العلمانية؛ هي الطريق المؤكد إلى الجنون

منذ 2013-11-21

في الماضي كان الناس يعتقدون بأنّ الجنون موجود كله في جهة، والعقل في جهة أخرى. ولا يمكن أن تكون هناك أيّ علاقة اختلاطية بينهما. فالإنسان العاقل -ناهيك عن العبقري- لا يمكن أن يعرف أي لحظة من لحظات الجنون. ولكن الطبّ الحديث اكتشف أنّ العبقرية ليست إلا أحد تجلّيات الجنون. أو قُل إنّ العبقرية تقع في جهة التطرّف، مثلها في ذلك مثل الجنون.


العبقرية تملَّكت الحيرة أحد الأطباء من العاملين في مصحة للأمراض النفسية والعصبية، والخاصة بالحالات المتقدِّمة المستعصية حين عجز عن حل لغز رياضي معقّد نشرته إحدى المجلات وخصصت جائزة كبرى لمن يصل إلى حله، وحين همّ بالنهوض رأى إلى جواره أحد المجانين الفالتين مستغرقاً في الضحك، سأله عما يُضحكه فأجابه المجنون: "لأنك فشلت في الحل بينما هو بسيط، إفعل كذا كذا..."، وقد بادر الطبيب بالاتصال بالمجلة ونال الجائزة بالحل الذي أهداه له المجنون، وكان الطبيب قد سأله: "ألست من نزلاء هذه المصحة؟ ألست مجنوناً؟"، وأجابه الرجل: "نعم، أنا مجنون، ولكنني لست غبياً".

قالوا عنها:

"هناك شعرة رقيقة جداً جداً تفصل بين العبقرية والجنون" (كيركيغارد)

"مثلما أن المرض يحيط بالصحة من كل الجهات فإن الجنون يحيط بالعقل من كل الجهات" (لودفيغ فتغنشتاين)

منذ قديم الأزمان كان الناس يعتقدون بأن هناك علاقة بين العبقرية والجنون، وكانوا دائماً يتحدثون عن العبقري بشيء من التهيّب والوجل؛ فهو شخص غريب الأطوار، معقّد الشخصية يختلف عن جميع البشر. والواقع أننا إذا ما استعرضنا أسماء كبار الكتاب وجدنا أن معظمهم، إن لم يكن كلهم، كانوا يتميزون بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية. بل إن بعضهم دخل في مرحلة الجنون الكامل؛ نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: "هولدرلين، نيتشه، جيرار دونيرفال، أنطونين ارتو، فان جوخ، غي دو موباسان، فيرجينيا وولف، روبير شومان، التوسير".

وعلى هامش كتاب الباحث الفرنسي فيليب برينو: (العبقرية والجنون في الرسم والموسيقى والأدب)؛ يقول لنا الكتاب ما معناه: معظم العباقرة يعانون من اضطرابات نفسية حادّة، وأحياناً ينتقلون من النقيض إلى النقيض دون أيّ تمهيد أو سابق إنذار. أحياناً تجيئهم لحظات إبداعية خرقة فيرتفعون إلى أعلى علّيين، وأحياناً يغطسون في نوع من الإعياء العصبيّ أو الاكتئاب النفسيّ الذي لا تفسير له فينزلون إلى أسفل سافلين. نضرب على ذلك مثلاً الشاعر الفرنسي "جيرار دو نيرفال" الذي كان يكتب روائعه الخالدة بين إقامتين في مستشفى المجانين أو المصحّ العقلي لكي نكون أكثر تهذيباً. وكان مرضه من نوع هذيان الهوس والكآبة العميقة.

في الماضي كان الناس يعتقدون بأنّ الجنون موجود كله في جهة، والعقل في جهة أخرى. ولا يمكن أن تكون هناك أيّ علاقة اختلاطية بينهما. فالإنسان العاقل -ناهيك عن العبقري- لا يمكن أن يعرف أي لحظة من لحظات الجنون. ولكن الطبّ الحديث اكتشف أنّ العبقرية ليست إلا أحد تجلّيات الجنون. أو قُل إنّ العبقرية تقع في جهة التطرّف، مثلها في ذلك مثل الجنون.


وبالتالي فمن العبث أن نطلب من الشخص العبقري أن يكون طبيعياً أو عادياً أو معتدلاً كبقية البشر؛ لكأنّنا عندئذ نقتل عبقريته أو نعتدي على أعزّ ما فيه: أي شذوذه، غرابته، خروجه على المألوف.

{
لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل من الآية:70].

الحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله أن جعلنا مسلمين.

نعم هذا ما قالوه في العبقرية.

أما نحن فلدينا جوهر المعاني المصطلحات، نعم قد تكون العبقرية هي أقرب اللحظات إلى الجنون، وهذا صحيح؛ والسبب ببساطة أن العبقرية هي نهايات النشاط العقلي من حيث الذكاء -أي الوصول إلى الحدود القصوى لجدران محيط العقل-؛ فالعقل البشري ذو حيِّز محدود، وله إطارٌ حاجز ويسبح داخل فضاء لا نهائي من العلم اللدني الإلهي، والعبقرية هي الوصول بالقرب إلى تلك الأطر الفاصلة بين المحدود والمطلق اللا نهائي.

أما عند محاولة البعض تعدي تلك الحدود الفاصلة ويخرج من تلك الأطر؛ يجد نفسه فجأة يسبح في المطلق اللانهائي فيتضائل حجمه مرة أخرى ويتجه إلى التناهي في الصغر، إلى أن تتلاشى تماماً كنقطة سوداء القيت في محيط مليء بالأمواج فما تلبث ثوان إلا وقد تلاشت وفقدت خصائصها؛ ولذا يكون الجنون بعد العبقرية كما قالوا.

أما نحن فقد عرفنا كيف نحافظ عليها، بل كيف نصنعها، بل كيف نوظفها، بل حتى كيف نُرضي فضولنا البشري الفطري لمعرفة ما وراء تلك الجدران، فلم يتركنا خالقنا هائمون على وجوهنا؛ بل فتح لنا نافذة وترك لنا الحبل السري المتصل من تلك الحدود المحيطة بعقولنا بالفضاء اللانهائي من العلم اللدني الإلهي عبر الشرائع السماوية.


وجاءت كل تلك الردود في في كلمات معجزة آيات من الذكر الحكيم لتضع تفسيراً لكل شيء أضاع فيه العباقرة والفلاسفة أعمارهم ولم يصلوا إلى شيء فقط بعضهم تلاشى في أمواج المحيطات، وبعضهم عاد إلى حدود تلك الأطر لينظر من تلك النوافذ، ويتلقى غذائه من خلال هذا الحبل السري.

إذاً العبقرية فعلاً تنتهي عند مفترق طريقين:

1- إما أن تتلاشى وتنتهي وتذوب بتعديها لحاجز الحدود الطبيعية للعقل.

2- وإما أن تعود للمسلك الصحيح، وتستقي وتشبع نهمها للمعرفة والإبداع من خلال نوافذ الشرائع السماوية وما جاء به الرسل، وتحافظ على حبلها السري مع المطلق اللانهائي.

ومن هنا يمكن ترجمة كل شيء في الحياة: "السياسة - الفن - الإبداع - الحرب - السِلم - الاقتصاد - الاجتماع - المشاعر - الشهوة - العاطفة - الأدب - الفلسفة - الأديان - الروح - الموت - النفس".

باختصار: الإنسان.

ولذا إذا قال أحدهم أن دعاة العلمانية هي أولى خطوات الجنون؛ بالتأكيد الإجابة وِفق ما سبق ستكون؛ نعم، وألف نعم.

لأن ببساطة العلمانية تدعوا إلى قطع ذلك الحبل السري المشار إليه، وتدعو أيضاً إلى غلق تلك النوافذ المطلة على ذلك الفضاء المطلق من العلم اللدني الرباني.

لأنها تدعو إلى فصل الدين عن السياسة؛ بل فصل الدين عن الحياة، أو فصل الدين عن أي جانب من مقومات الحياة.

أي أنها تدعو إلى الاستمرار قُدماً في محاولة تعدي تلك الحدود والأطر العقلية المانعة من الجنون.

{
وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة من الآية:255].

{
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].

فعليهم أن يدركوا ذلك... نعم هم في طريقهم للجنون؛ وإن لم يجنُّوا بعد.

حقاً فالعلمانية هي طريق الجنون.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 14
  • 0
  • 3,514

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً