعاب النوايا، فلم يستطِع صبراً على الأفعال التي رأى أنها نُكراً إمراً.. و تفكّر في مدى التباين بين الأفعال والنوايا وإلى أي حد قد تبدو الأفعال الظاهرة عنيفة وإن حسنت خافي النوايا! ثم قُل لي: هل قبلتَ شفاعة نوايا العبد الصالح لأفعاله؟!

إن أول درسٌ نستفيد من المِثال أعلاه هو أن لا نصدر حُكماً مُطلقاً قبل الاستفسار أو الاستماع إلى الطرف الآخر وأن نصبر ولا نتسرّع في الحكم على ظاهِر الأمور، قبل أن نسمع لجميع أطراف القضية!

الأمر الآخر الذي يجعلنا المِثال نُدركه هو أنه يجب على "الفاعل" عدم الاعتماد على حسن ظن الناس بِه فقط أو مطالبتهم بالثِقة في دوافعه وهم لا يعلمون عنها شيئاً، بل عليه منح نواياه مساحة صوتية يترجم من خِلالها تِلك الدوافع حتى بتفهمها الناس قبل إصدار الحكم عليه.

وأهمّ درس نستفيده من المِثال أعلاه هو أن النوايا تتطلب أفعالاً، قد تكون عنيفة أحياناً، من أجل تحقيق النتائج والوصول إلى المُراد، فالعبرة تكون دائماً بالنتائج ناجحةً كانت أو فاشِلة، لا بالنوايا ولا بالأفعال والأقوال فقط، سواء حسُنت أو ساءت، و المثل يقول "لا يكفي أن تصوّب، بل يجب أن تصيب الهدف"..

كما تجدر الإشارة إلى أن بعض النتائج قد تكون لحظية فلا يصح الاعتبار بِها والحكم عليها (كخرق السفينة وقتل النفس الزكية) بل يجب اعتبار النتائج طويلة الأمد متى ما أفصح المرء عنها (كإنقاذ السفينة من أطماع الملك الظالم وعدم تعريض الأبوين المؤمنين لعقوق النفس الكافرة الطاغية).

لكِن ماذا لو خانَ لِسان المرء تِلك النوايا الخرساء ولم يكن أميناً في التعبير عنها؟! هل نعتبِر أقواله أم أفعاله؟ أم نحكم غيبياً على نواياه؟!

قبل أن تجيب على هذا السؤال، إليك هذا المِثال الآخر الذي يحكي عن رقة دموع إخوة يوسف هنا { وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ . قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [يوسف:16-17] وعنف نيتهم التي قد بيّتوها قبلاً هنا { اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ . قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف:9-10].

والآن قل لي: أي الأصوات بلغ مسمعك؟
صوت الأقوال أم النوايا التي لو لم يُطلِعنا الله عليها ما علمناها؟! وأي الأصوات تثق في التعامل معه أكثر؟!

الدين والمنطق يقول أن الحكم على الأشخاص يجب أن يتم من خلال ما يلفظونه - من قول أو فعل - على أرض الواقع المرئي المحسوس، والحكم على الأفعال يجب أن يتم من خِلال النتائج التي حقّقتها، أما الحكم على النوايا فأمره متروك إلى أعلم العالِمين بِها ليحكم فيها ويتجاوز عن صاحِبها أو يثيبه أو يعاقبه إن أراد!

قد يبدو كلامي هذا قاسياً بعض الشيء، لكن الأقسى مِنه هو مقدار الضرر الذي قد توقعه أنبل النوايا حين لا تُحسِن العمل، وليس من العدل أن لا نُحمِّل من يخطئ ويخفق مسئولية إخفاقه وفشله، تماماً كما يحدث في المدرسة، حيث يقدم الجميع على الامتحان بنية حسنة - النجاح - ومع هذا يرسب البعض ويُحمّل مسئولية تقصيره.

بقِي أن نُشير إلى طرف مُهم في المعادلة، ألا وهو أن الله دعانا إلى اجتناب كثير من الظن { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات:12] كما حذّرنا رسوله صلى اللع عليه وسلم منه - حيث ثبت في الصحيحين - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَب الْحَدِيث.. » ، بل وحتى في الظن الحسن طالبنا النبي صلى الله عليه وسلم بتوخّي الحذر، حيث قال : « إِذَا كَانَ أَحَدكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ فَلْيَقُلْ أَحْسِب كَذَا وَلا أُزَكِّي عَلَى اللَّه أَحَدًا » ، ومن هذا المنطلق أعود فأؤكد أهمية اعتبار الأمارات والدلالات والأسباب الظاهِرة قبل إصدار الحكم على أمرٍ ما، وعدم الاتكال على النوايا فقط، فالعالم مليء بخليط من ذوي النوايا الحسنة وبِمن يدّعونها، ولنا عِبره في القضايا المُعاصِرة وما يحدث من غزو لِبلاد المسلمين أو التطبيع مع أعدائهم بِحجة التحرير والإغاثة وحسن النوايا التي يبدو أنا حسنت كثيراً حتى سمت وارتفعت ففارقت هذه الكرة الأرضية وأصبحت ضرباً من الخيال والأساطير!

إن طريق الفشل محفوف بكثيرٍ من النوايا الحسنة، أما طريق النجاح فمُعبّد بالأعمال الحسنة التي تمّ التخطيط لها والاجتهاد فيها حتى خرجت من سجنها فتجسدت على أرض الواقِع، والمرء مسئول عمّا أقدمت عليه يديه لا عمّا حدّث بِه نفسه وجال في قلبه من خواطِر، فإن لجأ المرء إلى الكذب بحجة الإصلاح أو جُرّ إلى فخ النميمة بحجة التحذير والنصيحة أو أقدم على كثير من الضرر بحجة المنفعة، فسيتعامل معهُ المجتمع بِما يستحق وينعته بِما ظهر له منه من صِفات، وسوى ذلك متروك إلى ربه! ويحق له حينها شرح نواياه لكن لا يحق له أن يتعلل ويتشبث بها كدليل مادي يطالب الناس باعتباره و معذرته على أساسه!
والسلام عليكم..
المصدر: موقع الإسلام اليوم - سمر عبد الله
  • 3
  • 0
  • 17,610
  • محمد مصطفى عبد المجيد

      منذ
    [[أعجبني:]] ما شاء الله مقال متميز جداً من أروع ما قرأت ويتميز بسلاسة في العرض
  • نورة

      منذ
    [[أعجبني:]] بارك الله فيك أختي سمر، ولا حرمك أجرًًا، بحق استمتعت وأنا أقرأ، أعجبني اسلوبك، وطريقة طرحك، والفائدة عمت، وسأنقل ما كتبت لمكان آخر.

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً