كلمات في المحبة

منذ 2006-06-11

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فإن المحبة ركن العبادة الأعظم، فالعبادة تقوم على أركان ثلاثة، هي المحبة، والخوف، والرجاء.
وإليك هذه الكلمات المختصرة في هذا الركن الأعظم، وهو المحبة.
تعريف المحبة وحدُّها
قال ابن القيم -رحمه الله -: "لا تُحَدُّ المحبةُ بحدٍّ أوضحَ منها؛ فالحدود لا تزيدها إلا خفاءً، وجفاءً، فحدُّها وُجُودُها، ولا توصف المحبة بوصفٍ أظهرَ من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها؛ فحدودهم، ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب إدراك الشخص، ومقامه، وحاله، ومِلْكِهِ للعبارة " [مدارج السالكين 3/11].
ومما قيل في حد المحبة وتعريفها ما يلي:
1- الميل الدائم بالقلب الهائم.
2- إيثار المحبوب على جميع المصخوب.
3- موافقة الحبيب في المشهد والمغِيب.
4- مواطأة القلب لمرادات المحبوب.
5- استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك.
6- سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب.
7- ميلك للشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك، وروحك، ومالك، ثم موافقتك له سراً، وجهراً، ثم علمك بتقصيرك في حبه.
8- الدخول تحت رق المحبوب وعبوديته، والحرية من استرقاق ما سواه.
9- سفرُ القلب في طلب المحبوب، ولهجُ اللسان بذكره على الدوام.
10- المحبة أن يكون كُلُّكَ بالمحبوب مشغولاً، وذلُّك له مبذولاً.

أقسام المحبة

1- محبة عبادة: وهي محبة التذلل، والتعظيم، وأن يقوم بقلب المُحبِّ من إجلال المحبوب، وتعظيمه ما يقتضي امتثال أمره، واجتناب نهيه.
وهذه المحبة أصل الإيمان والتوحيد، وهي التي يترتب عليها من الفضائل ما لا يمكن حصرُهُ وعدُّهُ. ومَنْ صرف تلك المحبة لله فهو المؤمن الموحد، ومن صرفها لغير الله فقد وقع في المحبة الشركية؛ حيث أشرك بالله عز وجل. وذلك كمحبة المشركين الذين يحبون آلهتهم، وأندادهم كمحبة الله، من شجر، أو حجر، أو بشر، أو ملك أو غيرها، كمحبة الله أو أكثر؛ فهذه المحبة أصل الشرك، وأساسه.
2- محبة لله -عز وجل-: كمحبة ما يحبه الله من الأمكنة، والأزمنة، والأشخاص، والأعمال، والأقوال، ونحو ذلك؛ فهذه المحبة تابعة لمحبة الله.
3- المحبة الطبيعية: ويدخل تحت هذه المحبة ما يلي:
أ- محبة إشفاق ورحمة: كمحبة الوالد لولده، وكمحبة المرضى، والضعفاء.
ب- محبة إجلال وتعظيم دون عبادة: كمحبة الولد لوالده، وكمحبة التلميذ لمعلمه وشيخه، ونحو ذلك.
جـ- محبة الإنسان ما يلائمه: كمحبة الطعام، والشراب، والنكاح، واللباس، والأصدقاء، والخلطاء، ونحو ذلك.
فهذه المحاب داخلة في المحبة الطبيعية المباحة، فإن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب الطاعة، وإن صدت عن محبة الله، وتُوَسِّل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات، وإن لم تُعِن على طاعة، ولا معصية فهي في دائرة المباحات.

فضائل محبة الله

محبة الله - عز وجل - أشرف المكاسب، وأعظم المواهب، وفضائلها لا تُعد ولا تحصى، ومن تلك الفضائل ما يلي:

1- أنها أصل التوحيد وروحه: قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: " أصل التوحيد، وروحه إخلاص المحبة لله وحده، وهي أصل التألُّهِ، والتعبد، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبةُ العبد لربه، وتسبق جميعَ المحابِّ، وتَغْلِبها، ويكون لها الحكم عليها؛ بحيث تكون سائر محاب العبد تبعاً لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه " [القول السديد ص110].

2- أن الحاجة إليها أعظم من الحاجة إلى الطعام، والشراب، والنكاح: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " ففي قلوب بني آدم محبة لما يتألهونه ويعبدونه، وذلك قوام قلوبهم، وصلاح نفوسهم، كما أن فيهم محبةً لما يطعمونه، وينكحونه، وبذلك تصلح حياتهم، ويدوم شملهم. وحاجتهم إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء؛ فإن الغذاء إذا فُقِد يَفْسُد الجسم، وبفقد التأله تفسد النفس " [جامع الرسائل لابن تيمية 2/230].
وقال ابن القيم - رحمه الله -: " فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلا بها. وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظمَ من ألم العينِ إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنفِ إذا فقد شمّه، واللسان إذا فقد نُطْقَه؟! بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره، وبارئه، وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح. وهذا الأمر لا يصدِّق به إلا مَنْ فيه حياةٌ، وما لِجُرْحٍ بميت إيلام " [الجواب الكافي ص541 - 542].

3- تسلي المحب عند المصائب: قال ابن القيم - رحمه الله -: " فإن المحب يجد من لذة المحبة ما ينسيه المصائب، ولا يجد مِنْ مسِّها ما يجد غيرُه، حتى كأنه قد اكتسى طبيعةً ثانيةً ليست طبيعةَ الخلق. بل يَقْوَى سلطانُ المحبةِ حتى يلتذَّ المحبُّ بكثير من المصائب التي يصيبه بها حبيبه أعظم من التذاذ الخليِّ (العاري من المحبة) بحظوظه وشهواته.
والذوقُ، والوَجْدُ شاهد بذلك، والله أعلم " [مدارج السالكين 3/38].

4- أنها من أعظم ما يحمل على ترك المعاصي: قال ابن القيم - رحمه الله - في معرض حديث له عن محبة الله: "وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته، ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطانُ المحبةِ في القلب كان اقتضاؤه للطاعة، وترك المخالفة أقوى. وإنما تصدر المعصية والمخالفة مِنْ ضَعْفِ المحبة، وسلطانِها. وفرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خَوْفُه من سوطه وعقوبتِهِ، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده" إلى أن قال - رحمه الله -: " فالمحب الصادق عليه رقيبٌ من محبوبه يرعى قَلْبَه، وجوارحَه، وعلامةُ صدقِ المحبة شهودُ هذا الرقيبِ ودوامُه.
وها هنا لطيفة يجب التنبه لها، وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه؛ فإذا قارنها الإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياءَ والطاعةَ، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوعَ أنسٍ، وانبساط، وتذكر، واشتياق.
ولهذا يتخلف أثرها ومُوجَبُها، ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجرّدها عن الإجلال والتعظيم؛ فما عَمَرَ القلبَ شيءٌ كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعْظيمه. وتلك من أفضل مواهب الله للعبد، أو أفضلُها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " [طريق الهجرتين ص449 - 450].

5- أنها تقطع الوساوس: قال ابن القيم - رحمه الله -: " فبين المحبة، والوساوس تناقض شديد كما بين الذكر والغفلة؛ فعزيمة المحب تنفي تردد القلب بين المحبوب وغيره، وذلك سبب الوساوس. وهيهات أن يجد المحب الصادق فراغاً لوسواس الغير؛ لاستغراق قلبه في حضوره بين يدي محبوبه. وهل الوسواس إلا لأهل الغفلة والإعراض عن الله تعالى؟ ومن أين يجتمع الحبُّ والوسواس؟

لا كان مَنْ لسواك فيه بقيةٌ                فيها يُقَسِّم فِكْرَهُ ويوسوسُ

[مدارج السالكين 3/38]

6- تمام النعيم، وغاية السرور: فذلك لا يحصلُ إلا بمحبة الله - عز وجل - فلا يغني القلبَ، ولا يَسُدُّ خلَّتَه ولا يشبعُ جوعته إلا محبته، والإقبال عليه عز وجل، ولو حصل له كل ما يلتذ به لم يأنس ولم يطمئن إلا بمحبة الله عز وجل.
قال ابن القيم - رحمه الله -: " وأما محبةُ الرب سبحانه فشأنها غير الشأن؛ فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها، وفاطرها، فهو إلهها، ومعبودها، ووليها، ومولاها، وربُّها، ومدبرها، ورازقها، ومميتها، ومحييها؛ فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوتُ القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن؛ فليس عند القلوب السليمة، والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذُّ، ولا أطيبُ، ولا أسرُّ، ولا أنعمُ من محبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه.
والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتمُّ من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة " إلى أن قال: "ووجَدَانُ هذه الأمور، وذوقُها هو بحسب قوة المحبة، وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب، والقرب منه. وكلما كانت المحبةُ أكملَ، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر - كانت الحلاوةُ، واللذةُ، والنعيمُ أقوى. فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب - وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يُعْرَف إلا بالذوق والوَجْد. ومتى ذاق القلب ذلك لم يُمْكِنْهُ أن يقدِّم عليه حُبَّاً لغيره، ولا أنساً به، وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية، وذلاً، وخضوعًا، ورِقَّاً له، وحرية عن رق غيره " [إغاثة اللهفان ص567].

صفات المحبوبين لله:

الله عز وجل يُحِبُّ ويُحَبّ، قال الله تعالى {
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]. وإليك فيما يلي إجمالاً لبعض صفات الذين خصهم الله بالمحبة:
1- التوابون.
2- المتطهرون.
3- المتقون.
4- المحسنون.
5- الصابرون.
6- المتوكلون.
7- المقسطون.
8- الذين يقاتلون في سبيله صفَّاً كأنهم بينان مرصوص.
9- الأذلة على المؤمنين.
10- الأعزة على الكافرين.
11- المجاهدون في سبيل الله.
12- الذين لا يخافون لومة لائم.
13- المتقربون بالنوافل بعد الفرائض.

الأسباب الجالبة لمحبة الله:

1- قراءة القرآن بالتدبر، والتفهم لمعانيه، وما أريد به.
2- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
3- دوامُ ذكرِ الله على كل حال باللسان، والقلب، والعمل، والحال.
4- إيثارُ محابِّ الله على محابِّ النفس عند غلبات الهوى.
5- مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته، ومشاهدتها، ومعرفتها.
6- مشاهدة برِّه، وإحسانه، وآلائه، ونعمه الظاهرة، والباطنة.
7- إنكسار القلب بكلِّيته بين يدي الله تعالى.
8- الخلوة بالله وقتَ النزولِ الإلهي؛ لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بآداب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
9- مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايبُ الثمر، وألا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعَلِمْتَ أن فيه مزيدًا لحالك، ومنفعة لغيرك.
10- مباعدةُ كلِّ سببٍ يحول بين القلب، وبين الله عز وجل.
[انظر: مدارج السالكين 3/18 - 19]


اللهم إنا نسألك حبك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ العمل الذي يقربنا إلى حبِّك.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

  • 17
  • 3
  • 37,537
  • ام حسان

      منذ
    [[أعجبني:]] المقال كله رائع

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً