الكافر لا عقل له

منذ 2014-02-08

هل أحد منكم يقدر على الهرب من الله، وإذا كنتم تغارون على أنظمتكم وتعليماتكم وقوانينكم حتى تعاقبوا من يخالف ذلك بأنواع من العقوبات أتظنون أن الله يقبل منكم أن تخالفوا شرعه ودينه، أو أنه لا يؤاخذكم ويعاقبكم بما كسبت أيديكم، فالنجاء النجاء فالسعيد من وعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه.

 

يتبجح أكثر الكفار ومن سار على دربهم من الخارجين على شريعة الرحمن أنهم أصحاب العقول الراجحة، ولم يكتفوا بذلك حتى وصموا مخالفيهم من أتباع الرسل أنهم لا يعقلون ولا يفقهون، والمتتبع لآيات الكتاب العزيز وما حاق بالأقوام المكذبة لرسل ربّ العالمين وعبْر التاريخ يدرك لا محالة أن مكذبي الرسل لا عقول لهم، والعقل المنفي هنا ليس العقل الذي تقوم به الحجة ويثبت به التكليف؛ وإنما العقل المنفي هو العقل الذي ينتفع به صاحبه ويتعظ مما مرّ بالأقوام التي سبقته وبالوقائع التي مرت به.

قال الله تعالى في بيان أن الكافر لا عقل له: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:

179].

فلهم قلوب لكنهم عطلوها عن وظيفتها فلم يفقهوا بها، ولهم أعين لكنهم أغمضوها عن النظر فيما يقود إلى الهدي ولهم آذان لكنهم أصموها عن سماع الحق فصاروا لأجل ذلك أضل من الأنعام لأن الأنعام استخدموا حواسهم فيما خلقها الله له أما هؤلاء فلم يستعملوا حواسهم إلا في جزء يسير وهو مصالحهم الدنيوية، أما المقصد الأسمى وهو توحيد الله وعبادته فلم يستخدموها في ذلك، وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وقال: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة من الآية: 103].

وبيّن الله تعالى أن الكفار لا يتعظون بما مرّ بالأقوام قبلهم فتمرّ بهم الأحداث والوقائع ويرون مصائر المعاندين المخالفين ومع ذلك لا يتعظون حتى إنهم يكادون يفعلون نفس ما فعل من سبقهم وكأنه لم يمرّ بهم ما وقع بالأقوام قبلهم، قال تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 45-46].

ويوم القيامة حين يُلْقون في النار يشهدون على أنفسهم أنهم لم يكونوا يعقلون، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، بل الشيء الذي لا يكاد يتصور من ضعف عقول هؤلاء أنهم بعد ما عاينوا العذاب لو ردهم الله إلى الدنيا وأعادهم إليها لعادوا مرة أخرى للذي كان سببا في دخولهم النار فهل يتصور أن هناك عقلاً أضعف من ذلك، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27-28].

فهم يتمنون أن يردوا إلى الدنيا بعد معاينتهم للنار ثم يقطعون على أنفسهم العهد أنهم لن يكذبوا بآيات ربهم وسوف يكونون من المؤمنين، ويبين الله تعالى أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه.

وهناك حادثة وقعت كلنا سمع بها وقرأ عنها يتبين منها أن الكافر لا عقل له ينتفع به فهذا فرعون لعنه الله تعالى لما أرسل الله له موسى وهارون عليهما السلام كذبهما، وأعطاهما الله من الآيات الواضحات البينات على صدق دعوتهما فما زاده ذلك إلا استكباراً وعناداً، إلى أن أنزل الله به وبقومه من البأس ما لا طاقة بهم لاحتماله ولا قدرة على دفعه حتى ألجأهم ذلك إلى سؤال موسى عليه السلام أن يسأل ربه أن يكشف ما بهم وليكون استجابة الله له دلالة على صدقه ومن ثم يؤمنوا به وبمن أرسله وبما أرسله.

وقد كان كشف البأس الذي نزل بهم بعد دعوة موسى عليه السلام كفيلاً أن يقودهم إلى الإيمان لو كانوا يعقلون ومع ذلك لما كشف الله عنهم الرجز إذا هم ينكثون، قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ}[الأعراف: 134] {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الأعراف: 135].

وقال الله عنهم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ . فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف: 50-51]، فمثل هؤلاء الذين يتصرفون هذه التصرفات لا عقول لهم وإن اكتشفوا من المعارف ما اكتشفوا وإن اخترعوا وصنعوا من الآلات الدقيقة والعظيمة ما صنعوا، بل الأعجب من ذلك أنّ فرعون لعنه الله عزم على القضاء على موسى عليه السلام وقومه فخرج موسى بقومه طالباً النجاة واتبعه فرعون بجنوده وبعد فترة من المطاردة اعترض البحر موسى وقومه ولم يكن أمامه إلا أحد طريقين:

- إما أن يخوض البحر بقومه فيلقون حتفهم غرقاً.

- وإما أن يبقى واقفاً في مكانه ينتظر قتل فرعون وجنوده له ولقومه.

فأعطاه الله آية عظيمة من أعظم الآيات إذ أوحى إليه أن يضرب البحر بعصاه فلما ضربه موسى بعصاه انفلق البحر وانشق له ولقومه فيه طريقاً يبساً فأسرع موسى بقومه يعبر هذا الطريق.

لقد كانت هذه الآية العظيمة كفيلة أن يوقن فرعون لعنه الله أن موسى عليه السلام رسول من عند الله تعالى وأنه لن يتمكن منه لأن الله معه، وأن الذي شقّ له البحر العظيم لن يسلمه لعدوه ولن يمكنه منه.

ولكن فرعون الكذاب غره حلم الله عنه فاندفع بجنوده خلف موسى وقومه ليلحق به قبل أن يفلت منه، هذا الطاغية لو كان عنده عقل هل كان يمكن أن يتصور أن الله يمكنه من عبور الطريق اليابس الذي شقه لنجاة عبده ورسوله موسى عليه السلام لقد كانت هذه الآية العظيمة كفيلة -لو عنده عقل- أن تجعله يتوقف فوراً عن مطاردته ويؤمن بما جاء به.

ولكن لأن الكافر لا عقل عنده ظن أنه يمكنه أن يعبر خلفه على الطريق الذي شقه لنجاته فأسرع بجنده مقتحماً الطريق فأمر الله القوي العزيز البحر أن يعود لما كان فانطبق البحر عليه وجنوده فكانوا من المغرقين.

وفي تاريخنا المعاصر نجد بعض حكام بلاد المسلمين يحاربون الله ورسوله ويحاربون المؤمنين عقوداً طويلة من الزمن ثم لا يلبث أن يهلكه الله تعالى ويعود الدين في نفوس المسلمين أقوى إيماناً وأوضح علماً وبياناً، ثم يخلفه من بعده من لا يتعظ بما مرّ بسلفه ويسير سيرته حذو القذة بالقذة، والمتأمِّل في أحوال كثير من الدول يجد صدق ما أقول، ومن هنا أقول يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، هل أحد منكم مهما بلغ من قوة أقوى من الله الذي خلقه هل أحد منكم مهما كانت أعداد جنوده ونوعية أسلحتهم بغلب الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة من الآية: 21].

هل أحد منكم يقدر على الهرب من الله، وإذا كنتم تغارون على أنظمتكم وتعليماتكم وقوانينكم حتى تعاقبوا من يخالف ذلك بأنواع من العقوبات أتظنون أن الله يقبل منكم أن تخالفوا شرعه ودينه، أو أنه لا يؤاخذكم ويعاقبكم بما كسبت أيديكم، فالنجاء النجاء فالسعيد من وعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه.
 

المصدر: مجلة البيان

محمد بن شاكر الشريف

باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.

  • 2
  • 0
  • 8,096

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً