السيرة النبوية وهجمة الطابور الخامس
إن هذه التوطئة ضرورية لاستيعاب الضجة التي أثيرت مؤخراً في المغرب بشأن ما أدلى به الناشط الأمازيغي المغربي أحمد عصيد، ففي جلسة افتتاحية للمؤتمر العاشر للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، صرح الباحث بأن الرسائل الدبلوماسية التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم للملوك ذات حمولة إرهابية ولا يجدر تضمينها في مقرر التربية الإسلامية، كما أنها تخالف القيم الكونية التي تعد اليوم أسمى ما وصلت إليه الإنسانية!! وأن الطرح الإسلامي الذي فرض نفسه قديماً بالسيف، يتناقض الآن بشدة مع المرجعية الدولية لحقوق الإنسان.
في كتابها الشهير: (من الذي دفع أجرة الزمار؟ الحرب الباردة الثقافية) تكشف مسؤولة المخابرات الأمريكية (فرانسيس ستونور ساوندرز) النقاب عن الدور الذي لعبته هذه الوكالة لتجنيد المثقفين عبر العالم، وسرطنة الأوساط الفكرية والعلمية من خلال تمويل الدراسات المشبوهة، وإحداث المعاهد والمراكز التي تعيد صياغة الحقائق وتشكيل العقول وتوجيه الرؤى بشكل يتوافق مع الأسلوب الأمريكي، وقد لعبت (منظمة الحرية الثقافية)، باعتبارها ذراع التجسس السري لوكالة المخابرات المركزية، دوراً كبيراً في استمالة عدد هائل من الفنانين والإعلاميين والمفكرين لدعم طروحاتها من خلال المعارض الفنية والمؤتمرات والصناعة السينمائية ووسائل الإعلام المختلفة.
ولعل أخطر المشاريع التي أوردتها المؤلفة في هذا السياق، مشروع الحرب النفسية الأمريكية الذي تبناه الرئيس الأمريكي السابق (إيزنهاور) إبان الحرب الباردة، وكان الهدف منه هو الانتصار في الحرب العالمية الثالثة دون الاضطرار لخوضها. يقول (إيزنهاور): "هدفنا في الحرب الباردة ليس الاستيلاء على أراض أو إخضاع الآخرين بالقوة. هدفنا أكثر براعة وأوسع مجالاً وأكثر اكتمالاً، نحن نحاول أن نجعل العالم يصدق الحقيقة بالوسائل السلمية، والحقيقة هي أن الأمريكيين يريدون عالماً يعيش في سلام، عالماً تكون الفرصة فيه أمام جميع البشر لأقصى تقدم فردي ممكن، والوسيلة التي سوف نستخدمها لنشر هذه الحقيقة تسمى عادة بالوسيلة النفسية، لا تخافوا من هذا المصطلح لأنه ليس مجرد كلمة من خمسة مقاطع خمسة دولارات، الحرب النفسية هي الصراع من أجل إرادات وعقول البشر" [1].
في هذا السياق يندرج المخطط العلماني الاستئصالي الذي يبذل وسعه اليوم لفرملة التجربة الإسلامية التي مكنتها الإرادة الشعبية من تولي مسؤولية الحكم، كما لا يخفي استقوائه بالأجنبي في سعيه المحموم لزعزعة استقرار البلد، وإثارة الفتن، وإفشال مساعي الأمة للنهوض والتحرر واستكمال البناء الحضاري. ومن خلال هذا السياق كذلك نخلص إلى سر انكفاء المثقف العربي الذي يمثل التعبير الحق عن ضمير الأمة ونزوعها المستمر للحرية والكرامة والنهوض، مقابل الصعود المثير للمثقف الخادم للأجندة الفكرية المدمرة بشتى صيغها وتلاوينها المعروفة.
إن هذه التوطئة ضرورية لاستيعاب الضجة التي أثيرت مؤخراً في المغرب بشأن ما أدلى به الناشط الأمازيغي المغربي أحمد عصيد، ففي جلسة افتتاحية للمؤتمر العاشر للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، صرح الباحث بأن الرسائل الدبلوماسية التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم للملوك ذات حمولة إرهابية ولا يجدر تضمينها في مقرر التربية الإسلامية، كما أنها تخالف القيم الكونية التي تعد اليوم أسمى ما وصلت إليه الإنسانية!! وأن الطرح الإسلامي الذي فرض نفسه قديماً بالسيف، يتناقض الآن بشدة مع المرجعية الدولية لحقوق الإنسان.
بغض النظر عما ورد في هذا التصريح المتهافت، والذي يكشف ضحالة التكوين المعرفي والعلمي للباحث وجهله بأبسط قواعد البحث والنظر في النص الديني، فإن بودي التساؤل حقيقة حول السر وراء تحوله المفاجئ من الدفاع عن الأمازيغية إلى إشعال الحرائق في المشهد الديني والفكري بالمغرب: هل يتعلق الأمر بحرية مكفولة في تقييم تجربة وصول حزب إسلامي للحكومة، أم هو التأثيث المتعمد لمشهد صِدام يأمل عصيد في حدوثه بين الإسلام والأمازيغية؟ إن مقولة انتشار الإسلام بالسيف فرية تولى حتى كتاب الغرب من المنصفين والمعتدلين تفنيدها، أما ادعاء التناقض بين القيم الإسلامية ومثيلتها (الكونية) فتكفي لدحضه عشرات الأدلة عن اتساع القوة الجاذبة للإسلام في الغرب، وتشكل بوادر حقيقية للاعتراف به كعلاج للأزمة الأخلاقية التي تنخر كيان الحضارة الغربية [2].
بيد أن ما صرح به الباحث المغربي يحيل على إشكال تربوي تمت الإشارة إليه في مقال سابق [3]، ويتعلق بمدى فاعلية الحضور التربوي للسيرة النبوية في النظم التعليمية، ومغبة الوقوف عند حدود الرصد التاريخي الذي لا يمكن أن يحقق مقصد التأسي والاقتداء كما نص عليه القرآن الكريم. وبالنظر لهيمنة المرجعية الغربية على الأداء الثقافي والإعلامي لشريحة واسعة من المثقفين، فإن الرد على عصيد، من داخل المرجعية نفسها وعبر كتابات أقرب للتجرد والموضوعية، قد يكون برأيي المتواضع أبلغ في الإفحام وأدعى لدحض الافتراء.
يؤكد توماس كارلايل بأن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت بالموعظة والحكمة، وأن فرية نشر دينه بالسيف ليست سوى تشنيع من بعض الغربيين، وإنكار لدفاع الحق عن نفسه أمام صولة الباطل وطغيانه، يقول كارلايل: "وأرى عموماً أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة، حسب ما تقتضيه الحال. أولم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحياناً؟ وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون! وأنا لا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف، أم باللسان، أم بأية آلة أخرى، فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار... فإنها لن تهزِم إلا ما كان يستحق أن يُهزم، وليس في طاقتها قط أن تفني ما هو خير منها، بل ما هو أحط وأدنى" [4].
وعلى نفس المنوال يمضي السير أرنولد في الإشادة بالصبغة التبشيرية الخالصة للكتب التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وللبعوث الدينية التي وجهها للقبائل العربية. كما يؤكد على عدم ميل النبي لاستخدام القوة بدليل الصدود الذي قوبلت به بعض هذه الرسائل والبعوث. وهو يُرجع السر وراء الامتداد القياسي للدعوة الإسلامية إلى بساطة الدين ووضوح تعاليمه: "إن البساطة الجوهرية في الصورة التي يصاغ فيها هذا الدين، والدليل الذي كسبه هذا الدين من إقناع الدعاة الذين يقومون بنشره اقتناعا يلتهب حماسة وغيرة، إن هذا كله يكون الأسباب الكثيرة التي تفسر نجاح جهود دعاة المسلمين، وكان من المتوقع لعقيدة محددة كل التحديد، خالية كل الخلو من جميع التعقيدات، ثم هي تبعا لذلك في متناول الشخص العادي أن تمتلك، وإنها لتمتلك فعلاً قوة عجيبة لاكتساب طريقها إلى ضمائر الناس" [5].
أما هنري دي كاستري فيسخر من فرية انتشار الإسلام بالسيف قائلا: "ولو كان دين محمد صلى الله عليه وسلم انتشر بالعنف والإجبار للزم أن يقف سيره بانقضاء فتوحات المسلمين، مع أننا لا نزال نرى القرآن يبسط جناحيه في جميع أرجاء المسكونة" [6]. وفي معرض المقابلة بين التصورين الإسلامي والغربي لحقوق الإنسان فيخلص الدكتور مراد هوفمان إلى أن هيكل الحقوق الإنسانية لن يتصدع طالما فُهم معنى الحقوق الإسلامية كما يفهمه الإسلام أي أن الحقوق ليست من وضع الإنسان، وإنما يجدها الإنسان فيتعرف عليها، وليس هو موجدها. وأن إنكار المرء لوجود الله يضع كافة الحقوق تلقائيا تحت رحمة الإنسان و تصرفه. فضلا عن ذلك، فإنه لم يتح لأي إنسان منذ بدء الخليقة أن يخرج علينا بنظام قانوني مقنع عام، استقاه أو استوحاه من مراقبته الدارسة للطبيعة [7].
وختاماً:
فإن ما ورد في هذه السطور غيض من فيض الاعتراف بعالمية الرسالة المحمدية، وسمو التشريع الإسلامي واستجابته للفطرة الإنسانية، وإن كان من فضل يُحسب لصيحات الطابور الخامس في العالم الإسلامي، فهو أنها تبعث في نفوس المسلمين حماسة الذود عن حياض الشريعة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتوقظ همة أوشكت أن تتداعى تحت سياط الوهن.
حميد بن خيبش
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ف. س. سوندرز: من الذي دفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية. المركز القومي للترجمة. ط4. 2009. ص 175.
[2] يراجع كتاب: الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود للمفكر الألماني المسلم مراد هوفمان.
[3] انظر مقال: السيرة النبوية رهان تربوي لحميد بن خيبش.
[4] توماس كارلايل: محمد المثل الأعلى. مكتبة النافذة. ط 2008. ص 94-95.
[5] سير. ت. و. أرنولد: الدعوة إلى الإسلام. مكتبة النهضة المصرية. 1947. ص 346.
[6] الكونت هنري دي كاستري: الإسلام خواطر و سوانح. مكتبة النافذة. ط 2008. ص 131.
[7] د. مراد هوفمان:الإسلام كبديل. مكتبة العبيكان. ط2. 1997. ص188.
- التصنيف:
- المصدر: