ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء
الإمام العادل وصي اليتامى وخازن المساكين، يربي صغيرهم ويمون كبيرهم، والإمام العادل هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم..
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيد المرسلين، وبعد..
القضاء ملاذ المظلومين ومنتهى الخائفين، وزورق نجاة الضعفاء، فإذا فسد قضاء أمة وأصبح حاميها حراميها فلمن يشتكي المظلوم؟! وكيف إذا آوى المظلوم إلي ما حسبه ركناً شديدًا فوجده سكينًا مطعونًا في ظهره، وشوكة في حلقه؟! فمرارة خيبة الأمل أشد إيلامًا من مرارة الظلم..
لما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه الحسن رحمه الله فكان من كلامه: "اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العادل وصي اليتامى وخازن المساكين، يربي صغيرهم ويمون كبيرهم، والإمام العادل هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله عز وجل كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله وفرق ماله، وأعلم أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها وإن الله أنزل القصاص حياةً لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ فالآن وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل لا تحكم في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمةً، فتبوء بأوزارك وتحمل أثقالك وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون في بؤسك ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك، ولا تنظر إلى قدرتك اليوم ولكن انظر إلى قدرتك غداً، وأنت مأسور في حبائل الموت وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم" (الحسن البصري لابن الجوزي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وتاريخ التصوف السني).
إن أشد ما تصاب به مؤسسة من المؤسسات أو جماعة، أو حتى بيت من البيوت هو أن يكون مديرها وقائدها وربها وحاميها ظالمًا، لا يري إلا نفسه ولا يسعى إلا لمصالحه، فكيف إذا جمع مع الظلم غدرًا وكذبًا وخيانة؟! كذلك الحال في الأمم والدول، فينصر الله الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، {وَمَكَرُوا مَكْرًا . وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ . فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:50-52].
.
إذا خـــان الأمير وكاتباه *** وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل *** لقاضي الأرض من قاضي الســمــاء
وإن كان الوداد لذي وداد *** يزحــــزحـه عن الحق الجلاء
فلا أبقــاه رب العرش يوماً *** كــحـــلـــة بميل من عماء
عن جابر قال: "لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: «ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة»، قال فتية منهم بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلةً من ماء، فمرت بفتًى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت صدقت كيف يقدس الله أمةً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم»" (ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني).
فكيف تنهض أمة انقسمت إلي شعبين، شعب استبيحت وانتهكت كل حرماته، فشفاهه بالخيط قد جمعت فالكلام عليه محرم، وأيديه غلت وأرجله قد صفدت فالميادين عليه قد حرمت، وإن تجرأ على شيء من هذا فله الرصاص مصبوب وقنابل الغاز بلا حدود، ومن طال عمره فأمر الضبط والإحضار مكتوب، وشعب تحميه الدبابات وتحرسه الطائرات ويكافأ إن تكلم ويمدح إن تحرك، ومرحبًا به في كل الميادين، فالداخلية منهم ولهم والجيش مدافع عنهم؟ كيف تنهض أمة الأحرار فيها في السجون والعملاء في القصور، والشرفاء في القبور والعبيد في المروج، يسعون في الأرض فسادًا ينهبون الثروات، ويعملون علي تقزيم الأمة؟
من أجل ذلك عنى الإسلام بالقضاء عناية عظيمة، فوصى بالقضاء بين الناس بالحق وحذر من الجور واتباع الهوى، فقال عز وجل: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]، عن أبي سعيد الخدري قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له أحرج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا ويحك! تدري من تكلم؟ قال إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا مع صاحب الحق كنتم» ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: «إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك»، فقالت نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه فقال أوفيت أوفى الله لك، فقال: «أولئك خيار الناس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع» (رواه ابن ماجة، وصححه الألباني)، وغير متعتع بفتح التاء أي: من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه، يظنون أنهم يجمعون وفي الحقيقة يفرق الله جمعهم، ويظنون أنهم يعمرون وفي الحقيقة يخرب الله بيوتهم، يظنون أنهم يزيدون أموالهم وينزع الله منها البركة.
محكمة الحق الإلهية: ولكن إذا فسد القضاء وخاب الأمل في قاض الأرض، وضاع الحق في الدنيا فالفصل في القضاء بين يدي الله في محكمة الحق الإلهية، فهناك يوم للحكم والفرقان، والفصل في كل ما كان، وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود للفصل في جميع القضايا المعلقة في الحياة الأرضية، والقضاء بحكم الله فيها، وإعلان الكلمة الأخيرة والحكم النهائي البات: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ . لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ . لِيَوْمِ الْفَصْلِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:11-15]، وفي هذا اليوم الويل لمن ظلم وبغى وتعدى، وضيع حقوق المظلومين والضعفاء.
إذا ما الظلوم استوطأ الظلم مركباً *** ولج عتواً في قبيح اكتسابه
فكله إلى صرف الزمان وعدله *** سيبدو له ما لم يكن في حسابه
يوم الفصل ميقاتهم: يا أيها المظلوم صبراً: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ . يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:40-41]، {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا . يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:17-18]، يجتمع الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، الجاني والمجني عليه، فتبلى السرائر وتظهر الحقائق ويعطى المظلوم حقه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «يجيء القاتل والمقتول يوم القيامة متعلق برأس صاحبه -وفي لفظ: يجيء متعلقًا بالقاتل تشخب أوداجه دمًا- يقول: رب سل هذا لم قتلني؟» وفي رواية: «فيقول قتلته على ملك فلان» (رواه أحمد، وابن ماجه، والنسائي، وصححه الألباني).
أمــا والله إن الــظـلــــم لــــــؤم *** ومـا زال المسيء هو الظلوم
إلى ديـــــــــان يوم الدين نمضي *** وعنــد الله تجـتمع الخصوم
ستعلم في الحســـــاب إذا التقينا *** غـدًا عنـد الإله من الملــوم
تجتمع الخلائق للقضاء الحق وقاعة المحكمة يعلوها الصمت التام، فلا يعلوا إلا صوت الحق: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108]. وليس هناك محامون إلا من عمل صالح: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]. والقاضي فيها يحكم بعلمه فلا يخفى عليه شيء: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، ولا بد من إحضار المتهم فليس فيها حكم غيابي: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [الزمر:16]، والجهة التنفيذية فيها: {..مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، والمتهم لا يستطيع الفرار: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]، والمظلوم حتما يشفي الله، غليله ويذهب غيظه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه:112]، فالميزان حساس بمثقال الذرة، ولا يضيع فيها حق ولا يتبدد، ولا يسقط الحكم بالتقادم.
عن عبد الله بن أنيس قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة -أو قال العباد- عراةً غرلاً بهماً»، قلنا وما بهما قال: «ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة»، قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراةً غرلاً بهماً، قال: «بالحسنات والسيئات» (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فيا أهالي الشهداء، ويا من اتهمت ظلمًا فسجنت أو صودرت أموالك، أو جرحت أو أصبت بأي أذى، لا بد أن يقف لك ظالمك ذليلاً خاشعًا لتقتص منه، وإذا كان يوم ظلمك يومًا شديد عليك فيوم ظالمك عليه أشد: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26].
عن محمد بن كعب القرظي قال: "ثلاث خصال من كن فيه كن عليه: البغي، والنكث، والمكر، وقرأ: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح:10]" (رواه أبو نعيم في: أخبار أصبهان، وأبو الشيخ، وابن مردويه في التفسير)، عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك بالله قال الله عز وجل: {..إِنَهُ منْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ..} [المائدة:27]، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة» (رواه أحمد، والحاكم وصححه).
وأما الشهود فيها فهناك تسجيل لكل الأحداث، فمن علم الإنسان التوثيق بالصوت والصورة بوسائل التكنولوجيا الحديثة، أيعجز عن توثيق ظلمهم صوتا وصورة؟! فهناك سجلات مدونة لظلمهم: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28- 29]، وملائكة حفاظ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، وتحدث المفاجآت فيشهد على الظالم جوارحه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:24-25]، ويكفينا أن الله شاهد ومطلع، فسبحانه علام الغيوب: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ . هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:29-30].
يا قضاة الحق:
أنتم قلب الدولة إن صلح القلب صلحت الدولة كلها، وإن فسد ضاعت الدولة كلها، فعليكم بوصية الله لكم: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]، {..وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]، عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (رواه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي، وصححه الألباني، وصححه العراقي).
الأمر أخطر مما يتصوره البعض، فليس الأمر خطأ وصواب، أو ذنب وخطيئة، بل هي جنة أو نار.
ويكفيكم ما رواه مسلم عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال له رجل وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله قال: وإن قضيباً من أراك»، وفي الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحد سوطًا فيقول رحمةً لعبادك، فيقال له أنت أرحم به مني، فيؤمر إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطًا فيقول لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار» (ذكره الفخر الرازي في تفسيره).
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالذي ضرب فوق الحد فيقول له الله تعالى عبدي لم ضربت فوق الحد؟ فيقول غضبت لك، فيقول أكان غضبك أشد من غضبي؟! ويؤتى بالذي قصر فيقول عبدي لم قصرت؟ فيقول رحمته، فيقول أكانت رحمتك أشد من رحمتي؟! ثم يؤمر بهما جميعًا إلى النار»، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه»، قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
أد الأمانة والخيـانة فـاجتنب *** واعدل ولا تظلم يطيب المكسب
واحذر من المظلـوم سهما صائبا *** واعلـم بأن دعـاءه لا يحجـب
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180-181].
عبد الوهاب عمارة