السميط؛ ولا يزال لـ (تجربة الخير) بقية
من عجائب أفريقيا، قريةٌ في مدغشقر اسمها "مكة" تأكد السميط عبر 19 خبيرًا أن قبيلة الأنتيمور التي تسكنها هاجرت من الحجاز قبل 1000 عام، دفع اسم القرية السميط لزيارتها، وهناك فوجئ بأن سكانها "مسلمون بروتستانت"! كيف يكون المسلم بروتستانتيًّا؟!
"أين أنتم يا مسلمون؟!"
سؤال كثيرًا ما يردده الأفارقة المنكوبون بعد أن اشتقوه من الدكتور عبد الرحمن السميط بنبرة لومٍ للمسلمين الذين غرقوا في نعيم الدنيا، وغفلوا عن أحوالهم والواجب المطلوب منهم، حيث يؤثِّر هذا السؤال في نفس السميط إلى حد البكاء، لكنه في ذات الوقت يُشكل له قوة دفعٍ تُمكنه من نفي التهمة عن المسلمين بالعمل لا بالقول.
في الحلقة الأولى من حوار "فلسطين" مع الدكتور عبد الرحمن السميط -المنشورة أمس- تعرفنا على ملامح عامة في تجربته مع "عمل الخير"، لاسيما في بداية علاقاته بأفريقيا وعمله فيها، واليوم إليكم "الجزء الثاني" من حديثنا مع الداعية الطبيب الكويتي لنتوقف معه عند بعض مشاهداته هناك، وما تعلمه من حياته برفقة الأفارقة وما ينصحنا به.
تعددت أشكال المعاناة والمخاطر التي واجهها السميط في رحلته مع أبناء القارة السمراء، فقد كان يشرب معهم من مستنقعات المياه التي تشرب منها الحيوانات والمليئة بـ"روثهم وفضلاتهم"، ومثلهم أيضًا ينام على التراب، وكذلك فهو لا يعرف عددًا محددًا لحوادث إطلاق النيران عليه سواء المقصود منها اغتياله أو غير المقصودة.
ويصف ما يكابده في أفريقيا بأنه أمرٌ بدهي وثمن يدفعه من يريد أن يخدم الفقراء، ورغم قدرته على تأمين المياه والطعام والتسهيلات الأخرى إلا أنه يرفض ذلك مطلقًا، ويستحي من الله إن هو فعل -كما يقول- بل ويرى في ذلك متعة فيشعر بالسعادة عندما يُنقِذ طفلاً أو يلتقي بأحد الأيتام الذين تربَّوا بفضل أحد المشاريع التي ساهم فيها، وقد أصبح طبيبًا أو مهندسًا أو سفيرًا.
ويندرج قبوله للمعاناة التي يعيشها في خدمة الأفارقة أيضًا تحت مبدأ ضرورة امتلاك معرفة كاملة بتاريخ الشعوب التي يتعامل معها وعاداتها وتقاليدها، ليس هذا فحسب فهو يؤمن بأنه ينبغي أن يحيا كحياتهم، وهو مبدأ ينصح من يسير في طريق العمل الخيري أن يتبعه.
حليب بنكهة "الذباب"
من ذكرياته في هذا التعايش مع الأفارقة أنه في زيارة لإحدى القبائل قُدِّم له حليب لم يميِّز لونه الأبيض لكثرة الذباب فيه، لكنه ليس بمقدوره أن يرفضه لأنه في مهمة دعوية فاضطر إلى وضع قطعة قماش على فمه دون أن يلحظ مُضيفوه لتكون "كالمنخل من الذباب".
تعلَّم السميط أثناء عمله في الغرب من "الكنائس والشخصيات (المسيحية)" أن الدعوة ينبغي أن تُبنَى على أسس علمية، ويضرب مثالاً على ذلك ما فعله مع سكان ستِّ قرى في مدغشقر وستٍّ أخرى في البنغال، إذ لم يذكر لهم شيئًا عن الإسلام ولم يدعهم إليه مباشرة، بل بدأ علاقته معهم بقوله لزعمائهم: "أنا من مكة، أهلي هناك سمعوا أنكم بحاجة إلى ماء وطلبوا مني أن أحفر لكم بئرًا أين تريدونني أن أحفرها؟".
يحفر البئر ويرفق بها لوحة مكتوبًا عليها "هدية من المسلمين في مكة لإخوانهم في القرية". وردة الفعل الطبيعية هي استغراب شديد اعتراهم أنه كيف له أن يخدمهم دون مقابل؟! فيخبرهم حينها أن الإسلام يأمر بمساعدة أي إنسان -مسلمًا أو غير مسلم- ويعود بعد سنة لم يزرهم خلالها ليدعوهم، فيجد أن القرية أسلمت عن "بكرة أبيها"، وعندها فقط يرسل إليهم الدعاة بناءً على طلبهم.
أما غير المسلمين فمساعدتهم واجبة أيضًا امتثالاً للدين الإسلامي -كما يرى السميط- فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله غفر لامرأة عاهرة لأنها سقت كلبًا، فمن باب أولى أن نعامل البشر بهذه الطريقة -كما يقول- إلى جانب أنه يعد الأفارقة يندرجون جميعًا تحت فئة "المؤلفة قلوبهم".
ومن بين العوامل الأساسية للنجاح في العمل الخيري التي اتبعها السميط منذ بداياته الأولى مع هذا النوع من العمل قبل 32 عامًا، عدم ربطه بالسياسة كسببٍ للنجاح، فالسياسة لها رجالها والعمل الخيري له رجاله -على حدِّ قوله-.
وبحكم التجربة، ينصح السميط كل من يعمل في المجال الخيري أن يكون قدوة لغيره، وأن يتقي الله بأن يكون داعيًا بالعمل لا باللسان فقط، وأن يشعر أن السعادة الحقيقية تكمن في زرع السعادة في قلوب الناس.
يفارقهم 11 شهرًا
الأخطاء التي يقع فيها السميط هي كنزٌ يعتمد عليه ليصنع منه النجاحات، وهو يؤمن أن الإنسان إن لم يُخطئ فهذا يعني أنه لن ينجز مطلقًا.
ومن بين أفكار السميط التي تُوضَع تحتها خطوط عريضة لأهميتها مكانة عائلته في عمله، يقول: "كثير ممن فشلوا في حياتهم العملية كانوا قد وضعوا زوجاتهم وأبناءهم على الرف وعملوا بمفردهم، وهذا سبب رئيس للفشل"، ويوضح أنه كان يفارق أبناءه ما قد يصل إلى 11 شهرًا في العام الواحد، فواجه مشكلة نفورهم منه عند زيارته لهم؛ ولذا خصص إجازتهم الصيفية لزيارته في إفريقيا يعيشون معه في الغابات والصحاري، حتى انتقلت إليهم عدوى حب تلك البلاد منذ نعومة أظفارهم.
التعليم بالقدوة يظهر جليًّا فيما يرويه السميط عن ابنه الأكبر، حين زار أفريقيا لأول مرة عندما كان طالبًا في الصف الثاني الابتدائي عام 1980م، فرصد من مآسيها ما يتناسب مع صغر سنه، إذ توجه إلى والده بسؤال: "بابا ليه ما عندهم مراجيح؟!"، الأب الذي يدرك أن ليس لديهم طعام ليفكروا بالألعاب أجاب بما يستوعبه عقل الطفل: "لأنه ليس لديهم نقود"، وبعد أيام من التفكير عاد الابن طالبًا "حصالة" ليجمع أموالاً لفقراء أفريقيا من زملائه، فصنع له والده صندوقًا خشبيًّا لهذا الغرض، ليفاجئه في اليوم التالي بمبلغ كبير تبرَّع به فصله فقط، والمفاجأة الأكبر أن باقي فصول المدرسة طلبت صناديق مشابهة، يقول السميط: "أعطيته صناديق لكافة الفصول، ثم امتدت الفكرة في مدارس أخرى، وأخذ تطبيقها يتسع ويتسع حتى انتشرت في البلاد العربية، ومن هنا كان أصل الفكرة".
ويوجه كلمةً للآباء في هذا السياق: "تربية الأبناء على الخير لا تتم نظريًّا بل بإقحامهم في معمعة عمل الخير، وذلك لا يكون في أفريقيا فحسب، بل أيضًا في حيِّهم ومع جيرانهم وزملائهم".
ومن عجائب أفريقيا، قريةٌ في مدغشقر اسمها "مكة" تأكد السميط عبر 19 خبيرًا أن قبيلة الأنتيمور التي تسكنها هاجرت من الحجاز قبل 1000 عام، دفع اسم القرية السميط لزيارتها، وهناك فوجئ بأن سكانها "مسلمون بروتستانت"! كيف يكون المسلم بروتستانتيًّا؟!
أبلغوه أن آباءهم أخبروهم أنهم مسلمون، ثم بنى لهم البروتستانت كنيسة وعلموهم الإنجيل وصومًا وصلاة وأنهم "مسلمون بروتستانت"، هناك ورثوا عن آبائهم حب "رجل طيب" عاش قديمًا في "قرية مكة" التي هاجروا منها اسمه "محمد"، ويمتنعون عن أكل الخنزير وتربية الكلاب وما زالوا يحتفظون بالكثير مما يؤكد أن أصلهم مسلمون، عندما وصل إليهم ضيفنا منذ 15عامًا كانت نسبة المسلمين 2% فقط من القبيلة واليوم يشكلون 20%.
حكمة مدرسة أفريقيا
بعد اثنين وثلاثين عامًا من الارتباط بأفريقيا، ماذا يقول السميط؟: "تعلمتُ أن السعادة الحقيقية هي أن أُدخل السعادة إلى قلوب الآخرين، أنا لا أعمل مع أفراد وإنما مع مجتمعات مهمشة في أفريقيا، أعتقد أني أديت جزءًا من الدور المطلوب مني في حياتي بأني غيَّرت من واقع هذه المجتمعات".
إذن، هل أنت راضٍ عن نفسك الآن؟
د. عبد الرحمن: "بالتأكيد لا، أنا مقتنع أني مقصِّر بحق أمتي، ولو كنت راضيًا لتقاعدت، فقد كبرتُ في السن وأعاني من 13مرضًا، لكني لا أترك السفر لأفريقيا؛ إذ أخشى الحساب يوم القيامة إن لم أساعدهم".
ورغم أنه أجاب عن سؤالنا له أثناء الحوار عن نصيحة للشباب، إلا أنه آثر أن تكون كلمته الأخيرة موجهة لهم أيضًا، فكان مجمل ما خاطبهم به: "حدِّد هدفًا لحياتك وسجله على ورقة، اجعل لحياتك طعمًا وقدم خدمة لأمتك وللإنسانية بشكل عام، وحاول أن تغيِّر من الواقع المرّ الذي تعيشه المجتمعات المهمشة، ليس شرطًا أن يكون الهدف دينيًّا بل حتى في أمور الحياة، تواضَع بعض الشيء في اختيار هدفك، لكن لا تتواضع كثيرًا، واجعل حياتك كلها سعيًا لتحويله من مكتوب على ورقة إلى واقعي".
- التصنيف: