تكثير الأتباع بالوحي لا بالابتداع
والذي يتأمل تاريخ الإسلام يجد أكثر الناس تبعاً من بني الإسلام هم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم من الأئمة العاملين المتبعين للوحي الذين لهم قدم صدق في الإسلام ثابتة، قد أخذو الكتاب بقوة، ولم يعرف فيهم متساهل أو مترخص متلاعب، جعل الوحي باسم المصلحة خلفه ظهرياً. وإن لم تقم للحق دولة تنصره وترعاه، بل مات أهله في الأغلال والسجون فهو أتم لأجرهم، والله يرفع ذكرهم، كما رفعوا دينه الخالص.
إنَّ بِيَد العلماء والدعاة اليوم كنز عظيم من إرث النبوة، إنْ هُم استخرجوه كما هو، واستعملوه على وجهه، فجدير بالناس أن يؤمنوا بما جاءوهم به، فمع الدعاة اليوم ما بمثله تؤمن البشرية، فقد صح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » .
إن الدعاة اليوم ليسوا بحاجة مع هذا الكنز إلى اتباع زبالات العقول ولا إلى استيراد آراء ونظريات الغربيين، وليسوا كذلك بحاجة إلى إخفاء جزئه والتنصل من بعض أحكامه، بل ما يتنصلون منه، فيعتسفون له التأويلات حيناً لينسجم مع نظريات الغربيين، ويكتمونه حيناً آخر باسم مصلحة الدين، وهو المصلحة المعجزة التي بمثلها آمن البشر، والإشكال كل الإشكال في تلك العقلية التي ترى المعروف منكراً، تلك العقلية المنتكسة هي التي يجب أن تعدل، هي التي يجب أن تصحح لا الشرع المطهر، وإذا علم هذا فثمة أمور ينبغي أن يتنبه لها كل من سلك طريق الدعوة منها:
1- عرض دعواتنا على الوحي، فمتى خالفت منهاجه أو تعارضت مع أحكامه، فلنوقن بأننا في منأى عن عرض دعوة بمثلها يؤمن البشر إيماناً صادقاً شرعياً معتبراً، وإنما هي آراء زخرفت وزوقت فانجذب إليها من ضعف تمييزهم أو اتبعوا أهواءهم، ولا تغرنك كثرتهم!
2- وما ينبغي التنبه له أنه متى وجدنا أن الدعوة لم تلق قبولاً فلنوقن بأن الخلل في أحد أمرين:
- (إما أن تكون دعوتنا قاصرةً غيرَ منسجمة مع الوحي في منهاجها أو أحكامها أو بعض شأنها).
- (وإما أن يكون الخلل في الشريحة المدعوة والخلل حينها أحد أمرين:
-- فقد تكون الشريحة المنتقاة للدعوة مخاطبة بخطاب شرعي لا يناسبها.
-- وقد يكون الخطاب مناسباً لها لكن الخلل في عقلية المخاطبين التي انتكست، ونفوسهم التي أشربت حب الباطل فلا تطيق التخلي عنه).
وعلى الداعية أن يتهم نفسه قبل أن يتهم الآخرين، ويراجع دعوته أولاً بعرضها على الوحي دائماً، ثم يراجع خطابه ويقيم ملاءمته للمدعوين، وأخيراً يبحث عن سبل علاج مرضى القلوب من أصحاب الأهواء والشهوات العالمين المعرضين أو المستكبرين.
3- ومما ينبغي أن نتنبه له كذلك أن كثرة الأتباع، وحشد الجماهير، وتكثير السواد قد يحصل بعضه بالباطل، وقد يكون شيء منه بالتنازل عن الدين، غير أن الكثرة الكاثرة والسواد العظيم المبارك لايمكن جمعهم إلاّ على الوحي الذي يؤلف بينهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: « »، وكما أن للحق أتباع، فإن للباطل أتباعه، ولكل ناعق تابع، وأتباع الشهوات والأهواء كثير، بل {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، غير أن التأليف بين أصحاب الأهواء المختلفة عسير، وتحقيق رغباتهم كلهم يتعذر فهم الأغلبية المتفرقة، فهم أغلبية لكنهم {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8-9].
أما الاجتماع على الحق والتنازل له فممكن حلو ميسور، ولاسيما الحق المنزل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء بشريعة سمحة جمعت المحاسن، وهدت إلى أقوم السبل، فحري بالنفوس المتجردة السوية أن تتبعه وأن تأتلف عليه، وحري كذلك بأن يكون الداعي إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكثر تبعاً من صاحب الشرع المحرف أو المبدل لو عقل الأتباع والمدعوون، ولكن شأن الأهواء يأبى أن يكون الأحرى والأولى هو الأولى، ومع ذلك فإنَّ سلطان الوحي الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم أبى إلاّ أن يقتحم قلوب كثير من الناس فكان أكثر الأنبياء تبعاً نبينا صلى الله عليه وسلم.
والذي يتأمل تاريخ الإسلام يجد أكثر الناس تبعاً من بني الإسلام هم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم من الأئمة العاملين المتبعين للوحي الذين لهم قدم صدق في الإسلام ثابتة، قد أخذو الكتاب بقوة، ولم يعرف فيهم متساهل أو مترخص متلاعب، جعل الوحي باسم المصلحة خلفه ظهرياً.
إن تمييع الدين والتنازل عن بعض الثوابت قد يجمع حول الداعية خلقاً بعض الوقت، ثم لا يلبس ذلك الجمع أن ينفض إما بموته فهم ما اتبعوه إلاّ لتحقيق مآربهم وإنما امتطوه ليكون ذريعة شرعية نحو شهواتهم، وإما بأن يجد الجمهور من هو أوسع فقهاً منه ولك أن تقول: (أرق ديانة!)، وإما أن يهدي الله من تلك الجموع فئاماً تبصر الحقيقة فتنفض عمن يزورونها، والنتيجة الحتمية اضمحلال الباطل وذهاب هيبته وظهور الحق وإياب دولته {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17].
ولو تأملنا في حال المجددين والمصلحين الذين تبعتهم الأمة ورفع الله ذكرهم فيها منذ القرن الأول وإلى اليوم، وجدناهم جميعاً مما يعنون بالوحي وإقامته بين الناس، يمسكون بالكتاب، ويحيون السنن، ويحتاطون للأمة، ما عرف واحد منهم بإحياء البدع، ولا الاندفاع في الترخص، وأمثال هؤلاء ومن جرى على سننهم هم من سوف يبقى علمهم ويشاد ببذلهم ولو بعد حين فهؤلاء إنما يجددون علم النبوة، أما غيرهم فسيضمحل ولو بعد حين، وتلك هي سنة الله في الأولين وسوف تبقى في الآخرين، إلى آخر الزمان، ومن سِرِّ ذلك أن الوحي هو الذي به يؤمن البشر وبه تصلح شؤونهم في سائر الأوقات والأماكن، فلا غرو أن يكون الداعي إليه أكثر الناس تبعاً، على أن المطلوب من أهل الحق أن يبينوه ويجتهدوا في دعوة العقلاء إليه، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
فإن لم تقم للحق دولة تنصره وترعاه، بل مات أهله في الأغلال والسجون فهو أتم لأجرهم، والله يرفع ذكرهم، كما رفعوا دينه الخالص، وتأمل قول بعض السلف: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز!، مات أحمد بن حنبل فتبع جنازته أهل بغداد، ومات ابن تيمية فتبع جنازته أهل الشام،...، ومات ابن أبي دؤاد رجل الدولة فما تبعه عدد يذكر!، مع أنه كان جواداً ممدحاً وكانت العامة والخاصة –سوى قلة- كانت تظهر له الموافقة خوفاً من بطش السلطان، والله المستعان.
الشيخ الدكتور ناصر العمر
- التصنيف: