وقفات مع حياة فضيلة الشيخ "يحيى بن عبد العزيز اليحيى" 1

منذ 2012-12-18

سنلقي الضوء في هذه الصفحات على سيرة أحد رجال الحديث وأنصار السنة وقائد المسيرة لحفظ الوحيين، نحن هنا في وقفات مع حياة فضيلة الشيخ "يحيى بن عبد العزيز اليحيى" أحد الذين حفظ التاريخ جهودهم في حفظ السنة ونشرها عبر دوراته المباركة التي يقيمها في الحرمين.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:

فأهل الحديث نجوم سماء العلم، كواكب قبة الفهم، تيجان المدارس، بدور المجالس. لبسوا الليل، واستفاؤوا بالنهار.. كم من حكمة كتبوها، كم من دمعة سكبوها، كم من عَرَق في الطلب أذروه، كم من مداد في الدفاتر أجروه. أما ساهروا النجوم في الرواية ؟ أما كدوا الأذهان في الدراية ؟ أما أتعبوا القلوب في الرعاية ؟ أما حثٌّوا النفوس على العناية ؟. آهٍ ما أحسن (حدثنا) في المسامع، وآهٍ ما أجمل (أخبرنا) في المجامع !!.. اشتغل الناس بجمع الدرهم والدينار، وبناء الدور وحفر الآبار، وعمارة البساتين وغرس الأشجار، واشتغلوا هم بجمع الآثار، ونقل الأخبار، ومصاحبة أنفُس المختار. سهر الناس مع أصوات العيدان، ونغمات القيان، وأشعار فلان وفلان، وسهروا هم سفيان وحماد، ومجاهد وابن الهاد، ساعة مع المتن وساعة مع الإسناد.

ونحن هنا في هذا الموقع المبارك سنلقي الضوء في هذه الصفحات على سيرة أحد رجال الحديث وأنصار السنة وقائد المسيرة لحفظ الوحيين، نحن هنا في وقفات مع حياة فضيلة الشيخ "يحيى بن عبد العزيز اليحيى" أحد الذين حفظ التاريخ جهودهم في حفظ السنة ونشرها عبر دوراته المباركة التي يقيمها في الحرمين.

وفي هذه الصفحة سنعرض الحوار وعناصر اللقاء التي طرحت على فضيلة الشيخ في حلقات كي يبقى اللقاء معه متجددا، وأسلوب الطرح متنوعاً، حتى تدوم الفائدة ويستمر التشويق. فإلى أولى محاور هذا اللقاء.

المحور الأول / معلومات شخصية.

الاسم: يحيى بن عبد العزيز بن عبد الله بن علي اليحيى

النسب: الوالد من قبيلة بني تميم، والوالدة من قبيلة عنزة

الكنية: أبو عبد الرحمن

المولد: ولدت في شهر رجب المحرم سنة 1380 من هجرة النبي r، في مدينة بريدة من أعمال محافظة القصيم.

في بلدة العلم القصيم ولادتي.. وإذا أردت دويرتي فبريدتي

أهل بيتك وأسرتك: في عصمتي أربع زوجات -ولله الحمد- ولي من الولد ثمانية عشر نفساً، اثنا عشر منهم ذكور، وستة منهم إناث. يحفظ القرآن منهم ثلاثة، ويحفظ السنة منهم واحد، وأرجو من الله -عز وجل- أن يكون جميعهم من حفظة كتاب الله وسنة رسوله.

 

رب أتمم مساعيا وأمانيا *** من لي سواك مُعَلِّقاً آماليا



الشهادات العلمية: في مجال الدراسة الأكاديمية حصلت على شهادة البكالوريوس في الفيزياء والتربية من جامعة الرياض (قديماً، والملك سعود حديثاً) عام 1403هـ كمواصلة للشهادة العلمية التي حصلت عليها في الثانوية، ثم غيَّرت مجرى الدراسة إلى العلم الشرعي والتحقت بجامعة الإمام محمد بن سعود، وحصلت على البكالوريوس مرة أخرى في أصول الدين عام 1407هـ. ثم رأيت أن أكتفي بهذا القدر من علم الجامعات لأشتغل بما تبقى من العمر في علم المساجد سائلا المولى -جل وعلا- حسن الختام .

المحور الثاني: النشأة وطلب العلم:

بداية، قُصَّ علينا رحلتك وأيامك التي قضيتها في الدراسة.

هي وإن كانت أياماً لم تحفل بكثير من الإنجازات، لكنها كانت مليئة بالمغامرات، وسأبدأ الحديث من المرحلة الابتدائية.. بدأت دراستي الابتدائية في قرية (أوثال) بحكم أن والدي كان مديرها، وهذه كانت المحطة الأولى، ثم تنقلت بعد ذلك في أربع مدارس حين انتقلت إلى بريدة حتى استقر بي المقام في مدرسة (رواق)، ومنها تخرجت وحصلت على الشهادة الابتدائية وترتيبي فيها (الأول أو الثاني). ثم درست المرحلة المتوسطة في متوسطة (صلاح الدين الأيوبي) حتى تخرجت منها وأنا الأول على فصلي، وبعدها درست الثانوية في ثانوية (بريدة العامة) الوحيدة آنذاك والتحقت بالقسم العلمي فيها ثم تخرجت منها وكنت من العشرة الأوائل .

ولموقفٍ مَّا حدث معي في الثانوية كان في داخلي دافع قوي لأن أكمل دراستي العلمية في قسم الفيزياء، فالتحقت بجامعة الرياض بقسم الفيزياء حتى تخرجت منها بتفوق، وأراد الله بي الخير وهداني إلى الاشتغال بما ينفعني وينفع أمتي - وقد كنت بدأت قبل ذلك بالاشتغال بحفظ القرآن والالتحاق بدروس العلم -، فلما قضيت من جامعة الرياض التحقت بجامعة الإمام محمد بن سعود في قسم أصول الدين حتى تخرجت منها حاملاً شهادتين جامعيتين: علمية وشرعية .

بعدها انكببت على علم الشريعة والتحقت بالحلقات في المساجد وحضرت الدروس وتنقلت بين الأشياخ حتى فتح الله علي في العلم والحفظ وبارك لي في العمر ببركة اشتغالي بعلم القرآن والسنة .

- إذن لم تكن منشغلا بطلب العلم الشرعي من أول عمرك، كيف كانت قصة التحول؟

نعم، قضيت زهرة شبابي في الدراسة العلمية في الثانوية والمرحلة الجامعية وما ندمت على شيء ندمي على
ذهاب وقتي في هذه الدراسة، ولا أكتمك سراً إن قلت إنها دراسة ما أريد بها وجه الله ؛ فقد كان وراء اختياري لقسم الفيزياء في الجامعة شيء من التحدي وإثبات الجدارة لأستاذ كثيراً ما عَلَّق عينا وعيَّر فهمنا .

ذات مرة قال لنا: أنتم "بدوان" ولستم على مستوى الأقسام العلمية، فتولَّدت عندي نزعةُ انتقام ورد كرامة وعزمت على أن أدرس هذه المادة وأنجح فيها ثم ألتحق في هذا القسم في الجامعة على بُغض مني وكراهة لأخيب ظن هذا الأستاذ فينا وكان لي ذلك وأبدعت في هذا القسم حتى صارت عندي أسس المعلومات الفيزيائية أسهل من السهل. ولكن قدر الله أن أحب العلم الشرعي في أول مرحلة من مراحل الجامعة، فكنت أقضي أغلب الأوقات في طلبه في المكتبة ومع المشايخ وغلب عليَّ حُبُّه حتى كدت أن أترك الفيزياء ولكن.. لم يُقدَّر لي ذلك، فأكملت الدراسة حتى حصلت على الشهادة ثم عُيِّنت مدرساً للمادة.

حتى جاء ذلك الموقف الذي هزَّني هزاً وكان وراء التحاقي بالدراسة الشرعية.. حين كنت ذات مرة في غرفة المدرسين جالساً إذ أقبل الطلاب يبحثون عن مدرس التربية الإسلامية ليسألوا عن مسألة شرعية فلم يجدوه، فتعرضت لهم لعلهم يسألون فلم يفعلوا -مع أن مدرس المواد الإسلامية كان رجلاً بسيطاً في علمه لكن كونه صاحب شهادة أعطاه هذه المكانة- فعلمت حينئذ أن الشهادة لها دور كبير في التأثير في الوسط الاجتماعي، عندها.

وفي نفس اليوم استأذنت من المدير وانطلقت إلى البيت فأخذت شهاداتي وما هو مطلوب مني وقررت أن أنتسب في كلية أصول الدين، وقابلت العميد الرومي، فما كان منه إلا أن قَبِل الانتساب مباشرة بالرغم من أن فترة القبول قد انتهت، ثم ما هي إلا أربع سنوات حتى أنهيت البكالوريوس في أصول الدين لأطلب بعد ذلك التحول من تدريس الفيزياء إلى تدريس العلوم الشرعية، ومن قبل ذلك ومن بعده وإلى يومي هذا وأنا أُدرِّس كلام ربنا وسنة نبيه . والحمد لله رب العالمين.

- قبل أن ندخل في تفاصيل حياتك العلمية كيف تصف سنواتك الأولى التي قضيتها من عمرك؟

حقيقة مرحلة الابتدائية كانت مرحلة طفولة، كانت مرحلة لهو ولعب ومغامرات. في الحقيقة لم أكن طفلاً عادياً، كنت في قمة الحيوية والحركة والتهور، وسأقص عليك بعض القصص: في فصل الربيع كان الأهل يسكنون البر أربعة أشهر تقريباً، فكنت أرعى الغنم وأحمل الكلأ والعشب الذي تجزه أمي، وكنت مولعاً بصعود الجبال فلا أدع جبلاً إلا وأصعده وأجلس أُنشد على ذروته ما تَلَقَّنْته في المدرسة، وآكل الحميض والبسباس والزعاليق والبقير والعراجين والفقع، فإذا رجعت تناولت الحليب بشراهة وكنت أشربه من الغنم مباشرة.

وأما في الصيف فكنت كثيراً ما أذهب مع أمي إلى قرية القصيعة وكانت كثيرة النخل، فجعلت لا أدع نخلة إلا رقَيت عليها وأكلت منها، فإذا اشتد الحر نزلت في القليب عبر الدلو وسبحت فيها وكانت عميقة جداً. المهم كانت حياتي مليئة بالمخاطر ولكن الله سلَّم .
في المتوسطة والثانوية عُرفت بالمشاكسة والشغب، كنت لا أدع إنساناً إلا وأحببت أن يكون لي معه موقف سلبي بمشاجرة أو بمضاربة، كانت مرحلة تصبغها الإثارة والحركة لكنها كانت في غير فائدة. إلا أنه في المرحلة الثانوية في الصف الثالث انضممت إلى جمعية التوعية الإسلامية وكانت بداية الخير، ثم في دراستي في جامعة الرياض بدأ الالتزام الجاد والالتحاق بدروس العلم، وفيها أيضاً صرت مؤذناً لجامع السكن الجامعي محتسباً ثم أصبحت إماماً ومع نهاية الدراسة الجامعية أتممت حفظ القرآن الكريم .

باختصار. حياتي كانت كلها دروس وعبر، حتى لعبي ومشاكسي استفدت منها دروساً، لقد رأيت في حياتي الحلو والحامض والمفرح والمحزن والمضحك والمبكي، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.


- فضيلة الشيخ: مسيرتك في طلب العلم الشرعي كيف كانت ؟ وهل عايشت تحولات منهجية أو نوعية من فن إلى فن في فترة الطلب ؟ نريد أن نلقي الضوء على المنهج الذي سرت عليه في طلبك للعلم.

لا شك أن الطالب في باكورة طلبه لا بد أن يمر بمدرسة التجربة ويخوض غمار الواقع، وهو حيث يضع نفسه فإن كان عالي الهمة فإنه لاشك لا يرضى بدون شواهق الكمالات.

 

ومن تكن العلياء همة نفسه *** فكل الذي يلقاه فيها محبب
ومن طلب العلياء وابتغاها *** أدار لها رحى الحرب العوان



فهو حينئذ سيذهب يطلب عالي الإسناد، وقوة المنهج، ولو تَبدَّى له صعوبة الطريق، ووعورة السير، وغرابة المسلك، ومخالفة الأقران، وربما مخالفة المنهجية السائدة في مجتمعه الصغير. وأما من كان ضعيف الشخصية ساذج البصيرة محبوس الفكر فإنه لن يطمح إلا إلى ما دون مدِّ بصره، وهذا مثله ليس أهلاً لطلب العلا.

 

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي



كانت بدايتي مع هذه المتون التي نسجها الناس، فحفظت اثنا عشر متناً في مختلف الفنون من لغة وفقه وعقيدة وفرائض. ولكن مع الأسف. لم أجد ضالتي التي أنشدها وبغيتي التي أطلبها، كانت المتون لها بريق يطيح بمن لم يغُص في حقيقة الأمر، ولها زخرفة تستهوي بسيط التفكير، وما هي بالنسبة لمتون الوحيين إلا كنسبة المن والسلوى إلى القثاء والثوم والبصل والعدس.

فكانت آمالي وتطلعاتي أكبر من ذلك، فَهُديت بحمد الله إلى حفظ المتون النبوية التي نسجها سيد الناس وأفصحهم وأبلغهم. أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وطفقت أُقَلِّب ناظريَّ وأجيل فكري في صفحات كتب السنة ومسانيدها المعتمدة. في صحيحي الشيخين ومسند أحمد وسنن الأربعة وغيرهم، وقلت في نفسي: أولئك أساتذتي وقدوتي وعلمائي. فعشتُ في رحاب الوحيين وصبغت نفسي بصبغتهما، والحمد لله الذي بهداه اهتدينا.

وبلا شك انضم إلى هذا دروس أحضرها في أكثر من فن، كان من أبرزها دروس في شرح السنة والتفسير والمصطلح والفقه والعقيدة والفرائض واللغة أخذتها عن أهلها الأثبات الثقات على ما هي الجادة المطروقة في طلب العلم أعني تلقي العلم عن الأشياخ وثني الركب في مجالسهم وحلقاتهم حتى لا يدخل المرء في قولهم :"من طلب العلم وحده خرج منه وحده" .

في نقاط واضحة. ما هي معالم منهجك في طلب العلم التي سرت عليها وتربي عليها طلابك؟

معالم المنهج الذي سلكته على قسمين:

(1)- معلم الحفظ والاستظهار

(2)- معلم الفقه والقراءة

الأول: معلم الحفظ والاستظهار: وهو في مجمله يعني الاشتغال بحفظ المتن عن ظهر قلب إلا أن الحفظ يهتم بضبط المادة المحفوظة بلفظها ،أما الاستظهار فإنه يهتم بحفظ المعنى والمحتوى .

والمتون المختارة لهذا المعلم هي مرتبة على النحو التالي:

1- الجمع بين الصحيحين (حفظ)

2- زيادات السنن الأربعة والدارمي والموطأ (حفظ)

3- زيادات المسانيد الثلاثة عشر (حفظ واستظهار)

4- زيادات الصحاح: ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (حفظ)

5- زيادات المعاجم الثلاثة (حفظ واستظهار)

6- زيادات مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة وسنن البيهقي (استظهار)

7- زيادات سنن سعيد بن منصور وسنن الدارقطني (حفظ واستظهار)

8- زيادات الأدب المفرد للبخاري والزهد لابن المبارك ووكيع وأحمد (حفظ واستظهار).

وهذه المتون هي مجموعة في سلسلة الموسوعة الحديثية التي نوزع أجزاءها على الطلاب في الدورات. ولا يخفى أن الطريقة المتبعة في حفظ هذه الكتب هي طريقة الزيادات وهي الطريقة التي نسير عليها في حفظ السنة في الدورات عبر مؤلف الجمع بين الصحيحين وزيادات كتب السنة عليه.

أما معلم الفقه والقراءة فهو يتضمن قراءة محصل التفاسير عند السلف الصالح، وقراءة شروح الأحاديث التي حفظها الطالب في المعلم السابق من كتب الشروح المشتهرة، وقراءة زيادات بقية كتب العلم المسندة في العقيدة والفقه والسيرة على الكتب السابقة.
ثمة هناك جزء يتعلق بتحصيل علوم الآلة وقد جمعت فيها مذكرات مختصرة تلخص أصول الأبواب وتعطي الطالب مجمل كلام أهل العلم في المسألة، وتعلم هذه العلوم في مرتبة بين الحفظ والقراءة. وهذه الكتب هي:

1- القواعد والتقاسيم العقدية والسلوكية .

2- القواعد والتقاسيم الحديثية .

3- القواعد والتقاسيم الأصولية والفقهية .

4-القواعد والتقاسيم اللغوية والنحوية .

هذه هي المنهجية العلمية التي اتبعتها في خاصة نفسي، والتي أتبنى عليها الحفاظ، وقد رسمت لذلك خطة عملية لتحصيل هذه المعالم عبر مراحل ثلاث أسأل الله أن ييسر قيامها في أرض الواقع. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

- بعد أن استقر بك الطلب على المنهج الذي ارتضيته والعلم الذي أحببته. ما هي الأسباب التي دفعتك إلى هذا القرار؟ وما هي تصوراتك عن أفضلية هذا المنهج؟

أعظم الأسباب التي جعلتني أختار هذا الطريق هو أنني استقرأت المناهج السائدة في مجتمعي العلمي وسبرتها عن تجربة ونظر، فلم أجد عن مثل الاشتغال بحفظ السنة والتفقه على نصوص الوحيين بديلاً ؛ إذ وجدت أن الذي غلب على منهج الطلب تقليد مُبَطَّن للمتأخرين، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. كنت أرى أنه من العار أن يخرج إلينا طالب علم وسع عقله أصناف المتون والفنون. ولم يسع من أحاديث النبي إلا هنهنات وتمتمات، وما على القارئ المنصف والطالب المتجرد إلا أن يتأمل ذلك تأمل طالب الحق مريد الكمال.

من هنا وهناك تبلورت في مخيلتي أفضلية هذا المنهج على غيره، وانتظم عِقدها فيما يلي :

1- أنه ليس شيء يُتعلم أحب إلى الله وإلى رسوله من علم يكون فيه قال الله قال رسوله قال الصحابة قال التابعون. "علم الكتاب والسنة والأثر". وهذا يقين.

2- طلب علو الإسناد، وأعني به: أخذ العلم من أصوله ومن معينه الأول

 

أيها المغتذي ليطلب علماً *** كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تنال أصلاً *** كيف ضيعت علم أصل الأصول



فَرقٌ بين من يعتمد المتن ثم يشرحه ويستدل له بالنص، وبين من يعتمد أولاً النص ثم يستعين على فهمه وشرحه بالمتن. إنها الأصالة العلمية حين تتأسس علوم الشريعة كلها مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة مباشرة لا حين يكون الأصل والمحفوظ هو كلام فلان ثم إن عَلِم بالدليل فحسن وإلا فلا بأس.

3- أن اشتغال طالب العلم بحفظ الوحيين ومطالعته للأحاديث والتأمل فيها يطلعه على أسرار الشريعة ويصبغه بصبغة سُنِّيَّة إيمانية، ويوقفه على محاسن التشريع وكمال الدين.

4- أن في هذا المنهج تطبيق لمعنى دستورية القرآن وكونه ملاذ الأمة ومنجاها وأنه السبيل إلى رفعتها وسؤددها على الأمم، حين يشيع بين طلاب العلم همُّ حفظ القرآن وحفظ السنة ثم الاشتغال بفهمها والعمل بها وتطبيقها.

- من هم مشايخك الذين تلقيت عنهم؟ وما هي الدروس التي درستها عليهم؟

تلقيت العلم الشرعي عن جمع من المشايخ وأهل العلم سواء في الدراسة الأكاديمية في جامعة الإمام أو في المساجد والجوامع والدروس الخاصة ، إلا أن من أكثر وأبرز من تتلمذت على يديه -وفي طليعتهم-: الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله أخذت عنه المصطلح والفرائض والحديث والفقه، ومنهم الشيخ العلامة محمد بن صالح بن العثيمين رحمه الله في الفقه والعقيدة والتفسير والنحو، وكذا الشيخ صالح الخريصي رحمه الله في الفقه، والشيخ الحافظ عبد الله بن محمد الدويش رحمه الله شيخي في الحديث والمصطلح، والشيخ العلامة حمود بن عبد الله العقلا أخذت عنه اللغة والعقيدة، والشيخ محمد بن صالح المنصور في الفرائض والنحو والحديث، والشيخان عبد الكريم اسكندر وعبد الكريم الهنداوي شيخاي في اللغة والنحو والصرف، والشيخ محمد صديق البورنو في أصول الفقه والقواعد الفقهية.

- في مجالس التعلم ومن خلال ملازمتك للمشايخ. هل من موقف لك مع مشايخك كان لها تأثير عليك..؟

إي والله، إني لازلت أذكر كلمات قالوها لي ما كنت لأنساها، وتحتفظ ذاكرتي بلحظات جميلة جليلة تنبئ عن عظمة هذا الشيخ الذي علَّمني، وأكثر من كان له تأثير عليَّ هو سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز. ومما أذكره: أني كنت ذات مرة في مجلس الدرس فأخذتني نومة فما أيقظني إلا بكاؤه. وقال لي مرة -وقد أجرى لأبنائي اختباراً لهم في الحديث-: أوصيك بأبنائك، فإنه سيكون لهم شأن. وكثيراً ما كان يسألني عن كتابي (الجمع بين الكتب الستة) ويقول: متى سيخرج كتابك لأطَّلع عليه.. عجِّل في إخراجه -إشارة إلى وضع مقدمة له والإشادة به-.

كانت لي حظوة عند الشيخ ؛ فمرة قلت له كلمة أثارته وأغضبته، فقام من عندي و ولاني ظهره، فتبعته لأعتذر له -وكان ذلك بعد صلاة الفجر في بيته- فلم أدركه لكنه قال لي: الغداء عندي، فلما جئت الظهر وجدت عنده وزير الشؤون الإسلامية بماليزيا، فلما دخلت عنده أقامني وأجلسني عن يمينه وجلس يسألني عن التأليف والطلاب .

تعلمت من الشيخ ابن باز الكثير والكثير، وعلى رأس ما أخذت عنه مبدأ السماحة والبراءة. براءة الشيخ مع طلابه الخالية عن الحواجز وكأنهم أصدقاء له .

ممن استفدت منهم: الشيخ محمد بن صالح العثيمين. كم وكم استفدت من هذا الرجل لاسيما في حب التعليم وكيفية التعامل مع الطلاب، وأيضاً في علمه وفقهه في معالجة النصوص المشكلة والجمع بين المسائل المتشابهة، فرحمه الله كم له علي من الفضل. رأبته في المنام كثيراً.

منها: أني رأيته وقد تقدم ليؤم المصلين، فقام ليعدل الصفوف فالتفت عن يمينه وقال (استووا اعتدلوا) ثم التفت عن يساره وقال مثله، فوقع نظره عليَّ فما كان منه حين رآني إلا أن تأخر في الصف وقدَّمني للإمامة. كان مُعجباً بفكرة كتابي (الجمع بين الصحيحين) ويقول: هذا الكتاب سأطبع على نفقتي الخاصة. أحببتُ الشيخ ابن عثيمين وأحبني حتى كان يقول: يا يحيى لا تغب عن الدرس، فإني إذا جلست في الدرس فلم أرك ضاق صدري، وإذا رأيتك استأنست واتسع صدري، وقلما رآني الشيخ إلا تبسم في وجهي.

مما استفدته من الشيخ: مبدأ الصرامة في التعامل والذكاء في التفقه والحفظ.

"هذان الشيخان كانت لهما الحظوة في نفسي والذكرى في حياتي التي لا أنساها".

ومن مشايخي الذين تأثرت بهم: الشيخ صالح الخريصي، وأخذت عنه مبدأ الخلوة بالنفس والتَّنَسُّك. والشيخ عبد الله الدويش وأخذت منه خلق الصبر والجَلَد على الحفظ.

ولكل من مشايخي وقفات وعبر يطول المقام بسردها. أسأل الله أن يجزيهم عني خير الجزاء، ويرفع درجاتهم في عليين، ويجمعنا بهم في جنات النعيم، وأن لا يحرمنا بركة علومهم، ويجعلنا خير خلف لهم. الكل :-

 

مجالسهم مثل الرياض أنيقة *** لقد طاب منها الريح وانتشر العطر



- من كانوا أقرانك في الطلب؟

ممن زاملتهم في فترة الطلب: الشيخ / عبد العزيز الراجحي، والشيخ / عبد المحسن الزامل، وخِلَّي وصديقي الشيخ / خليل المديفر -وهو من حفاظ الوحيين المتقنين-، وهؤلاء اجتمعنا بهم في حلقات الشيخ ابن باز، وأما الذين زاملتهم في دروس الشيخ ابن عثيمين فأذكر منهم: الشيخ / سلمان بن فهد العودة والشيخ / إبراهيم بن محمد الدبيان .

- لا بد وأن تحتفظ ذاكرة كل إنسان بمواقف مرَّ بها أولحظات عاشها كان لها تأثيراً عليه إيجابياً أو سلبياً. ماذا كان نصيب الشيخ يحيى من ذلك؟

في الحقيقة أعظم ما مرَّ عليَّ في حياتي وخاصة زمن الطلب مَوجة التعويق والتحطيم والتثبيط التي واجهتني حين سلكت مسلك حفظ كتب السنة، كان منشؤ كثير من ذلك البغي والحسد. لقد عشت أول زمن الطلب في مواجهة صعوبات حسية أو معنوية تنوء منها الجبال فكنت أقول لنفسي:

فذرهُمُ عَنكَ واعلَم أنهم هَمَجٌ *** قَد بدَّلوا بِعُلُوِّ الهِمَّةِ الحُمُقا

ووالله إني وجدت في المقابل حَلاوة النص وطَعم الحديث، فعشت في رحاب الوحي، فإذا ما نطقت كان حديثي وإذا ما سكت كان الغليلا. وذقت في سهري لذة حفظ السنة فكان كما قال القائل:

 

سهري لتنقيح الحديث ألذ لي *** من وصل غانية وطيب عناق



حتى حفظت بحمد الله أكثر من عشرة آلاف حديث عن ظهر قلب ألقيتُها في الدروس على كرسي الحرم المدني وذاكرت بها الطلاب.
كانت تلك المعوقات جنوداً شيطانية، وإن بدت بادئ الأمر قوية. لكنها لم تلبث أن تحطمت وتلاشت وضعفَت أمام الصمود والإباء.

 

وهم يُطفِؤون المَجْد والله واقدُ *** وهم يُنقصون الفضل والله واهِبُ



وعندي يقين أن النفس الكبيرة لابد أن تتعب وتذوق المر وتَطعم العلقم، وقد قال يحيى بن أبي كثير: "لا يُستطاع العلم براحة الجسم"

 

ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله *** ومن يخطب الحسناء يصبر على الذل



شيخنا الفاضل: حقيقة، حياتك العلمية مدرسة عظيمة تجلَّت فيها مبادئ جليلة هي قوام رحلة الطلب، ما بين صبر على الحفظ، ودفع للعوائق، ومجابهةٍ للمثبطين، إضافةً إلى المنهجية السديدة والأصالة العلمية التي اخترتها في نظام تعلمك.

قبل أن ننهي هذا المحور معك نريد أن تختم بإعطائنا برنامجك اليومي الذي كنت تقضيه أيام الطلب لعل في ذلك تذكرة ونفعاً لمن خلفك من الحفاظ وطلاب العلم.

الحياة مراحل، فمنها مرحلة الصبا ، والشباب، والكهولة، وما بعد الكهولة. ولكل مرحلة قدراتها وعقليتها وقناعاتها وطاقاتها. والذي أرى أنه كان الزمن الفاعل في حياتي هو مرحلة الشباب فهي المرحلة الذهبية للطلب وفيها استقرت رؤية الإنسان لهدفه واتضحت وصار سيره إليها مشتداً.

كان البرنامج اليومي يقسم على الصلوات -وهذه أفضل طريقة لترتيب الجدول اليومي، وفيها بركة-:

- فبعد الفجر خصصته للقرآن والاشتغال به بمراجعة المحفوظ والنظر في تفسيره.

- يعقب ذلك استراحة حتى الظهر.

- وبعد الظهر وقت القراءة على المشايخ والالتقاء بهم. ثم استراحة إلى العصر.

-أما العصر فهو وقت الاشتغال بالسنة ما بين حفظ ومراجعة ونظر في شروحها. وما بين العشاءين جعلته لمراجعة القرآن الكريم.

- وبعد العشاء وقت النشاط الحر فأشتغل فيه بالمراجعات والقراءة المتفرقة في بطون الكتب.

وأما الآن أعني في مر حلة الكهولة وما بعدها فهو وقت العطاء والبذل من تعليم وتأليف، واستعداد للرحيل إلى الدار الآخرة. ولم أترك قط أمر المراجعة للمحفوظات وتعاهدها بالدرس والمذاكرة والقراءة فهي زادي وعدتي في حياتي.

أسأل الله أن يتم علي فضله وإنعامه ويسبل علي سِتره ولطفه.


أبو عدي القحطاني

 

  • 26
  • 0
  • 57,806

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً