حتى نفهم فتوى البراك
صدرت فتوى شيخنا البراك حفظه الله هذه الأيام الأخيرة في التصويت على مسودة الدستور المصري، فتباينت حولها الآراء، بين موافق مؤيد وآخر ناقد نقداً مهذباً قد عرف قدر المسألة وموضعها من الاجتهاد، وثالث قل فقهه فجار وجعل المصوت له كالمشرع شريعة مخالفة لشريعة النبي عليه الصلاة والسلام، راضياً بمناقضة حكم الله!
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أما بعد فكنتُ قد أسهمتُ بورقة في مؤتمر النوازل السياسية عن الديمقراطية المنعقد في دوحة قطر شهر رجب من العام الماضي 1433هـ، وأتبعتها بمقالة مطولة موضوعها فك التلازم بين الرضا بالديمقراطية الكفرية والمشاركة فيها بنحو التصويت لتخفيف منكراتها، نشرت في مجلة البيان في رمضان من نفس العام.
وقد بينت فيهما ما رأيته مسلكاً وسطاً لا يسوغ الديمقراطية الغربية، ولا يهون من مناقضتها للشريعة، ولكنه لا يمنع التعامل معها إذا فرضت واقعاً بالمشاركة لتخفيف منكرها.
ثم صدرت فتوى شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله هذه الأيام الأخيرة من شهر الله المحرم في التصويت على مسودة الدستور المصري، فتباينت حولها الآراء، بين موافق مؤيد يعرف قدرها ويدرك أبعادها، وآخر ناقد نقداً مهذباً قد عرف قدر المسألة وموضعها من الاجتهاد، فعلى الله أجره، وثالث قل فقهه فجار وجعل المصوت له كالمشرع شريعة مخالفة لشريعة النبي عليه الصلاة والسلام، راضياً بمناقضة حكم الله!
ومن العجيب أن في هؤلاء أصحاب اتجاهات متناقضة، بعضهم دأب على منابذة الحكام والتسرع في إطلاق أسماء الأحكام على العلماء فمن دونهم، وآخرون على خلافهم دأبهم ممالأة الحكام في الحلال والحرام، والتماس الأعذار والمخارج لهم من شتى الاتفاقيات الدولية والمواثيق المناقضة للشريعة كسيداو! فلما طرح ولي الأمر مرسي المسودة انقلبوا على قواعدهم وطفقوا يهيجون العامة على عصيان ولي الأمر فجوراً في الخصومة مع الإخوان!
وقد وجدت البحثين المتقدمين قد استوفيا الجواب على ما يتمسك به المخالف في المنع، وعلى ما أثاره أكثرهم في هذه الآونة، فآثرت أن أنشرهما في هذا الوقت للحاجة إليهما ولأهمية البيان وأثره، مؤكداً علمنا بما في الديمقراطية الغربية اللبرالية من مناقضة لشريعة الإسلام، لا يقول بها جمهور القائلين بديمقراطية إسلامية وهذا من إنصافهم الواجب، وإن اختلفنا معهم في كثير من تفاصيل ما يتصورون وفي شرعيته بل في تسمية ما يتصورونه ديمقراطية، لكن يبقى من الجور رميهم بما لا يقولون به، ونسبتهم إلى ما لا يعتقدون، كما فعل بعض من كتب ممن لم يتصور تفصيل ما في إعلانهم منتصف التسعينيات.
ولم يتصور الفرق بينه وبين الديمقراطية الغربية، ثم لم يتصور واقع الحال في مصر، فتحدث وكأن تطبيق الشريعة خيار متيسر فقط يحتاج من القوم دعوة الناس إليه!
غافلاً عن الكيد السياسي والإعلامي الذي يحرك دهماء الناس نحو قصر الرئاسة لأجل نقض قرار، وما يؤازره من المكر الإقليمي والدولي الكبار، ثم بعد ذلك كله يرمي الشيخ البراك بعدم التصور!
وقد حدثني بعض الإخوة القريبين من شيخنا بأن حجج الفريقين المانعين والمجيزين قدمت إليه مستوفاة، وطفق ينظر فيها نحو ثلاثة أيام، ثم صدر بما صدر عنه في فتواه. غير جاهل -وهو أستاذ العقيدة منذ ستين سنة- بأن الكفر لا يجوز الإقدام عليه إلا في حال الإكراه، وغير خافية كذلك دلالات الدستور وما يكتنفها من إجمال أو إشكال، لكنه نظر نظر الفقيه الذي يفرق بين المتخلص من أعلى المفسدتين بالدوس على أدناهما، مدركاً بأن الكف هنا كالفعل أو أشد أثراً في نصرة الباطل، ولم يجر على طريقة الذين يعدون التخلص من الغصب بالمرور في الأرض إقراراً ومضياً في الظلم وعدواناً! ولم يحمل المدعى عليه رضا بباطل يعلن رفضه.
ولعل في تضاعيف البحث ما يجلي الفرق بين الرضا والمشاركة بقصد التقليل من المفسدة، ولعله تستبين به الرؤى، والله المسؤول أن ينور أبصارنا، فإن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، والله المستعان.
مَوْقِفُ الشَّرْعِ مِنْ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالحديث عن حكم الشرع على الديمقراطية -وأفضل التعبير بحكم الشرع لا موقفه- فرع عن تصور دين الله تعالى، ثم تصور حقيقة الديمقراطية، ثم يأتي بعد ذلك إنزال الأحكام مواضعها.
ومعلوم خلاف الإسلاميين بل خلاف الناس في وجود ديمقراطية إسلامية، وهذه قضية كبيرة لا بد أن تحرر قبل الحكم على الديمقراطية، وقبل تحريرها يظل كثير من الخلاف الحادث في الساحة فرعاً عن تباين التصورات.
ولعل تحرير هذا أهم أوجه دخول هذه المادة في (النوازل السياسية) وذلك لأن الديمقراطية موضوع قديم تباينت الآراء فيه منذ العهود الإغريقية، لكن الذي جد في الساحة في العهود الأخيرة الدعوة لديمقراطية إسلامية.
اختلاف الناس في توافق الإسلام والديمقراطية:
عرض مقالات الإسلاميين وغيرهم يفسر كثيراً من مجريات الساحة، ومعرفة المبادئ لها أثرها في فهم التحالفات وعقدها، وتوقع المآلات ومعرفة المقاصد وراء الدعوات والبرامج للفرقاء، ولهذا حرصت على بيان آراء الناس وتصورهم لهذه القضية.
وعلاقة الإسلام بالديمقراطية قضية جدلية كتب فيها عرب وغربيون، قديماً وحديثاً، وفيها ثلاثة مذاهب، ولكل مذهب أثره في الساحة، وكل مذهب منها تبناه أناس متناقضون ومتوافقون، بمعنى قد تجد إسلامياً يقول بالقول، وبنفس قوله يقول ملحد، وتجد إسلامياً ينتمي لجماعة إسلامية يقول به، ويخالفه فيه إسلامي آخر ينتمي لنفس الجماعة، يظهر هذا أثناء عرض المذاهب الثلاثة فيما يأتي:
1- ذهب بعضهم لانبتات الصلة بين الإسلام والديمقراطية:
- ومن هؤلاء غربيون لا يدينون بدين الإسلام، وقد صرح بعضهم بأن الجماعات الإسلامية التي ترفع شعار الديمقراطية إنما تستر بقشرة رقيقة نظام حكم ثيولوجي كما يعبرون أي لاهوتي، ولعل من آخر هؤلاء كتابة في هذا الصدد الباحث والمفكر اليهودي "يوريا شافيت"، أستاذ العقيدة والتاريخ الإسلامي بجامعة تل أبيب، ومدير برامج الديمقراطية بمعهد أديلسون للدراسات الاستراتيجية، وذلك في بحث له بعنوان: (اليوتوبيا) [مفهوم فلسفي يعني المثالية]، الإسلامية: تصور جماعة الإخوان المسلمون للديمقراطية) [نشر في مجلة Azure الإسرائيلية عدد (46)، وروجت له كثير من مؤسسات الفكر والمراكز البحثية المتخصصة في رصد وتحليل الواقع السياسي الشرق أوسطي وعلى رأسها "مركز موشى ديان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية"]، نشرها في الشهر المنصرم.
ومن أشهرهم كذلك المنظر الأوربي إرنست جلنر ( Ernest Gellner)، رئيس قسم الأنثروبولوجيا في جامعة كامبريدج في بريطانيا وأحد المعنيين بالإسلام الشمال أفريقي من منظور غربي.
- ويوجد كذلك عرب ينتسبون للإسلام من أهل الفكر أو الصحافة يصرحون بهذا وهم كثر منهم ثائر الناشف السوري الذي ظهر في الأحداث الأخيرة [انظر مقالته: "لا ديمقراطية في الإسلام": http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=201551]
وهؤلاء يتحدثون عن دمقرطة الإسلام أو جعل الإسلام ديمقراطياً بكل وضوح، وكثير من العلمانيين المنتسبين للإسلام القائلين بفصل الدين عن السياسة، من دعاة الديمقراطية، هم في الحقيقة يقولون بانبتات الصلة بين الإسلام والديمقراطية، فالإسلام محله المسجد والعلاقات الشخصية.
- أما الذين يقولون بانبتات الصلة من الإسلاميين فأطياف مختلفة، فعامة السلفيين يقولون بانبتات الصلة بين الإسلام والديمقراطية، وآخرون منتمون للجماعة الإسلامية المصرية والباكستانية، وكثير من الجماعات الجهادية، وحزب التحرير، والتكفير وهجرة، وعدد من "الإخوان المسلمون"، ومنهم رموز معروفون كسيد قطب [ومن ذلك كلام له بديع على تفسير سورة الأنعام، من الظلال (2/1083) قال:
"وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى، ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات.. كالاشتراكية.. والديمقراطية.. وما إليها.. ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة"! ويقول: "إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه، ولا التعديل فيه..
إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون اللّه"، وقد أنكر ما يسمى بديمقراطية الإسلام واشتراكية الإسلام ونحوهما مما ينتجه ضغط الدول المتغلبة في كثير من كتاباته رحمه الله]، وأبي الأعلى المودودي [نص على أنها ليست من الإسلام في شيء وأطال نقدها في أكثر من مؤلف، ومنها نظرية الإسلام وهديه، (ص33) وما قبلها، وكانت له مواقف عملية في عدم دخول الانتخابات البرلمانية في دولة الهند الكبرى قبل انفصال باكستان].
وقادة معاصرون أيضاً كبعض قادة الجهاد الأفغاني سابقاً، وإن كان تيار الجماعة في العالم تبنى قبيل منتصف التسعينات الميلادية رأياً آخر، وممن يقولون بانبتات الصلة مفكرون مستقلون كحمد قطب، وَوجدي غنيم، ومنهم كذلك صوفية متبوعون كإمام النقشبندية المعمر محمد ناظم الحقاني، قال نصاً: "ما في ديمقراطية في الإسلام"، ونهى عن المشاركة والتأييد، وقال نصاً: "لا تقرب منها لا تعطي رأياً.. أبداً، والتأييد كفر، الله يقول جل من قائل: {{C}{C}وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ{C}{C}}.." إلخ، ووصف القول بالديمقراطية والرضا بها بأنه ردة في الإسلام إذا لم يتب القائل يقطع رأسه، وكل من يؤيد الديمقراطية يقتل [انظر: الجريدة الرسمية للطريقة النقشبندية، على الرابط التالي: http://saltanat.org/TabId/272/VideoId/1231/----.aspx].
ومنهم كذلك أزاهرة كالشيخ د. سالم عبدالجليل وكيل وزارة الأوقاف المصرية، القائل: ''لا ديمقراطية في الإسلام ولا يوجد إلا معنى واحد للديمقراطية وهي الديمقراطية الغربية ويكفي هؤلاء المشايخ التلون والنفاق من أجل كسب شعبية زائفة باسم الدين''[انظر، صحيفة الوفد عدد الثلاثاء 6 مارس 2012 م - 12 ربيع ثانى 1433 هـ، واقرأ المقال الأصلي علي بوابة الوفد الاليكترونية الوفد - عبد الجليل: لا ديمقراطية فى الإسلام في الرابط التالي:
http://www.alwafd.org/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D...%84%D8%A7%D9%85]
وقد نشر في عدد كبير من المواقع الإخبارية.. إلى غير هؤلاء والأسماء والنصوص في هذا كثيرة جداً.
والمهم أن نميز بين رؤية هؤلاء للتعامل مع الديمقراطية وحكمهم عليها، فكثير منهم يرى أنها لا تنسجم مع الإسلام، لكن يمكن الدخول في عمليتها أو يجب بشروط، ومنهم من ينادي بأسلمة الديمقراطية، ومنهم من يمنع المشاركة فيها بكل حال وسوف تأتي الإشارة إلى ذلك.
فهذا مذهب أول!
- تنبيه مهم: من هنا تعلم أن الذين يصورون مسألة الديمقراطية على أنها خلاف سلفي مع بقية الإسلاميين، إما ملبسون ينبغي التفطن لمغالطتهم، أو أناس لم يحيطوا علماً بكثير الأقوال والآراء في القضية.
2- ذهب بعضهم إلى توافق الإسلام والديمقراطية.
- ومن هؤلاء غربيون مرموقون في الأوساط الأكاديمية لا يدينون بدين الإسلام كجون لويس اسبوزيتو، وجون أ. فول في كتابهما الذي نشرته أكسفورد عام 1996م، وكان بعنوان: "الإسلام والديمقراطية"[عنوانه بالإنجليزية: "Islam and Democracy -Oxford University Press، 1996"].
وهذا الكتاب مهم في تصور مذهب الغربيين القائلين بتوافق الديمقراطية مع الإسلام، لمكانة كاتبيه الذين لا يزالان يكتبان في الموضوع، ويتوليان إدارة مركز الوليد بن طلال، ولأنه قد اعتني به ونشر على نطاق واسع كان له أثره، فقد ترجم للعربية، واليابانية، والإندونيسية وغيرها]، وللفائدة فإن الأول يحمل درجة الأستاذية في الأديان والشؤون الدولية والدراسات الإسلامية بجامعة جورج تاون، والثاني يحمل درجة الأستاذية في التاريخ الإسلامي، والأول هو المدير المؤسس لمركز الأمير الوليد ابن طلال للتفاهم الإسلامي النصراني في كلية والش للخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون (Walsh School of Foreign Service)، والثاني هو المدير المساعد للمركز المذكور، ولكتابهما رواج وقد خدم بترجمات.
- وممن قال بتوافق الإسلام والديمقراطية من المفكرين العرب عدد من الرموز يرون أن الإسلام ترك الناس تحكم نفسها بالأصلح وأن العلمانية لا تتعارض مع الإسلام بل قررها الإسلام كالصادق المهدي الزعيم السوداني [هو يفرق بين النظام الإسلامي والديمقراطي، لكن بفروق غير مؤثرة، ككون حقوق الإنسان في الإسلام أعمق لكونها تستمد من جذور روحية، وككون التعايش بين الأديان يقوم على تهميشها في النظام العلماني بينما في الإسلام على تعظيمها، وفيما عدا ذلك يقرر أن النظام الإسلامي لا يتعارض مع النظام الديمقراطي، وهذا ظاهر في كتابه مفهوم الدولة في الإسلام، وكذلك في بحثه حول مستقبل الديمقراطية المقدم في المؤتمر الإقليمي الحكومي حول حقوق الإنسان، المنعقد في 10-11 يناير 2004م]، وجمال البنا المفكر المصري، وخالد محمد خالد [قرر هذا من جهة تسليم الإسلام التشريع للناس وعقولهم، وذلك في كتابه الديمقراطية أبداً، حتى طبعاته المتأخرة في السبعينيات، لكن الرجل قد تاب ورجع عن اتجاهه العلماني اليساري بأخرة، ونرجو أن تكون رؤاه قد تبدلت في هذا المضمار].
وهؤلاء مع كونهم لفكر العلمانية أقرب فهم بخلاف من تقدمت الإشارة إليهم في القسم الأول من العلمانيين الذين لا يرون الديمقراطية من الدين في شيء، لكن ليس للدين أن يتدخل في هذه المسائل، ومن دون أمثال الصادق والبنا تنويريون أو عقلانيون -كما يسمون- كمحمد عابد الجابري، وكذلك كثير من تلاميذ محمد عبده، ورفاعة الطهطاوي وأضرابهما يقولون بالتوافق بين الإسلام والديمقراطية، لكن لهم قراءتهم الخاصة للإسلام التي تنسجم مع الديمقراطية.
- وقال كذلك بالتوافق عدد من المحسوبين على العلم من أصحاب التيارات الإسلامية على تباين بينهم، كراشد الغنوشي، ولاسيما آراؤه الأخيرة، وكذلك الكاتب محمد بن المختار الشنقيطي وهو أكثر قرباً للقسم السابق من هؤلاء، وكذلك الترابي وهو أقدم تنظيراً لهذا من السابقين.
3- وذهب آخرون إلى إمكانية توافق الإسلام والديمقراطية، فهم يرون أن التوافق ليس حاصلاً بإطلاق لكنه يمكن أن يحصل بشروط.
وهؤلاء قسمان:
- قسم يدعو لديمقراطية مؤسلمة إما لكونه يرى أن جوهر الديمقراطية يقوم على أسس غير شرعية يقيدها بالأسلمة، أو لأنه يتحدث عن تعريف للديمقراطية لا يرى في جوهره ما يعارض ثوابت الدين أصلاً، فكلامهم عن ديمقراطية فيها سقف للحريات مقيد بثوابت الأمة، وسقف لرأي الأكثرية مقيد بثقافة الأمة، وهؤلاء كثيرون، وإخال أن من أبرزهم الشيخ يوسف القرضاوي وفقه الله، والشيخ محمد الغزالي رحمه الله، والشيخ محمد الحسن الددو وفقه الله، والدكتور محمد سليم العوا، وكثير من الدعاة والمشايخ في العالم الإسلامي، وكان هذا المعنى حاضراً بجلاء في كتابات الأستاذ راشد الغنوشي المتقدمة:
[في كتابه الحريات العامة في الدول الإسلامية، المنشور في الثمانينيات الميلادية، كان له رأي واضح في حدود هذه الحريات، والمساواة السياسية بين المسلم والكافر، ثم تغير هذا الرأي، ومن ذلك إقراره في مقابلة صحيفة الأبزورفر اللندنية عام 1992م، قبوله للديمقراطية إذا كانت تعني النموذج اللبرالي الغربي المنتشر في الغرب، قال نصاً:
a system under which the people freely choose their representatives and leaders،
in which there is an alternation of power، as well as all freedoms and human rights
for the public، then Muslims will find nothing in their religion to oppose democracy،
and it is not in their interests to do so".
وقد احتفى برأيه عدد من الغربيين من أشهرهم جون اسبيزيتو وجون فول، ووظفاه في مقالتهما عن الإسلام والديمقراطية، وكذلك في كتابٍ للأول بعنوان: "الحرب غير المقدسة: إرهاب باسم الإسلام" ، UNHOLY WAR Terror In The Name Of Islam، ص146، طبعة جامعة أكسفورد، عام 2002م].
وكذلك فكر الدكتور محمد عمارة، وفهمي هويدي، وهو رأي كثير من الإسلاميين المنتمين لجماعات إسلامية، ولاسيما الإخوان المسلمين التنظيم العالمي بعد بيان عام 1994م [وقد لاحظ ما في البيان من إجمال وتقييد بالإسلام بعض العلمانيين فكتبوا في نقده]، وكذلك هو فكر جمهرة من الإسلاميين غير منتمين لجماعات، وهو رأي أكثر الرافضة اليوم [ويتوجه أن يخالفهم الإخباريون من الرافضة، الذين لا يؤمنون بولاية الفقيه، ولا يجوزون اجتهادات أتباع الثورة الإيرانية].
وإن كان بين أصحاب هذا الاتجاه عموماً تفاوت كبير في القدر الواجب اتخاذه من أجل الأسلمة، وما هي الحدود التي يجب أن تضبط الديمقراطية المؤسلمة، لكن بكل حال يجب التفريق بين هذا الاتجاه الداعي لفصل الديمقراطية عن فلسفتها الغربية، والتيار الآخر الذي تقدم في القسم السابق الزاعم بأن تلك الفلسفة قد رضيت الشريعة مقرراتها، فبعض من في هذا القسم يجعلون الديمقراطية أشبه بالآليات الانتخابية المجردة، والخلاف مع هؤلاء وكثير من الإسلاميين المذكورين في القسم الأول من أصحاب المذهب السابق يؤول إلى اختلاف لفظي وقد يكون خلافاً اجتهادياً على شرعية الأخذ بالنظم الانتخابية في تنصيب الإمام ونحو ذلك من المسائل، فهذه قد تكون مسألة اجتهادية عند بعض أصحاب القسم الأول ببعض الضوابط، وقد يكون خلافاً حقيقياً لكن في مسألة فرعية كصلاحية المرأة لبعض الوظائف، لكنه ليس خلافاً في الديمقراطية الغربية، فهم يتفقون على تحريمها، وعندهم تصور آخر يسمونه (ديمقراطية) هي التي يجوزونها.
- والقسم الثاني من هذا الاتجاه الثالث يدعو لدمقرطة الإسلام، أو جعل الإسلام ديمقراطياً، بقراءة جديدة للإسلام، ومن هؤلاء بعض العلمانيين المنتسبين للإسلام، لا يقولون بانبتات الصلة بين الإسلام والديمقراطية كمن في القسم الأول المنتسبين للإسلام القائلين أنه لا دخل للإسلام في الحكم، ولا يقولون بأن الإسلام جاء بالعلمانية وقرر الديمقراطية كمن في القسم الثاني، بل يفلسفون القضية ويلتوون فلا يجيبون جواباً مباشراً عن العلاقة بينهما كالمفكر السوري صادق جلال العظم، ومآل شقشقاته يرجع إلى أنه لا يمكن أن تجتمع الديمقراطية ودين الإسلام الأول المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو كما يقول: "الإسلام النموذجي" [انظر لقاءه مع وكالة اكي الإيطالية:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=106228].
لكن يمكن أن تنسجم مع إسلام آخر متجدد، وهذا قريب من قول دعاة إعادة قراءة النص، وإعادة صياغة العقل العربي، فمآلهم واحد وهو دمقرطة الإسلام لا أسلمة الديمقراطية، ويبقى فرق بينهم وبين أمثال العظم في ظنهم أن هذه الدمقرطة تطوير من الإسلام لا تعارض الإسلام الأول المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بخلاف هذا وأمثاله فهو يراها نموذج من نماذجه غير متفق مع النموذج الأول، وفي الحقيقة بين الاتجاهين قرب، وكثير من الغربيين كهؤلاء فيرون أن للإسلام قراءات مختلفة منها المتفق مع الديمقراطية ومنها المختلف، ويظنون أن الإسلام كالنصرانية قابل لإعادة القراءة بما ينسجم مع الديمقراطية بل اللبرالية، ومن ثم هم يدعون المسلمين لتحول ديمقراطي محصلته دمقرطة الإسلام أو جعل الإسلام ديمقراطياً بصياغته صياغة جديدة.
ومن العرض المتقدم يمكن أن نلخص الاتجاهات في علاقة الإسلام بالديمقراطية في أربعة، كل اتجاه يقول به قطاع عريض من المنتسبين للإسلام وغيرهم، بل أصحاب الجماعة الواحدة قد يختلفون فيسلك بعضهم اتجاهاً ويسلك الآخرون اتجاهاً آخر، وهذه الاتجاهات هي:
o لا وفاق بين الإسلام والديمقراطية.
o يوجد وفاق بين الإسلام والديمقراطية.
o لا وفاق من حيث الأصل الفلسفي لكن يمكن أسلمة الديمقراطية.
o لا وفاق لكن الإسلام قابل للدمقرطة.
وأخيراً مما ينبغي ملاحظته أنه توجد تيارات متقاربة وليس بينها في الواقع كبير خلاف أو تنازع فالعلماني الذي يرى الإسلام لا يتوافق مع الديمقراطية، ليست عنده مشكلة مع العلماني الذي يدعو لتجديد الإسلام أو صياغة الإسلام صياغة ديمقراطية، وكذلك لا تنازع بينه وبين العلماني الثالث الذي يفهم الإسلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فهماً علمانياً ديمقراطياً وفقاً لأسس الديمقراطية الغربية.
فهؤلاء على تباينهم لا كبير تنازع بينهم في هذه القضية وإن كانوا يختلفون.
لكن يوجد كذلك تياران كبيران يمثلان سواد الإسلاميين، ولاسيما أهل العلم منهم، أحدهما يرى الديمقراطية غير متوافقة مع الشريعة، والآخر يراها متوافقة معها، وخلافهم بالدرجة الأولى في تصور الديمقراطية لا الإسلام، لكن بينهم ما صنع الحداد من التنازع والإزراء بسبب القضية!
وإنك لتعجب عندما تجد شاباً غراً يندفع في تكفير هذا القسم من الإسلاميين لاختلافه معهم في اصطلاح وتصور، لكن الأعجب أن تجد كاتباً كبيراً ومثقفاً بارزاً مثل فهمي هويدي لم يسلم من آفة الإزراء بالرأي الآخر، فتراه يعد الرأي الأول الذي قدمت لك جمهرة من الذاهبين إليه: "يمثل شذوذاً عن الخطاب الإسلامي العام"، يقول: "وما كان لنا أن نشير إلى ذلك الموقف لو لا الحرص على تقديم صورة مستوفاة لمنهج التفكير الإسلامي إزاء تقنية الديمقراطية، حتى ما كان شاذاً ومحدوداً من تيارات ذلك الفكر" [الإسلام والديمقراطية، للأستاذ فهمي هويدي، ص133]، ولعل عذره أنه لم يستوف التصور -خلافا لما قال- ولم يعرف جل القائلين بخلاف قوله.
عن أي ديمقراطية يجب أن نتحدث وعن حكم أي إسلام نصدر؟
يحسن التنبيه أولاً إلى أن الغربيين بينهم خلاف كبير في قضايا الديمقراطية، لكنه يتمثل في اتجاهين رئيسيين:
- اتجاه يدعو لتقديس سيادة الأكثرية وهذا كان رائجاً مع مبادئ الديمقراطية، وعليه كانت الممارسات الوحشية لفرنسا إبان ثورتها، وأمريكا إبان تأسيسها، بل والغرب مع العالم الإسلامي إبان عهود الاحتلال، بل ومع بعضه البعض إبان عصور النازية، ولا يزال له وجود لكن بحدة أقل عند المحافظين وإن كانوا لبراليين.
- واتجاه آخر يدعو لتقديس الحرية الفردية والحقوق الإنسانية الأساسية، وهذا نظَّر له أمثال جون سترويت ميل، وفرانسيس دو تكفيل وغيرهما وهذا له رواج أكثر عند اللبرتالية وهو اتجاه أكثر لبرالية صاعد في الدول الغربية.
وبينهما ظهرت ديمقراطيات أخرى، لكنها في الحقيقة لا تخرج عن هذين الاتجاهين، فالديمقراطية الاشتراكية مثلاً، لم تزل خلافاً للغرب تسلك المسلك الأول.
أما الإسلاميون من دعاة الديمقراطية فهم كذلك اتجاهان كبيران تحتهما مذاهب:
- اتجاه يدعو لديمقراطية مبنية على اعتماد رأي الأكثرية، ثم إما أن يجعل لها بعضهم حدوداً، أو لا يجعل إما لظنه أن الأكثرية المسلمة لن تختار سوى الإسلام، لا لتجويزه مخالفة الإسلام، أو لتجويزه ذلك فهذه ثلاثة مذاهب موجودة في الساحة.
- واتجاه يدعو لديمقراطية تقيد السابقة برعاية الحقوق الأساسية للإنسان وكفالة الحريات، ثم إما أن يقترب تعريفه للحقوق الأساسية والحريات من تعريف المواثيق والمعاهدات الدولية التي ترعاها الأمم المتحدة، وإما أن يتباين تبايناً متفاوتاً، فهذان مذهبان موجودان.
فتحصل أن للإسلاميين القائلين بالديمقراطية خمسة مذاهب على التفصيل، بعضها لا خلاف حقيقي له مع الإسلاميين الذين يرون الديمقراطية كفراً، فخلافهم أقرب لأن يكون لفظياً لأن حديث هؤلاء عن تصور، وحديث أولئك عن تصور آخر.
ويجب قبل الحكم التمييز بين الصور المتباينة ثم التفصيل في حكم كل صورة، حتى لا يهدر الوقت في جدل حول تصورات مختلفة، أو قضايا مجملة يريد كل خصم ما لا يريده الآخر، "وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من وجهة اشتراك الأسماء، وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة، التي يفهم منها هذا معنى يثبته، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه، ثم النفاة يجمعون بين حق وباطل، والمثبتة يجمعون بين حق وباطل" [مجموع الفتاوى (12/552)].
وصدق ابن القيم إذ يقول:
قَد أفسَدَا هَذَا الوُجُودَ وَخَبَّطَا ال *** أذهَانَ والآراءَ كُلَّ زَمَانِ
وقال رحمه الله: "أصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب، فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه، وأن لا يوقعك في هذه الظلمات" [الصواعق المرسلة 3/927].
ولا يحسن البحث هنا في مسألة خلاف لفظي أو اجتهادي أو فقهي بين من يقول بديمقراطية مؤسلمة يخضع فيها رأي الأكثرية أو الحقوق والحريات لمقررات الشريعة.
ويحسن في هذا المقام أن نبين الحكم الشرعي على الديمقراطية الغربية اللبرالية، مع أني لا أعلم عالماً يتبناها، وإنما هم مجموعة ممن يطلق عليهم مفكرين، أو مثقفين لا يعتد بخلافهم واتفاقهم أصلاً وإن كان منهم إسلاميون، فما كل مفكر أو مثقف إسلامي يعتد بخلافه، مع أن بعضهم كما سبق لا ينتسبون إلى الإسلام بل لأديان أخرى.
ويحسن قصر الحديث في هذه لأسباب منها:
- منها أنها هي الطاغية الآن، نظراً لتقدم الدول الغربية، وفتنة كثير من المسلمين بما يُصَدَّر من الغرب.
- ومنها أنها التي غدت ترعاها المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وغيرها، وهي التي تقيمها في العالم وتضع لها معايير ومواثيق وتفسيرات لتلك المواثيق يجب الرجوع إليها عند اختلاف الأفهام.
- ومنها أنها التي يدعو إليها الإعلام في جل الكرة الأرضية، ويحاول إشاعة مفاهيمها بين الناس بوسائل شتى، ابتداء بالإعلانات، والمسلسلات، وانتهاء بالبرامج الفكرية الصريحة في الدعوة المباشرة إليها.
- ومنها أنها التي تمثل خلافاً حقيقياً وآفة عصرية دخلت على بعض الإسلاميين من مفكرين ومثقفين، ولكثير منهم أتباع وأشياع، وجادة أهل العلم رد البدع الحادثة على أصحابها، ومناقشتها لنفيها لا لاعتبار خلاف قائليها إذا لم يكونوا من أهل العلم الشريف.
- ومنها عدم اعتراف المؤسسات والمنظمات الكبرى بديمقراطية إسلامية إلا بمعايير الغرب الذي صدر منهم المصطلح، وهم أولى بتفسيره.
- ومنها كون الخلاف على الديمقراطيات الاصطلاحية التي يدعو إليها بعض الإسلاميين بقيود الشريعة أهون شأناً وأقل خطراً.
لهذا وغيره يحسن نقاش حكم هذه الديمقراطية، أما الديمقراطية الإسلامية التي هي في اصطلاح بعض أهل العلم مقيدة بالشريعة، فإضافة لقلة خطرها إذا كانت تبحث في مجرد آليات، فإن على تسميتها ديمقراطية إشكالات، لأن الأمم المتحكمة والمنظمات المعنية بالديمقراطية وكذا الإعلام لا يعترفون بأن ما اصطلح عليه هؤلاء ديمقراطية حقيقية، ما لم يحرف الإسلام ليقبل بالديمقراطية الغربية، ومما يدلك على هذا:
- النفي الصريح لكثير من المفكرين الغربيين وجود ديمقراطية إسلامية، واحتجاجهم بنصوص في الإسلام قطعية، ومن يقول بوجودها وهم التيار الأقل يحرف الإسلام لينسجم مع الديمقراطية الغربية.
- عدم اعتراف المؤسسات الغربية الحكومية وغيرها -المعنية بتقييم الديمقراطية والحريات السياسية- بالدول التي نشأت فيها ديمقراطيات إسلامية، كإيران والسودان، وحسبك أن تعلم أن تقييم هاتين الدولتين من حيث الحقوق السياسية والحريات أسوأ عندهم من تقييم أنظمة ملكية، وانظر تقييم بيت الحرية للنظام الإيراني -الذي افتتن به جمعٌ ودعا لنموذجه آخرون- وقارنه مع النظام القطري أو البحريني أو الأردني تجده أسوأ تقييماً منها جميعاً، وبيت الحرية من المنظمات الدولية المعتنية بهذا الشأن [على موقعهم:
http://www.freedomhouse.org/، وهنا قائمة الدول:
http://www.freedomhouse.org/sites/default/...s%29FIW2011.pdf].
- رأيهم المعلن في من صرح بتبني ديمقراطيات لها سقف محكوم بثوابت الشريعة، كالإخوان المسلمين، وقد سبقت الإشارة لورقة اليهودي: "يوريا شافيت".
وهذا ينبغي أن يكون واضحاً، فالغرب لا يقول بديمقراطية لا حدود لها، فهذا لا يمكن أصلاً، لكنه لا يرضى أن تكون هذه الحدود دينية أو كما يعبرون ثيوقراطية أو لاهوتية، وإن ارتضتها الأمة، فإن هذا تحكيم لدين معين في تعددية يجب أن لا تميز بين الناس دينياً كما يجب أن لا تميّز بينهم عرقياً سواء بسواء، فكيف إذا كان الدين المعني يمس ما يعدونه حريات أساسية -ذا نظرنا إلى تفسيراتهم لها- جاءت الديمقراطية أصلاً لتكفلها، وأما مدى اعتبار الدين كمكون ثقافي للمجتمع في النظام الديمقراطي، فثمة اتجاهان: اتجاه معاد للدين أوجب تهميش جميع الأديان وربما حربها، واتجاه آخر لا يصنف على أنه معاد للدين -وهو في الحقيقة معاد لدين الحق بغير مرية لمن عرف الدين- وهذا أوجب التسوية بين الأديان دون تمييز، وكل ذلك يناقض أصول الشريعة.
حكم الديمقراطية الغربية:
وأعني بها ما سبقت الإشارة إليه القائمة على أحد الاتجاهين المذكورين، إعطاء حق التشريع بتغليب اعتبار مصلحة الأكثرية، أو تغليب اعتبار ما يسمونه بالحقوق الأساسية، دون اعتبار لحدود دين الإسلام، سواء مع محاربته أو بدونها باعتباره في حدود الحريات الشخصية كأي دين آخر، فهذه الديمقراطية كفر، والرضا بها مخرج من الملة، وهذا حكم ينبغي أن لا نتتعتع فيه، فإن أهل السنة اتفقوا على أن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، فهو كافر، واتفقوا على أن الحكم بغير ما أنزل الله معصية، واختلفوا هل هو معصية دون الكفر أم كفر أكبر، والصحيح أنه إذا خرج إلى حد التشريع العام، والتبديل لأحكام الإسلام فهو كفر، وإن كنا لا نحتاج إلى بحث هذه المسألة هنا، لأن الكلام على تجويز الحكم بغير ما أنزل الله أي على تجويز المعصية، سواء أكانت تلك المعصية كفراً أصغر أم أكبر.
والديمقراطية الغربية تجوز بل توجب تشريع أحكام على خلاف ما أنزل الله.
وقد قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقال فيمن أعرض عن حكم الله في مسألة: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43].
وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].
وقال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61 ]، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49-50].
وقال عز وجل : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: من الآية 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: من الآية 47].
فكل هذه أدلة قطعية تدل دلالة قطعية على أن الحكم بما أنزل الله واجب، وأن مخالفته حرام، قد تكون كفراً أو دونه، فإذا تبين ذلك فالاتفاق قائم على أن من جوز الحرام كافر، قال ابن تيمية: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرّم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه فهو كافر مرتد باتفاق الفقهاء" [مجموع الفتاوى (267/3)].
قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية 44]، ويشمل الكفر في الآية الأكبر والأصغر، قال ابن القيم: "ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له وهو قول عكرمة، وهو تأويل مرجوح؛ فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم أو لم يحكم"، ثم قال: "والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم؛ فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصياناً مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله تعالى، فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه فهذا مخطئ له حكم المخطئين"[مدارج السالكين (1/336)].
فمن جوز في العملية الديمقراطية أن يختار ممثلو الشعب من المشرعين حكماً واحداً خلاف ما أنزل، فقد كفر.
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعليقاً على قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...} [النساء: من الآية 65].
"وهذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله ورسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة والرضا بها والإيمان بأنها الحكم بين الناس، فلا بد من هذا. فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها أو قال إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال، سواء كانت شرقية أو غربية، فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه ويكون بذلك كافرا كفرا أكبر، فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه ولكن لو حكم كان أفضل، أو رأى أن القانون أفضل، أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام"[مجموع فتاوى ابن باز: (6 / 192)].
وقال رحمه الله: "فالواجب على جميع حكام المسلمين أن يلتزموا بحكمه سبحانه، وأن يُحكموا شرعه بين عباده، وألا يكون في أنفسهم حرج من ذلك، وأن يحذروا اتباع الهوى المخالف لشرعه، وألا يطيعوا من دعاهم إلى تحكيم أي قانون أو نظام يخالف ما دل عليه كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين سبحانه أنه لا إيمان لأهل الإسلام إلاّ بذلك، فكل من زعم أن تحكيم القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله أمر جائز أو أنه أنسب للناس من تحكيم شرع الله، أو أنه لا فرق بين تحكيم شرع الله وتحكيم القوانين التي وضعها البشر المخالفة لشرع الله عز وجل، فهو مرتد عن الإسلام كافر بعد الإيمان إن كان مسلماً قبل أن يقول هذا القول أو يعتقد هذا الاعتقاد، وكما صرح بذلك أهل العلم والإيمان من علماء التفسير وفقهاء المسلمين في باب حكم المرتد"[مجموع فتاوى ابن باز: (6/159)].
"فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه ، وحكموا شريعته في كل شيء ، واحذروا ما خالفها وتواصَوا بذلك فيما بينكم، وعادوا وأبغضوا من أعرض عن شريعة الله وتنقصها أو استهزأ بها وسهل في التحاكم إلى غيرها، لتفوزوا بكرامة الله وتسلموا من عقاب الله، وتؤدوا بذلك ما أوجب الله عليكم من موالاة أوليائه ، الحاكمين بشريعته، الراضين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعاداة أعدائه الراغبين عن شريعته المعرضين عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم" [مجموع فتاوى ابن باز: (2/142)].
والذي يقول بجواز الديمقراطية الغربية، قائل بجواز الحكم بغير ما أنزل الله إن اختار ذلك الناس، وهذا قدر كاف في الحكم عليه بالكفر، لا لأنه حكم بغير ما أنزل الله، بل لأنه جوز ذلك.
ولا أعلم أحداً من أهل العلم يقول بجواز الديمقراطية الغربية، وإن وجد من جهال الإسلاميين والمثقفين من يرى أن الديمقراطية اللبرالية توافق الإسلام، وزعم أن الإسلام يعطي الحق للأحزاب الإلحادية والكفرية في المشاركة والاختيار وأنها إذا اختارت مخالفة الشريعة فذلك لها، وعلى الدولة أن ترضخ لخيارها حتى وإن كانت قادرة على مخالفته.
والذي يقول من الإسلاميين أنا أكفل للشيوعيين واللادينيين تشكيل حزب والمشاركة، لكني لا أجوز آراءهم، ولا أقول بها، لكن جهرهم بها ودعوتهم لها حق لهم، يقال له: لو جوزت آراءهم وقلت بها، لكنت كافراً بصرف النظر عن تجويزك مشاركتهم من عدمها، لكن تجويزك مشاركتهم وكفالة ذلك لهم، يلزم منه تجويزك لأن يعصوا الله ويحادوا الشريعة وزعم منك بأن المعصية حق للعاصي، ومن قال يجوز لأحد أن يتلفظ بالكفر ويحاد شرع الله، وإن كنت لا أرى الكفر فهو كافر لأنه جوز لغيره المعصية.
وأما الديمقراطية الإسلامية، فالواجب قبل الحكم عليها أن نقول للقائل بجوازها صوِّرها لنا، وَواقع الإسلاميين اليوم طرح تصورات شتى، منها ما يشتمل على الحرام البين، ومنها ما هو اجتهادي، يسوغ الخلاف فيه.
حكم المشاركة في العملية السياسية المبنية على نظام ديمقراطي.
المنكر الأكبر هو الرضا بالديمقراطية الغربية وتجويزها، ومتى انتفى ذلك زال أكبر إشكال.
وليس الحديث هنا عن خيار بين أمرين: إما المشاركة في إقامة حكم إسلامي أو المشاركة في إقامة نظام ديمقراطي، فلو كان الشأن كذلك لما وسع إسلامياً إلاّ أن يختار الأول، ولا أظن إسلامياً تتاح له فرصة إقامة خلافة راشدة على منهاج النبوة يفضل أن يكون نظام حكمه ديمقراطياً على الطريقة الغربية؛ هذا لا يكون من مؤمن!
لكن الشأن في واقع مفروض إما المشاركة في العملية الديمقراطية على قواعدها الغربية، وإما أن يستبد بأمر الحكم اللبراليون والعلمانيون والملحدون.
فهل المشاركة في العملية معهم ومزاحمتهم تقتضي الرضا بها وتجويز دخول أولئك فيها وإباحة ما يكتنف الديمقراطية الغربية من إشكالات؟
الحق أنه لا تلازم بين المشاركة والرضا أو تجويز ما عليه النظام، فقد يدخل العمل الديمقراطي وبرلماناته المُقِرُّ لمبادئه، وقد يدخل فيه من يريد إصلاحه، وللتقريب يمكن أن ننظِّر ذلك بحانة يباع فيها الخمر!
قد يدخلها من رضي بها، وجوز وجودها، ويريد أن يخالف الشرع بداخلها، وقد يدخلها في المقابل من يريد إراقة ما فيها أو الإنكار والمعارضة لمخالفة الشريعة أو الإصلاح بالدعوة لاستبدال ما فيها بطيبات أحلها الله.
ودخول البرلمان أو المجلس التشريعي ليس محظوراً للبناء نفسه، بل المحظور العظيم التشريع من خلاله ما يخالف حكم الله، فإن صدر قرار بالأغلبية يخالف حكم الله، فقد برئت ذمة من عارضه وأنكره، كما برئت ذمة ذلك الرجل من قوم فرعون الذي خالط الملأ في مجلسهم التآمري وأنكر عليهم، فقال في الملأ ما أخبر الله تعالى عنه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، إلى قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45].
بل قد عذر من كتم ولم يستطع الإنكار لكنه أنذر، كما في قوله تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20]، فلم ينكر عليه.
- ويوسف عليه السلام شارك في حكومة ملك مصر وكان دين الملك غير دينه.
- والنجاشي رحمه الله كان رأس الحكومة وكان محل ثناء رضي الله عنه.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى، من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم. نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم"[تفسير ابن سعدي ص388، على تفسير آيات سورة هو: (92-93)].
وأغلبية السلفيين تعي هذا جيداً فيقولون بجواز المشاركة في العملية الديمقراطية إن كانت المشاركة فيها ستخفف من فساد الواقع وهذا قديم عندهم وليس بالرأي الجديد! وللفائدة في هذا الصدد فإن العلامة ابن سعدي أكمل تفسيره في عام 1344هـ الموافق 1925م، أي قبل أن يؤسس الشيخ حسن البنا رحمه الله جماعة الإخوان المسلمون بثلاث سنوات! وقد صدرت فتاوى أكابر مشايخ السلفية بأحكام واضحة مقررة في هذا الشأن.
وإذا أردنا أن نحاكم المنهاج السلفي فلنحاكمه إلى أصوله من الكتاب والسنة، أو نحاكمه إلى آراء كبار أئمته الذين يقلدهم عامتهم، وفتاوى أئمة السلفيين المعاصرين التي تثبت أن هذا منهاجهم السائد أو على الأقل منهاجاً مرضياً لا يخرج عن كونه اجتهادياً مقرراً عند أكثرهم فحسبك منها:
- فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كما في مجلة لواء الإسلام العدد (3) ذو القعدة 1409، وكذلك مجلة الإصلاح العدد 241-17 بتاريخ 23/6/1993م.
- فتوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، كانت فتواه على موقعه [ينظر:
http://www.ibnothaimeen.com/all/sound/article_ 16230.shtml].
- ومن المعاصرين فتوى الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله، التي نشرت في موقع طريق الإسلام وغيره [على الرابط التالي:
http://ar.islamway.net/fatwa/36723?ref=search].
ولا أزعم أنه لا يوجد من خالف هذه الفتاوى من كبار أهل العلم لكنهم قلة من جهة، ومن جهة أخرى يقدرون اجتهاد، المجوزين للدخول وإن خالفوهم.
تنبيه على تلبيس:
ومن التلبيس في هذا الباب ما يصنعه بعضهم من محاكمة جمهور السلفيين إلى آراء بعضهم فيقول بالأمس تحرمون المشاركة لما حرمها الحاكم واليوم لما زال تحللونها! ويدفعه لهذا التوهم عدم مشاركتهم بالأمس بالإضافة إلى حكمهم على تجويزها والرضا بها، وفي الحقيقة هذا سوء تصور فعلماء الدعوة السلفية من أقدم الناس بياناً لحكم المشاركة قبل أن تختط بعض الجماعات سبيلها في التسعينيات! أما عدم مشاركتهم قبل فلأن الأحوال لم تكن مهيأة وكانت المشاركة عبثية، فلا معنى لتبديد الأموال والجهود في غير كبير طائل، ومع ذلك كان كثير منهم يقدرون من تركوا الأهم وانصرفوا لما حسبوه مهماً.
فهذه مغالطة ينبغي أن تبين! ومن التلبيس كذلك محاكمتهم إذا دخلوا اضطراراً لتقليل المنكر أو تغيره لما يقررونه في صورة دخولها إيثاراً للنظام الديمقراطي على الإسلامي! فليس ذلك هو واقع الحال، وإنما كان دخولهم تعاملاً مع واقع بغرض إصلاحه، ومتى ما تهيأ لهم إقامة نظام حكم إسلامي أو خلافة راشدة على منهاج النبوة، فسينبذون النظم الغربية، وليسمه من يسمه انقلاباً على الديمقراطية.
ومما تقدم علم أنه لا تجوز الدعوة ابتداء لنظام ديمقراطي على المثل الغربية، لكن يدعى لإقامة حكم شرعي، ونظام إسلامي.
محظورات أخرى في العملية الديمقراطية:
الإشكالية الكبرى في الديمقراطية الإذن في تشريع ما يخالف حكم الله، لكن ثمة إشكالات أخرى تعرض في النظام الديمقراطي، من جهة إلزام المشاركين بالقسم على احترام الدستور، ومن جهة ما يعتري العمل البرلماني من تحالفات، وما يقتضيه من علاقات ودية مع بعض من لا خلاق لهم، ومن جهة صرفه الدعاة عن وظيفتهم المهمة إلى مخاطرة لا يجزم بما تنتج إلى غير ذلك.
ومن اتقى الله جعل له في جميعها مخارج شرعية، فقد رأينا الإخوة في البرلمان الكويتي والمصري يقيدون قسمهم صراحة بأن ذلك فيما لم يخالف حكم الشرع، مع أن لهم مندوحة فيما يقرره الفقهاء في مضايق الأيمان، إن هم منعوا من ذلك، وذلك أن الأصل في اليمين أن تكون على نية المُحلِّف، لكن إن كان ظالماً جاز فيها من التورية، والتخصيص ما لا يجوز من حيث الأصل كما هو مقرر في مواضعه من كتب الفقه وغيرها.
وأما إشكالية الخلطة فقد رأينا كثيراً منهم كان البرلمان عوناً له في إبداء عقيدة البراءة من المحاربين للشريعة، بل كانت البرلمانات ميداناً رحباً لجهادهم جهاداً كبيراً بالكلمة، والتحالف مع بعضهم لحاجة كالتعامل التجاري مع الكافر أو الحربي لحاجة، لا يمنعه أهل العلم، ولا يجوز أن يتضمن مودة لمن حاد الله ورسوله.
ووصيتي لكل من يشارك أن يُراعي نفسه، فلا تخفت عقيدة البراءة من محادّي الشريعة في نفسه جراء المجاملات والخلطة، ولا يركن إليهم، وهذا لا يعني ترك الانصاف، أو المدارة، لكن ليعلم أن من يحارب الدين و يحادد أحكام الشريعة ليس أهلاً للبر والإحسان.
وأختم هذه الورقة بفتوى كتبتها مؤخراً في هذا الشأن، وهي جواب عن سؤال وجه إليّ عن حكم تكوين الأحزاب والمشاركة في الانتخابات، من إحدى البلدان الإسلامية، وقد عرضت على شيخنا العلامة عبدالرحمن بن ناصر البراك لطلب السائل رأيه، وقد أيده الشيخ حفظه الله، وإليكم الجواب بنصه [صدرت في منتصف شهر جمادى الثاني من عام 1433 للهجرة]:
"الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فإن الديمقراطية بضاعة غربية المصدر والمضمون، تعارض محكمات شرعية، بجعلها حق التشريع مكفولاً للشعب أو ممثليه، ومن مقاصدها التسوية وكفالة التعددية والحريات وفقاً لمقررات الأكثرية المقيدة بحدود الحقوق الأساسية، وهذه الحقوق تفسرها وترعاها مؤسسات أممية ومنظمات معنية بالمراقبة والتقويم، وليس شأن الحريات والحقوق الأساسية متروكاً لكل أمة تفسره وفقاً لدينها.
وأما آلياتها الانتخابية فشأنها أهون، وإن كنّا لا نراها نظاماً شرعياً في اختيار الحاكم أو النُّواب، ولا كان الناس ينصبون عرفاءهم بهذه الطريقة، لكن النظر فيها يبقى اجتهادياً، فإن لم يكن ثمة خيار غير الاستبداد أو تلك الآليات الانتخابية فلعل تلك الآليات تكون سبباً في دفع مفسدة أكبر، ولاسيما في عصور رقَّت فيها الدِّيانة، وغدا بعض أهلها يستَخْفُون من الناس ولا يستخفون من الله.
وأما سؤالكم عن إمكانية فصل جانبها النظري والفكري عن جانبها الإجرائي، فلا يصلح له جواب مجملٌ بنفي أو إثبات، بل لابد من تفصيل؛ فلا يمكن عند التزام مقاصد النظام الديمقراطي القائم على إطلاق الحريات والمساواة، ويمكن باعتبار الأخذ بالآليات الانتخابية في ظروف معينة، والعمل على أسلمتها بفرض قيود لا تتعداها طريقة الاختيار، ولا ما يقرره المُخْتَار عبرها؛ كأن تستبعد في الاختيار النساء من مناصب معينة مثلاً، أو تستبعد مشاركة الأحزاب الكافرة وكذا الفاجرة التي تدعو إلى الرذائل مثلاً، أو تُقيِّد من يُطْلَق عليهم بالمُشَرِّعين أو المُمثِّلين بحدود الشريعة.
كل هذا ممكن تحققه لكن الشأن في تسمية مثل هذا النظام (ديمقراطية)، فلو فُرض وجود نظام كهذا فلا يمكن أن تسلم المنظمات الأممية والمعنية بمراقبة الديمقراطيات والحريات بأنها ديمقراطية حقيقية، ولن تُغني عن المسلمين تسميتهم لها (ديمقراطية) شيئاً عند المتحكمين المقوِّمين، ولأجل هذا كان النظام الإيراني مثلاً من أسوء الأنظمة في نظر الغربيين والمؤسسات الأممية، حتى إن بعض المؤسسات العريقة المعنية بالحكم على الأنظمة السياسية تصنفه أردأ من أكثر الأنظمة الملكية. وهو كذلك فالنظام الإيراني يُدَّعى أنه إسلاميٌ ديمقراطي لكنه في حقيقته لا إسلامي ولا ديمقراطي، بل قمعي طائفي عِرقي شعوبي.
وأما الدستور المبيَّنة مواده فليس بالدستور الشرعي وإن نص على أن الإسلام دين الشعب والدولة، لأن المواد الأخرى تدل على أن هذا النص لا يقتضي الإلزام به في الحكم والتشريع، وأن القانون أعلى مرتبة من مقرراته، أشبه طريقة النصارى الذين تنُصُّ بعض دساتيرهم العلمانية على دين الدولة، لكنهم يجعلون محلَّه الكنائس والبيع! وشريعة الإسلام لا يصح فيها ذلك، {{C}{C}فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{C}{C}} [النساء:65]. تم ذكر: {{C}{C}فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{C}{C}}، ودلائل الكتاب والسنة القطعية المتواترة دالة على وجوب تحكيم شرع الله وإن خالف الأهواء التي لا تهتدي بهدى الله.
ومع ذلك فإن المشاركة في العملية الانتخابية لأجل تخفيف منكرات النظام، ومعارضة كلِّ تشريع يخالف حكم الله، والدعوة إلى إعادة صياغة الدستور صياغة إسلامية، جائزة، وليست من الرضا بالدستور المذكور في شيء، وعلى هذا فتاوى جل أكابر المعاصرين من أهل العلم، فقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها؟ مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله.
فأجابت: لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين، ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلاّ في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم [السؤال الخامس من الفتوى رقم (4029)، المجموعة الأولى 23/407، والفتوى بإمضاء أصحاب الفضيلة العلماء: عبدالعزيز بن باز، عبدالرزاق عفيفي، عبدالله بن غديان، عبدالله بن قعود، رحمهم الله أجمعين].
وسئلت أيضاً: كما تعلمون عندنا في الجزائر ما يسمى بـ : (الانتخابات التشريعية)، هناك أحزاب تدعو إلى الحكم الإسلامي، وهناك أخرى لا تريد الحكم الإسلامي. فما حكم الناخب على غير الحكم الإسلامي مع أنه يصلي؟
فأجابت: يجب على المسلمين في البلاد التي لا تحكِّم الشريعة الإسلامية، أن يبذلوا جهدهم وما يستطيعونه في الحكم بالشريعة الإسلامية، وأن يقوموا بالتكاتف يدًا واحدة في مساعدة الحزب الذي يُعرف منه أنه سيحكم بالشريعة الإسلامية، وأما مساعدة من ينادي بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية فهذا لا يجوز، بل يؤدي بصاحبه إلى الكفر؛ لقوله تعالى: {{C}{C}وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ{C}{C}} [ المائدة:49-50].
ولذلك لما بيَّن الله كفر من لم يحكم بالشريعة الإسلامية، حذر من مساعدتهم أو اتخاذهم أولياء، وأمر المؤمنين بالتقوى إن كانوا مؤمنين حقًا، فقال تعالى: {{C}{C}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{C}{C}} [المائدة:57]، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم [فتوى رقم (14676)، المجموعة الثانية (1/373)، والفتوى بإمضاء المشايخ: عبدالعزيز بن باز، وعبدالرزاق عفيفي، وعبدالله بن غديان رحمهم الله].
وسئل الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب، وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس، فأجاب:
"إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»؛ لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق، والانضمام إلى الدعاة إلى الله. كما أنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله، والله الموفق"[مجلة لواء الإسلام العدد (3) ذو القعدة 1409، وانظر كذلك مجلة الإصلاح العدد 241-17 بتاريخ 23/6/1993م].
وأجاب الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله سائلاً عن حكم الانتخابات الموجودة عندهم في الكويت وادَّعى السائل أن أغلب من دخلها من الإسلاميين ورجال الدعوة فتنوا في دينهم؟
فقال: "أنا أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً، لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر، أو الناس السلبيون أتباع كل ناعق" [تسجيل صوتي، تجده في موقع الشيخ على الرابط أدناه:
http://www.ibnothaimeen.com/all/sound/article_16230.shtml]، وذكر أنه يرى ذلك ولو كان الإسلاميون قلة.
وفتاوى أهل العلم بالتجويز والإيجاب كثيرة، والمشارك ما شارك إلا ليصل إلى إبطال الدستور المخالف للشريعة أو تغيير منكره أو تخفيفه، يعلن ذلك ويؤيده عمله، فلا يقال إن دخوله للإصلاح والإنكار دليل رضى، فبناء على ما سبق، فإن المشاركة بقصد الإصلاح جائزة بشروط من أهمها:
1- أن تكون المشاركة خالصةً لوجه الله، لإعلاء كلمة الله تعالى، ورفع الظلم والطغيان، وإنهاء الحكم بغير ما أنزل الله في حدود الطاقة والوسع.
2- أن تكون فعليةً بحيث ينهض المشاركون بمهمتهم التي قصدوا إليها.
3- أن لا يتضمن دخولهم محظوراً من نحو القسم الصريح على احترام الدستور أو التزامه، فإن كان ذلك لابد منه لأجل المشاركة ففي المعاريض عند المضايق مندوحة عن الحلف الكاذب ولها وجه في مثل هذا المقام، وقد يتيسر الاستثناء الصريح في المجلس نفسه كما فعله ويفعله كثير من النواب في الكويت ومصر إبان الثورة.
4- أن يكون المشاركون على قدرٍ من العلم والفهم، أو يصدرون عن رأي طائفة من أهل العلم والنظر، بحيث لا تروج عليهم مخالفة الشريعة، ولا يخدعون بالتأويلات.
5- ألا يركن الداخل إلى الذين ظلموا، وأن تبقى جذوة الولاء على الدين والبراء بسببه متقدة في قلبه، لا تطفئوها مخالطة الآخرين، وألا يألو جهداً في الإصلاح والإنكار.
6- ألا يكون العمل السياسي على حساب الدعوة إلى توحيد الله، ومحاربة البدع، ونشر العلم، فلا يزاحم المهم الأهم، ولكن لتتصدى لهذا شريحة تحسنه ترجع إلى العلماء أو ليكن من العلماء فيهم نفر لا يخل بالدعوة والتعليم ونشر السنة في البلد.
فهذه جملة شروط إن توافرت فنرى جواز المشاركة لتحقيق مصلحة أعلي، ودفع مفسدة أعظم.
والله أسأل أن يكتب لإخواننا ما فيه خير الدنيا والدين، وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم".
قال الشيخ البراك تعليقاً مثبتاً على الفتوى بختمه:
"الحمد لله، أؤيد ما جاء في هذه الفتوى من جواز المشاركة بالشروط المذكورة". انتهى.
هذا وأسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يبصرهم في الدين، وأن ينصر كتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين.
إشكالية التلازم بين الرضا بالديمقراطية والتعامل معها:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد فإن على المسلم أن يزيل المنكر إن قدر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره» (رواه مسلم في صحيحه)، وقوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79]، والأدلة على هذا المعنى متظاهرة.
وإن لم يستطع إزالة المنكر لكن أمكنه التخفيف منه فذلك واجب عليه، فمن أصول الشريعة تقليل المفاسد إن لم تمكن إزالتها، قال ابن القيم رحمه الله: "إنكار المنكرات أربع درجات؛ الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة" [إعلام الموقعين 3/4، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية (28/129-131)]، ومن أدلته قوله تعالى: {فَاتْقُوا اللهَ مَا اَسْتَطَعَتُم} [التغابن: من الآية 16]، «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337)، وهذا لفظ البخاري)، والأدلة على هذا المعنى كثيرة.
لكن من المقرر من حيث الأصل كذلك منع التوسل إلى طاعة الله بمعصيته، ولا يُشكل على هذا أن المحرم تُبيحه الضرورة بقدره كما هو مقرر، فالطاعة المعجوز عنها حكماً لفوت شرطٍ شرعي أو قيام مانعٍ شرعي كالطاعة المعجوز عنها حقيقةً لا يكون إتيانها واجباً ولا مستحباً ليقال تُفعل ضرورة، ولهذا لم يقل فقيه بجواز السرقة لتحصيل نفقة الحج، بل قال القائل -وتجاوز:
وكذلك المرأة لا يجوز لها الحج بغير محرم مع أن الحج ركن الدين، غير أن من شرط وجوبه رفقة المحرم في السَّفر، واختلفوا في سَد الرفقة المأمونة مسدَّه، فإن لم تجد المحرم كانت عاصية بسفرها، مع صحة حجها.
و«إن الله طيب لا يقبل إلاّ طيباً» [عنوانه: "Islamotopia: The Muslim Brotherhood's Idea of Democracy"] ،{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجِ} [الحج: 78من الآية ]، ليتوسل بمعصيته إلى طاعته، وإنما تجاوز عن المكره بمَنِّه فرفع عنه حكم الذنب وإن تلفظ بالكفر، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، كما تجاوز عن المضطَّر بفضله فرخص له أن يأتي المفسدة، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: من الآية 119].
ولهذا إن كان لابد للمرء من إحدى مفسدتين ضرورةً فهنا لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات مجال، كأكل الميتة لمنع زهوق النَّفس مثلاً، وكرفع الإثم عمن رمى نفسه في البحر المخوف الهائج وهو لا يأمن السلامة لينجو من الحَرَق المحقق [الأكثر على التخيير إن استوى الاحتمالان، فإن رجح أحدهما سُلك، أما إن استويا فأكثرهم على غير المنع إما على القول بالانتقال لسبب الموت الآخر، أو على القول بالتخيير أو القول بجواز الانتقال لكن عند مسيس السبب الأول ليكون في حكم المكره، وبعضهم يوجب الانتقال من سبب الموت إذا حل، انظر شرح السير الكبير 4/1514، والمغني 9/256، ومفتاح دار السعادة 2/19، والموسوعة الفقهية 2/125]، وكإتلاف الأموال والمتاع بالرمي في البحر للنجاة من الغرق بل في التنْزِيل: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: من الآية 141 ].
وبعد هذه المقدمات المهمة:
تجيء إشكالية المشاركة في الانتخابات منتخَباً أو منتخِبا بقصد إزالة منكر بتحكيم شرع الله، أو بتخفيف معارضة الشريعة عن طريق اختيار الأمثل، هل هذا من قبيل التوسل إلى الطاعة بالمعصية المحرمة بل بالمشاركة في التشريع والحكم، والدخول في عملية كفرية (ديمقراطية)؟
أم هو من قبيل إزالة المنكر أو تخفيفه بفعل لا يشتمل على محذور في ذاته ولا يقتضيه؟
هذا هو موضع الإشكال الذي اضطربت فيه أفهام فئام ممن أرادوا خيراً!
ولمعرفة وجه الصواب في القضية لابد من استحضار أن التصويت للأقل مفسدة وإن كان كافراً ليس محرماً في ذاته بنص كالزنا! فإن الأفعال التي نص الشارع على تحريمها يجب اجتنابها، فلا يقال هذا الرجل إذا لم أشرب معه الخمر سيشربها مع تلك المرأة ويفجر بها! فهنا لا سبيل للتخفيف للعجز الحكمي بسبب تحريم الفعل المقلل للمفسدة بل اجتناب المحرم واجبٌ، وكل نفس بما كسبت رهينة، وليس في الصورة المفروضة إكراه يعذر به، أو ضرورة تلجئوه لأحدهما.
أما إذا أمكن التخفيف بفعل لم يتوجه إليه نهي فيجب التخفيف، فإن أمكن رجلاً أن ينهى آخر بحضوره مجلس المنكر لإنكار بعض المنكرات دون بعضها وكان إذا غاب وقعت كلها شرع له الحضور لتقليل المخالفة بهذا القيد، وليس حضور المنكر لإنكاره من شهود الزور المنهي عنه.
وكذلك التصويت هو إدلاء بالرأي أصله جائز لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُم} [الشورى: من الآية 38]، ونحوها من الآيات، ولأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شاور الناس [وأصل الخبر في الصحيح، رواه البخاري (7207)]، وإنما دخل المنكر من جهة تسوية القائمين على الانتخابات في النظم المعاصرة رأيَ أهل الحل والعقد بالعامة، وتسوية الكافر بالمسلم، وهذا يتحمل وزره القائم على الانتخابات، فإن عُلم أن هذا سيعتمد رأي الأكثرية، وعُلم أن الواجب اعتماد رأي أهل النظر، شرع للعامة تكثير رأي هؤلاء بفعل هو في أصله جائز ما لم يفد إقراراً للمنكر.
فإذا كان المشارك يكثِّر رأي أهل الرأي والنظر وينتخب من يشير به أهل العلم وهو يعلن موقفه من الديمقراطية، فلا يقال إن مشاركته محرمة في ذاتها ولا باعتبار ما تفضي إليه في هذه الحالة، بل المحرمة من تفضي مشاركته إلى مخالفة رأي أهل الحل والعقد، بل لو قيل بتحريم مقاطعة من تفضي مقاطعتهم الانتخابات لمخالفة أهل الرأي المعتبر لكان وجيهاً.
وقول بعض الفضلاء: المشاركة في التصويت مشاركة في الديمقراطية الكفرية وذلك رضا بها فلا تجوز بحال، أو بعبارة أخرى: رضا بالتشريع البشري المخالف لشرع الله وحكمه كالتشريع.
شبهة ملخصها أن التصويت محرم للزوم الإقرار أو الرضا له:
وكشفها باختصار في بيان أن المشاركة أنواع منها ما يكون رضا بالتشريع أيَّاً كان الاختيار وإقراراً له ومنها ما لا يكون كذلك، فجعل كل تعامل مع منكر رضا أو إقراراً له مجرد دعوى، يظهر فسادها إذا اعتبرتها في منكرات أخرى، نظِّرها كما نظرها بعض أهل العلم بالمشاركة في دخول خمَّارة فيجب أن يفرق بين من دخلها لإزالة المنكر الذي بداخلها أو تخفيفه وبين من دخلها ليشرب أو يفجر والتسوية بين هذين من أبين الظلم، بل لو شارك في منافسة لإدارة المبنى وهو يعلن أنه سيحوله إلى مطعم فعمله مبرور.
أما سكوته أو إحجامه أو مقاطعته لشؤون لابد فيها من وقوع أحد محظورين وله بدفع أحدهما يد فهو معتبر كفعله بل السكوت للإقرار والرضا أقرب فإن قلت أنا أعلن رفضي للاثنين مع علمي بأنه مؤثر في نتيجة الانتخاب فكذلك المشارك يعلن مخالفته للاثنين لكنه دفع بالأخف ضررا استجابة لمقاصد الشريعة وعملا بقاعدتها في المصالح والمفاسد، وكما لم يلزم الرضا المقاطع فلا يلزم المُشارِك المنْكِر الذي يعلن أنه إنما يريد بمشاركته تخفيف المنكر، وإلاّ كان كل عمل على تقليل المنكر رضا بالمنكر الأدنى وهذا خلاف الواقع وما يقرره الفقهاء.
وهذا في المشاركة بالعملية الديمقراطية يشمل المشاركة في الترشح بغرض إقامة الشرع، و المشاركة في ترشيح من يقيم الشرع والمشاركة في الدفع بالأخف ضرراً مع الجهر بالإنكار على مخالفاته.
- فالذي يزعم أن المشاركة بالترشح في العملية الديمقراطية مشاركة في التشريع أو رضا بمبدأ التشريع المخالف لشرع الله يغالط واقع المشارك الذي يُعلن أن الغرض من مشاركته إقامة شرع الله، وهو يعلن أن تلك خطته وذلك برنامجه الذي يحاول فرضه لا يرضى بسواه بل سيعارضه.
وللمخالف أن يعكس القضية ويقول إحجامك إباحة أو رضى أو إقرار للاثنين أو من يظفر ولو كنت منكراً حقاً لا ادعاء لصَدَّق القولَ عملٌ؛ فإن كان عذرك العجز عن الإزالة كما هو عذر المشارك فليس لك عذر في ترك السعي للتخفيف من المنكر فذلك مقدور لك.
والقصد بيان غلط من عد الداخل مشاركاً في المنكر ولو دخل لإنكار التشريع المخالف لحكم الله أو تخفيفه، والمغالطة في هذا عند من تصورها أقبح من المغالطة في عد الداخل خمارةً من أجل الإنكار شارباً! والداخل لسوق مقراً لكل منكر فيه والمشارك في منبر عام -كمنابر الانترنت مثلاً- كذلك والداخل مدينة كذلك والعامل في مؤسسة كذلك وهلمّ جرا!
- وأما الذي يزعم أن المصوت للأخف ضررا تصويته له رضا بمنكرات برنامجه الذي اختاره، فلا يسلم وهو يعلن الإنكار عليه حيث خالف الشرع! وقريب من هذا اختيارك الصلاة بين اثنين أحدهما أخف بدعة من الآخر فلا يقتضي ذلك رضاك ببدعته! وجهادك خلف الإمام الظالم أو الفاجر أو المبتدع لا يلزم منه رضا بما هو عليه من الباطل أو مشاركة له فيه.
نعم ترجيح صاحب برنامج أقل مفسدة يحتمل اختيارك له لرضاك ببرنامجه وهذا منكر ويحتمل اختيارك له دفعا لمفسدة أعظم فإن كنت تصرح بهذا وتعلنه وتنكر على المختار مخالفته انتفى احتمال الرضا وإن لم يظهر ذلك منك وجب الاستفصال منك للاحتمال، لا الاعتساف بالادعاء على النيات وصرف المحتمل لأسوأ محامله، ولهذا كانت جل فتاوى أكابر الراسخين من أهل العلم وفقهاء الشريعة مسوغة للمشاركة في العملية الديمقراطية لتخفيف منكرها أو إزالته، ولم يروا أن من لازم ذلك رضا بها.
وقد علم أنه ليس من شرط اختيار المرشح قانونياً أو عرفياً الرضا أو الموافقة والإقرار له على كل برنامجه، كما أن حب ظهور أقلهما مفسدة لايدل على الرضا بمخالفته للشريعة، ولهذا فرح المؤمنون بظهور الروم على الفرس كما في تفسير: {ألم غُلِبَتْ الرُّوُم}، إلى قوله: {وَيَوْمَئِذِ يَفْرَحُ المُؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 1-5]، مع أن الروم كفار نصارى مثلثة مشركون! لكن شركهم وكفرهم أخف من شرك المجوس القائلين بالأصلين.
وكذلك شارك يوسف عليه السلام في حكومة فرعونية ولم تكن مشاركته رضا منه بما عليه الدولة التي ينتسب لحكومتها، ولا يقال هذا شرع من قبلنا فالكفر المتعلق بمشاركة الله تعالى في حق التشريع لا تختلف فيه الشرائع فلو كانت المشاركة من لازمها الإقرار والرضا لكان ذلك كفراً في شريعته وشريعتنا لأن حق التشريع من أمور العقائد وأصول الإلهية التي لا يدخلها النسخ، ولهذا قال في الأمم التي قبلنا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: من الآية 31]، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: من الآية 21].
نعم قد نختلف في واقع معين حول جدوى المشاركة في تخفيف المنكر أو جدوى المشاركة في التمثيل مع ما يكلِّفه إذا كانت ثمة أمور أولى تشاح تلك المشاركة وتلك مسألة اجتهادية.
ونختلف خلافاً أكبر مع من تهيأت له وسائل أخرى لإقامة دين الله أو التخفيف من معارضة شرع الله، ثم أبى إلاّ الديمقراطية! ونختلف كذلك خلافاً أعظم مع من يزعم أن تخفيف المنكر يُصيِّر المخفف غير منكر فيمنع إنكاره، وخلافاً فوقه مع جاهل لم يعرف دين الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم فيزعم أن الديمقراطية الغربية اللبرالية لا تخالف الدين ما دامت تحترم جميع الأديان وتسوي بينها وتعتبر حقوق الأقليات!
ولا يجوز بحالٍ أن تسحب أو تلبس تنازلات هذا وأمثاله على المشاركة التي يجوزها كثير من العلماء.
وكل تلك وغيرها بحوث غير دعوى التلازم بين الرضا والدخول في العلمية الديمقراطية لتحكيم الشريعة ومنع المنكر أو الاختيار للتخفيف من مخالفة الشريعة، هذا والله أعلم وهو المسؤول أن يرزقنا وإياكم النية الحسنة والبصيرة في الأمور.
- التصنيف:
- المصدر: