المشروع الإسلامي بين النظرية والتطبيق (2)

منذ 2013-04-17

ذكرنا في المقال السابق "المشروع الإسلامي بين النظرية والتطبيق 1" أهم المشاكل التي تعاني منها الحركة الاسلامية عندما دفعت الى المشهد السياسي والاشتباك مع الواقع، وتحدثنا عن أهم معضلتين وهما : تحرير المصطلحات ومعايير اختيار الكوادر وفي هذا المقال بإذن الله سنفصّل أكثر عن أسباب التلوث الفكري والمؤثرات التي أثرت على أداء الحركة الإسلامية ولكن من ناحية تحليلية، وسأختصر التعرض للسرد التاريخي لهذا الانحراف نظرًا لتغطيته التغطية الكافية عبر كتب قيمة كثيرة


لقد تعرضت الأمة الإسلامية للغزو العسكري أكثر من مرة على أيدي التتار والمغول، وكذلك الحملات الصليبية المتتابعة عليها والتي دامت قرابة قرنين من الزمان، حين انشغل المسلمون بالبدع والخرافات والانغماس في المعاصي والشهوات، وانتشرت فيهم روح التواكل والخمول والقعود عن الأخذ بأسباب القوة والعزة.

غير أنه لم يكن الإسلام في نفوس أبنائه موضع شك أبداً، بل كان يؤمن المسلم بأن القضايا الكلية في الإسلام ثوابت ومسلمات لا تحتمل النقاش -والمقصود بالقضايا الكلية هنا هي العقائد والأخلاق والمبادئ والقيم النبيلة وحتى قضية الحكم بما أنزل الله فقد كانت من الثوابت عند المسلمين- وحين هزموا أمام الصليبيين والتتار لم يكن صدى الهزيمة في نفوسهم هو الشك في الإسلام ذاته عقيدة أو شريعة (كنظرية شاملة لتسيير الحياة ) ولم يكونوا يتطلعون إلى ما عند أعدائهم من عقائد وأفكار وأخلاق ومبادئ على أنها حق على المسلم أن يأخذ بها ويدع ما عنده من إسلام، ولم يشعروا بأنهم أدنى من أعدائهم بل كانوا يرون أعداءهم كفرة فجرة معتدون تجب محاربتهم ودفع شرهم، ويتمثلون قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] وكانوا يشعرون حتى وهم مهزومين بازدراء شديد لأعدائهم لأنهم كفار، عقائدهم باطلة وأفكارهم خاطئة وقيمهم منحطة ومبادئهم فاسدة وغاياتهم دنيئة.

وهذا هو الفارق بين نظرة المسلمين إلى أعدائهم في الماضي ونظرتهم إليهم في العصر الحاضر. فالآن ينظر معظم المسلمين إلى أعدائهم بأنهم هم من يملكون الحق، من يملكون الأدوات الصحيحة لإدارة أمور الدنيا بفلسفات ونظريات مستحدثة بنيت كلها لتغييب وعي الأمة، وهذا هو الخطر الداهم الآن. فالرهان الآن هو على رفض المسلمين للإسلام كنظام حياة طوعًا، الأمر الذي مرّ بمعادلات تاريخية معقدة أسفرت أخيرًا عن الوضع الذي تعيشه الأمة الآن، وهو إفشال فكرة المشروع الإسلامي في أعين المسلمين، وإبراز الخلل وكأنه في النظرية وليس في التطبيق. ولذا بدأنا في كتابة هذه السلسلة من المقالات لتوضيح الفرق بين النظرية والتطبيق، وكذلك مواضع الخلل في التطبيق.

ذكرنا في المقال السابق "المشروع الإسلامي بين النظرية والتطبيق 1" أهم المشاكل التي تعاني منها الحركة الاسلامية عندما دفعت الى المشهد السياسي والاشتباك مع الواقع، وتحدثنا عن أهم معضلتين وهما :

تحرير المصطلحات
ومعايير اختيار الكوادر

وفي هذا المقال بإذن الله سنفصّل أكثر عن أسباب التلوث الفكري والمؤثرات التي أثرت على أداء الحركة الإسلامية ولكن من ناحية تحليلية، وسأختصر التعرض للسرد التاريخي لهذا الانحراف نظرًا لتغطيته التغطية الكافية عبر كتب قيمة كثيرة.

الأخوة الأحبة

إن حال الحركة الإسلامية اليوم وخصوصًا بعد ثورات الربيع العربي، يشبه إلى حد كبير قطف الثمرة قبل نضوجها، والتي بلا شك ستؤثر على آكلها وعلى الشجرة نفسها. قبل الخوض في التحليل لابد هنا من لفت النظر الى بعض الأمور والظروف المحيطة لحركة التيارات الإسلامية في الواقع المعايش.

- الفزاعة، والفزاعة العكسية.

لابد هنا من ذكر كمّ التخويف والإرهاب الفكري الذي يمارس ضد التوجه الإسلامي والتيارات الإسلامية سواء على المستوى الداخلي من الإعلام، والتيارات الليبرالية والاشتراكية واليسارية والثورية..الخ، وعلى المستوى الخارجي سواء من الأذرع الصهيونية، أو ضغوط ما يسمى بالنظام العالمي الجديد والمجتمع الدولي على صاحب القرار. وبالتأكيد ليس خافيًا على أحد عودة ما يسمى بالإسلاموفوبيا أو الرهاب الإسلامي. وهذه الفزاعة المعني بها مباشرة والمقصود منها هم جموع الشعب وتخويفهم من الحكم الإسلامي.

أما عن الفزاعة العكسية فهي خوف وتأثر قادة التيارات الاسلامية نفسها من الهجوم الإعلامي و الفزاعة الامريكية، مما يؤثر على سقف تطلعات هذه التيارات، وكذلك مستوى الخطاب السياسي لها والذى ينبع من الإحساس بالاتهام، والانطلاق من موقف الدفاع دائمًا وهذا يضفي شكلًا سلبيًا لا يناسب كمّ التحديات المنتظرة للمشروع الإسلامي.

وتأتي مشكلة الفزاعة العكسية هنا في التأثير السلبي لدى معظم قادة الفكر والعمل الإسلامي في قضية بناء التصورات، والتي تكرس بعدها الأحكام والقرارات العملية (فالحكم على الشيء فرع من تصوره) فالوقوع تحت مظلّة الفزاعة العكسية بالتأكيد يضغط الكادر الإسلامي ويضعه في حالة غير مستقرة لوضع تصور صحيح يعقبه حكمًا صحيحًا للاشتباك على الواقع. إذًا نستطيع القول، أن معظم أحكام وقرارات قادة العمل الإسلامي صحيحة بالنسبة للتصورات الموضوعة، والتي هي تصورات معظمها خطأ، وبالتالي يكون الحكم والقرار النهائي في اشتباكه مع الواقع خطأ.

وتتعاظم تلك المشكلة نظرًا لسببين رئيسيين :

1- عدم وجود مراكز بحوث ودراسات حقيقية تخدم المشروع الإسلامي من خلال الدراسات الميدانية، وتدفق المعلومات وتوثيقها، ورصد وتحليل مراكز الدراسات المواجهة.

2- آلية اتخاذ القرارات داخل الحركة الإسلامية.

وسنركز في هذا المقال على آلية اتخاذ القرارات داخل الحركة الإسلامية.

الإخوة الأحبة

إن ما تمّ رصده إلى الآن من آلية عمل هذه التيارات (حملة المشروع الإسلامي) أظهر أنماط وهيمنة على القرار داخل هذه التيارات نفسها. ويجب تحديد شكل وتكوين كل تيار على حدى، ومن الممكن وبعد هذه الفترة القصيرة لبروز التيارات الإسلامية في المشهد السياسي وهذا الزخم الإعلامي الكثيف المصاحب لها تصنيف هذه التيارات الى ثلاث اقسام:

1- مفكرين إسلاميين مستقلين (وهم ينطلقون من قواعد مختلفة المشرب).

2- الفقيه والداعية والعالم الإسلامي (الشيخ).

3- الأحزاب الإسلامية.


نبدأ بالقسم الأول: المفكر الإسلامي :

وتعريف المفكر الإسلامي أنه الشخص المثقف صاحب الخبرة السياسية، ويغلب عليه الميل للمشروع الإسلامي والذي ينتج لنا تنظيرًا يتميز بأنه ليس حرامًا وليس واجبًا وليس فرضًا وليس دائم الصلاحية وليس جزءاً من الدين وليس مقدسًا، بل إنه فكر بشري خالص ملتزم بألا يخالف الأحكام الشرعية وهو يتناول قضايا الحكم والاجتماع والاقتصاد وسائر مجالات الحياة ويحق لنا كمسلمين أن نقبله أو نرفضه، ولكن كلمة الشخص المثقف هنا لابد من الوقوف عندها، فما نوع الثقافة التي تراكمت عند هذا المفكر؟ وما هي معينها وقواعدها التي ترسي نمط التفكير العام لعقل هذا المفكر؟ حتى وإن تم تغيير النظرية التي كان مقتنعًا بها إلى المشروع الإسلامي و بلا شك ستؤثر هذه الثقافة المتراكمة على آلية تعاطيه وتصوره للمشروع الإسلامي. ومن هذه الزاوية نجد أن المفكرين الإسلاميين المعاصرين وباعترافهم هم كانوا ينتمون الى أيدولوجيات وثقافات مختلفة كالاتي :

- أولاً: اشتراكي سابقًا مفكر إسلامي حاليًا.

وهذا النوع من المفكرين الإسلاميين له خصائص معينة تستطيع أن تلاحظها بوضوح، ولا تجد صعوبة في أن تستنبط الخلفية الاشتراكية ونظرياتها التطبيقية والجدلية ولكنها بنكهة اسلامية. ويتميز هؤلاء المفكرين بالثقافة العالية جدًا، وغزارة المعلومات، وحسن سرد الأحداث التاريخية والتنظيم الفكري الجيد والجمل شديدة التنميق. ولكنهم كثيرًا ما يصطدمون مع بعض خصائص المشروع الإسلامي والذي لم يكن لها مقابل فى الأيدلوجية والمنهج الاشتراكي.

وبالتحديد إخضاع كل الآليات والتنظيرات الى العقل (فن الممكن)، وإلى العلم التحليلي المجرد ولذا وصف أكثرهم (إن لم يكن كلهم) بأنهم ينتمون الى الفكر المعتزلي الذي يخضع النقل للعقل، ولا يقبل النص إلا بعد إخضاعه للعقل. ولذا استطاع هؤلاء المفكرين التأثير على قادة العمل الإسلامي الى حد كبير فكريًا، نظرًا للانبهار الشديد بالطريقة الجدلية المرتبة والمنمقة، فضلًا عن غياب قادة العمل الإسلامي عن ميادين النقاشات السياسية لعزلهم بعيدًا عن مجتمعاتهم، بينما كان هؤلاء المفكرين جزءًا من التكوينات المجتمعية المشكلة حديثًا واستطاع هؤلاء المفكرين ذوي الأصول الاشتراكية التأثير على فكر تلك الجماعات، بل بعضهم أصبح جزء منها الأمر الذي حدّ من سقف تطلعات أصحاب المشروع الإسلامي فى المرحلة الحالية (تماشيًا مع سياسة فن الممكن). وتغلبًا على الفجوة الزمنية بين عزلة الجماعات الاسلامية ومجتمعاتها التي أصبح لها مصطلحاتها وأدواتها الجديدة، والأمر الذي ساعد في هذا هو خطاب هؤلاء المفكرين المناصر للمشروع الإسلامي طبعًا من وجهة نظرهم.

وفى رأيي يجب عدم الاعتماد الكلي على هذا النوع من المفكرين إلا بعد وضع فلاتر متخصصة لفلترة الشوائب الاشتراكية المصاحبة للتنظير الإسلامي لهؤلاء المفكرين، أو فتح حوار ثقافي علمي معهم لضبط إيقاع القواعد الإسلامية للتنظير، وتطهير الشوائب الاشتراكية المتراكمة فى منطلقات هؤلاء المفكرين. مع اعتقادي بأن هذا أمر غاية فى الصعوبة، وذلك للشعور بالفوقية العلمية لهؤلاء المفكرين. ولكن أؤكد أن هذا الكلام لا يدخل إطلاقًا في التشكيك فى نياتهم المخلصة للمشروع الإسلامي. ويحلل البعض وجود هؤلاء المفكرين الى زمن انهيار الشيوعية وبالتالي الفكر الاشتراكي حيث انقسم معتنقيها الى قسمين: قسم ذهب وانضم الى الفكر والحضارة التي أسقطته وهو الفكر الليبرالي الرأسمالي الجديد، والقسم الآخر أصر على معاداة الليبرالية والامبريالية فكان لابد من أن يقف على قاعدة أخرى تملك أدوات المقاومة والقوة، فأتى إلى الفكر الإسلامي وهو يحمل داخله مشاعر الانتقام من الامبريالية والليبرالية. وهذا أمر لا بأس به عند توظيفه لصالح المشروع الإسلامي مع وضع التحفظات السابقة، وبهذا الصدد يمكننا أخذ حزب العمل كمثال في هذا السياق حيث أن مرجعية الحزب كانت اشتراكية، ثم قام مؤسسيه السيد عادل حسين والسيد إبراهيم شكري بعد انهيار الشيوعية ومن ثم الاشتراكية، كان اعتناقهم الطوعي وتحولهم الأيدولوجية لفكرة المشروع الإسلامي ومن ثم تحولت مرجعية حزب العمل من الفكر الاشتراكي إلى الفكر الإسلامي.

- ثانيًا: قومي سابقًا مفكر إسلامي حاليًا

وهذا النوع من المفكرين الإسلاميين يأتي من خلفية لا تتعارض ظاهريًا مع القواعد الإسلامية ولكنها بالتأكيد لا تحمل آليات واضحة او كاملة للعمل الإسلامي، ومشوهه تاريخيًا. فأصل الفكرة لم يأتي إلا بديلًا عن سقوط دولة الخلافة. فالجمع بين الفكرتين درب من التناقض، ولكن نظرًا للتحولات والمؤامرات والاختراقات الفكرية المتعاقبة فوجئنا بهذا النوع من المدارس الفكرية المنسوبة للإسلام. ويتميز هذا النوع من المفكرين بخطاب يغلب عليه حالة الثورية ويتجنب كثيرًا الخوض فى المسائل الفقهية وبما أن كل إسلامي يحمل داخله فكرًا قوميًا (الدفاع عن الوطن والعروبة والارض) لكن ليس كل قوميًا يحمل بداخله فكرًا اسلاميًا، فقط عناصر الالتقاء اللا خلافية هي ما سبق ذكره (الوطن، العروبة، الارض) أما إذا تم الحديث عن آليات عملية الدفاع هذه تجد خلافًا كبيرًا بين التيارين، وهذا النوع من المدارس الفكرية أيضا استطاع التأثير على قادة العمل الإسلامي، على الأقل من زاوية التعاطي السياسي الخارجي والعلاقات مع دول الجوار.

وفى رأيي أنه يجب عدم التأثير بالفكر القومي، وتعريف القومية التعريف الحقيقي لها وإخضاعها تمامًا للفهم الشرعي الإسلامي، وأيضًا وضع فلاتر تخصصية لفلترة شوائب القومية العربية وفكرها المنحرف السابق. وهو أمر صعب الى حد ما لوجود شعرة فاصلة بين القومية العربية بمفهومها التاريخي ومفهومها فى الشريعة الاسلامية. ولذا نجد أن خطاب هذا النوع من المفكرين يجذب إليه وجدان الكثير من الإسلاميين، وبالتالي يؤثر على توجيه سياسة المشروع الإسلامي، وكذلك تكوين ملامح سياسية للمشروع الإسلامي فى العقل الجمعي. ولكن لا بأس من الاستفادة من لغة الخطاب الثوري لمثل هذا التيار وخصوصًا فى وجود خطاب إسلامي خانع وضعيف ومستكين حاليًا كما سيأتي توضيحه عند الكلام عن التيارات الإسلامية الفاعلة فى المشهد.

- ثالثًا: علماني سابقًا مفكر إسلامي حاليًا

وهذا النوع من المفكرين الإسلاميين يأتي من خلفية معاكسة تمامًا للمشروع الإسلامي بل ومعادية له، ولذلك نجد أن هذا النوع من المفكرين يحاول عبثًا الوصول إلى حالة التقاء بين النظرية العلمانية والليبرالية وبين المشروع الإسلامي. الأمر الذي أدى إلى ظهور فكر ومسميات غريبة تحمل كل المتناقضات مثل (الإسلام الليبرالي، علمنة الإسلام، التجديد، الإسلام المعاصر،.... إلخ ) ولذلك أرى عدم الاعتراف بمثل هؤلاء المفكرين من حيث المبدأ كمفكرين إسلاميين. لأنه فى رأيي يعدّ مدخل لخلخة المشروع الإسلامي من الداخل، وللأسف تأثر بعض قادة العمل الإسلامي بهذا الفكر وحتى تكونت أحزاب سياسية إسلامية تؤصل لهذا الفكر. ويجب الاهتمام به اعلاميًا والتحذير منه ولا سيما هذه الأيام والتي نسمع فيها عن تنازلات فى أسس المشروع الإسلامي لأسباب نفسية سببها كما ذكرنا سابقًا، الفزاعات والعزلة الجبرية والارهاب الفكري الممنهج على رموز العمل الإسلامي. وأظن أن هذا النوع من المفكرين هي حالة اختراق أمني وفكري للمشروع الإسلامي سواء أكان يعلم المفكر أو لا يعلم، يتم استخدامه لهدم أو تغيير شكل المشروع الإسلامي تدريجيًا حتى لا يبقى منه إلا إسمه فقط.

- رابعًا: إسلامي سابقًا مفكر إسلامي حاليًا

وإسلامي الأولي هي اشارة إلى انتماءه إلى إحد الحركات الإسلامية المكونة في العصر الحديث. وهذا النوع من المفكرين الإسلاميين أيضًا ينطلق الآن من منهج التيار الإسلامي الحركي الذي كان ينتمى إليه، فإذا نظرنا الى مفكر إسلامي كان يومًا ما ينتمي إلى الجماعة الإسلامية، نجده الآن متأثر بالمراجعات التي تمت مع الجماعة ويظهر هذا فى خطابه السياسي، وكذلك متأثر بالمواجهات العنيفة التي كانت بين الجماعة وبين الدولة فى السابق. فإما أن ينتج فكرًا يغلب عليه الندم والتراجع المفرط إلى الجانب الآخر، وإما ينتج فكرًا أكثر ميولًا إلى البعد عن المجتمع ورفض المشاركة بكافة صورها، وأيضا المفكر الذي كان يومًا ما ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين ثم انفصل عنهم، نجده لا يزال متأثرًا بفكر وأدبيات الجماعة المميزة لها ولم يستطع التخلص من الحالة التي فرضتها الظروف السياسية على تكوين فكر الجماعة والتي تعانى منها هي نفسها حتى الآن، كما سيأتي ذكرة عند الكلام عن التيارات الإسلامية الفاعلة فى المشهد. ولكن لا يجب وضع المفكرين الإسلاميين الذين أفرزوا من الجماعة الأم جماعة الإخوان المسلمين فى قسم واحد. فالذي حدث أن الجماعة أفرزت عدة مناهج فكرية، وعدة مدارس فهناك مدارس اعترضت على تنازلات الجماعة التاريخية كما يقول البعض، فكوّنوا مدرسة أكثر تمسكًا بثوابت الفكر الإسلامي، ومحاولة إحياء ما تم طمسه على يد الجماعة (الجهاد وخلافه) كما يقولون، وآخرون شكلّوا مدرسة أكثر تفريطًا فى الثوابت من الجماعة وهروبًا من الهجوم على الجماعة من قبل التيارات السياسية المختلفة والفاعلة سياسيًا. وكل هذا كان فى غياب مدرسة سياسية سلفية متزامنة مع الأحداث التاريخية الحديثة.


القسم الثاني: الفقيه والداعية والعالِم الإسلامي (الشيخ):

الفقيه الإسلامي يبحث في العقيدة وفي العبادة وينتج بحثه حكمًا شرعيًا يستند إلى نص مقدس، و يأتي حكمه صالح لكل زمان ومكان بشروطه، وهو جزء من الدين لا نرفضه إلا بمثله من حكم فقيه آخر لديه دليل أقوى من الكتاب والسنة.

الأخوة الأحبة

إن التمييز بين وظيفة الفقيه ووظيفة المفكر الإسلامي مهم جدًا في هذا العصر، وقد يكون العالم الواحد فقيهًا ومفكرًا إسلاميًا في نفس الوقت وهنا يجب عليه أن يوضح للجمهور طبيعة ما يقول به، إذا ما كان فقهًا من الدين أم فكرة لمصلحة المسلمين وسأضرب أمثلة لذلك: الشورى في الإسلام فرض واجب التنفيذ بينما كيفية تنفيذها تأتي نتيجة جهد فكري يأتي بأنظمة للشورى قابلة للتغيير وفقًا للأدوات والظروف المتاحة، إنما علينا الإقرار اولًا بأن الشورى أمر واجب في أنظمة الحكم ثم يأتي دور البحث في أدواتها المتاحة، وليس بإلغائها بالكلية واستبدالها أساسا بأنظمة أخرى. وهنا يظهر دور الفقيه والعالم الذي يفتي لنا بوجوب تطبيق مبدأ الشورى، إنما سيترك للباحثين كيفية استنباط أفضل الطرق المتاحة لتطبيقها. عندما يفتي فقيه إسلامي بأن التوجه إلي صناديق الانتخابات والتصويت واجب شرعي، فإنه يخلط بين ما هو فكر يحق له الدعوة إليه ويحق لنا رفضه، وبين ما هو دين يستوجب السمع والطاعة كمبدأ الشورى مثلًا. إن محاولة تقديم الفكر على أنه دين كارثة كبرى، وتقديم ثوابت الدين على أنها فكر قابل للبحث، كارثة أعظم يجب أن ننتبه إليها جيدًا.

والفرق بين الفقيه والكهنوت شعرة ولكنها شعرة عقائدية، الكهنوت وهي سلطة عليا أو مؤسسة تصدر أوامر وزارية أو عليا للكنيسة هذا عند النصارى فلا صوت فوق صوت الكاهن. أما الكهنوت عند الشيعة فقد ابتدعوا لأنفسهم درجات كهنوتية مماثلة من هذه الناحية، فلقب (آية الله) و(آية الله العظمى) و(حجة الإسلام والمسلمين) فهؤلاء جميعاً اتفقوا على وجوب الطاعة العمياء من قبل الكهنة ولملالي، وهذا ما أفرز نظامًا سياسيًا رافضيًا شيعيًا وهو نظام ولاية الفقيه. وهذا ما أخشى منه على تطور العمل السياسي لبعض تياراتنا السياسية الإسلامية، وخصوصًا التيارات المنغلقة على عناصرها واضعة سياجات أمنية وفكرية على عقول شبابها، نظرًا للظروف المحيطة بها وخشية من الاختراقات، وكذلك وقوعًا في براثن العمل الحزبي وولاءاته والمنافسة السياسية.

العلاقة بين الفقيه العالِم وبين المفكر الإسلامي الفقيه:

فالأول يمكن أخذ حكم شرعي منه بعد نقل التصور من متخصص (مفكر سياسي) ولا يمكن أخد رأي سياسي منه مباشرة. على سبيل المثال :الفتاوى الطبية فعندما يسأل فقيه فى قضية طبية مثل زراعة الأعضاء أو ما شابه فإنه يطلب تصورًا وتقريرًا كاملًا من متخصص طبيب مسلم لكي يفتي فى المسألة. أما الثاني فيمكن أن يؤخذ منه رأيًا سياسيًا مباشرة حيث أنه يملك أدوات الفقه الإسلامي وكذلك الخبرة والتخصص، ودراية أحوال الناس ومتابع للمتغيرات من حوله.

المفكر الإسلامي أو الإسلامي السياسي:

يمكن لهذا القسم أن يعمل فى إطار الثوابت المعروفة للفكر الإسلامي، أما فى حالة تعرضه إلى قضية كبيرة تحتاج إلى حكم شرعي فيجب عليه الرجوع إلى عالم فقيه وينقل له التصور كاملًا ويأخذ منه الحكم الشرعي، ثم يعيد صياغته في برنامج سياسي يوافق الحالة أو المشهد الموجود دون الخروج عن الحكم الشرعي.

ولهذا يجب الحرص الشديد فى وضع آليات العمل السياسي الإسلامي حتى لا نؤسس نظامًا مشوهًا لا يستطيع الحفاظ على ثوابت الشريعة أو حتى يضعف من فكرة المشروع الإسلامي ويكون هذا هو رهان الأعداء.

الاخوة الأحبة

لقد أطلت في هذا الموضوع لأهميته الكبيرة في أداء الحركات الإسلامية هذه الأيام ولمحاولة وضع الأمور في نصابها ولفض الإشكالية الحادثة في تنظيم العمل.

وأختم هذا المقال بمقولة للشيخ الشهيد -نحسبه كذلك- الدكتور عبدالله عزام حيث يستنبط قانون الهزيمة من قوله تعالى:
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]، فيقول: "الهزيمة تبدأ داخلية ثم تنعكس على ساحات المعركة. والخلل يبدأ في أعماق النفس ثم نرى آثاره اندحارًا في ميادين الحياة، سلوكًا وأخلاقًا ومعاملة".

وسيأتي بإذن الله الحديث بالتفصيل عن الإحزاب الاسلامية، تلك الظاهرة الحديثة في الحركة الإسلامية، وآلية اتخاذ القرار داخلها، وتأثيرها التاريخي على مسار المشروع الاسلامي، وتناقض البنية الفكرية الحزبية عن البنية الفكرية للمشروع الإسلامي. فتابعونا المقال القادم باذن الله

انتهى المقال الثاني بحمد الله.... يتبع
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 32
  • 0
  • 11,026

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً