قبل أن تنتحري

منذ 2014-03-30

الحياة صعبة ومليئة بالمشكلات، وربما وصل بعضُنا إلى حالةٍ من اليأس حتَّى يظن أنها نهايته، لكنه يتجاوزها بفضل الله، فتبدو له بعد ذلك اليوم وكأنَّها مجرد كابوسٍ عابرٍ.

نص رسالتها: "أنا فتاة بالعشرينات من عمري، فكرت بالانتحار أكثر من مرة، لكني أتراجع. هذه المرة فكرتُ بجديةٍ أنْ أنتحر بسبب مشكلات أسرية، لا يد لي فيها، ولكن يلحقني منها أذًى، ولا سبيل إلى الخلاص منها حتى الآن؛ إلا بالانتحار، قرأتُ فتاوى تحرِّم الانتحار، وأنه يقود صاحبه إلى النار، لكن أنا يا مشايخنا وعلماءَنا ما ذنبي؟! كي تُفْتُون بدخولي النار، وأنا يَشْهدُ اللهُ لم أرتكب كبيرةً في حياتي؟ لم أفعل أيَّ شيء خطأ، إلا أني أبحث عن الراحة، وراحتي هي في عدم وجودي بالحياة، لماذا لا تفهمونني؟!". انتهى.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أختي الكريمة؛ قبل أنْ تنتحري اقرئي هذه الكلمات، وتأملي هذه العبارات، لعلك تجدين فيها ما تؤمّلين.

في رسالتك المفاجئة أحسستُ بعَبَراتك تخنق عباراتك، وشعرت بلهيب آهاتك تَنْفُثها كلماتك، لكن ما يبعث على الاطمئنان، وكما يظهر جليًّا مِن خطابك: أنك على مستوًى عالٍ من التدين والإيمان والخوف من الله، ونحن نؤمن أنَّ سبب كثير من حالات الانتحار هو ضعف الإيمان أو عدمه والفراغ الروحي، والذي ينتشر في الدول غير المؤمنة.

سبق وأنْ شاهدتُ على اليوتيوب حلقةً من برنامج (القذائف) للدكتور محمد العوضي، والتي التقى فيها بشابٍ تقلَّب في مراحل الشك بالدين حتى وصل إلى مرحلة خطيرة، وهي الشك في وجود الله ووجود الجنة والنار، ودخل في عالم الإلحاد.

لقد كانت عَبَرات الألم والحزن تخنقه؛ لأنه لم يستطع الوصول إلى حقيقة الوجود، ظنَّ أنَّ في الإلحاد إغلاقًا لأبواب كثيرة مِن التساؤلات الغيبية، فإذا به يقع في حيرةٍ أكبر، حتى كاد يُصاب بالجنون، فقرَّر أنْ يجيب عن تلك الأسئلة الملحة بتجربة متهورة؛ ليكتشف عالم الغيب، فَالْتَهَمَ عقارًا قاتلًا، لكنَّ عنايةَ الله أدركته، واستطاع الأطباء إنقاذ حياته.

صَدِّقيني أختي الكريمة؛ إنْ كنتُ سأعذر منتحرًا -ولن أفعل- فقد أعذر الملحد؛ لأنه إنْ عاش معاناةً في الدنيا كمرضٍ أو فقرٍ أو ظلمٍ أو ألمٍ؛ فإنَّه قد يختار إيقاف معاناته بالموت؛ لأنه لا يؤمن بأن هناك حياة أخرى، ويعتقد أنَّ الموت راحةً له من الألم.

وبالنسبة لك أختي العزيزة؛ فنحن نؤمن أنَّكِ لا تزالين في نعمة عظيمة؛ لأنك تعلمين أنَّ هذه الحياة ليست هي نهاية العالم.

تأمّلي معي أختي المؤمنة؛ هذا الحديث: «يؤتى بأشد المؤمنين ضرًّا وبلاء، فيقال: اغمسوه غمسةً في الجنة، فيُغمس فيها غمسةً، فيقال له: أي فلان، هل أصابك ضرٌّ قط أو بلاء؟ فيقول: ما أصابني قط ضر ولا بلاء». (رواه مسلم [2807]، وابن ماجه [4321]، وصححه الألباني).

لِنَقُلْ أختي -تجاوزًا-: إنك أَبْأَس أهل الدنيا، لكن تَذَكري أنَّ غمسةً في الجنة ستُنسيكِ كل ذلك العذاب والبؤس.

إذًا النعيم الحقيقي هو نعيم الآخرة، والبؤس الحقيقي هو بؤس الآخرة، وماذا تُشكِّل عشر أو عشرون أو ستون سنة من المعاناة مقابل ملايين السنين من النعيم.

أيتها الفاضلة؛ الحياة صعبة ومليئة بالمشكلات، ومع إيماني أنكِ تُعانين الكثير، ولكن صدِّقيني ربما هناك مَنْ هو أشد معاناةً منكِ، وأنا أجزم أنَّ لكل واحدٍ منا قصة معاناة في هذه الحياة، وربما وصل بعضُنا إلى حالةٍ من اليأس حتَّى ظننا أنها نهايتنا، لكننا تجاوزناها بفضل الله، فهي تبدو اليوم وكأنَّها مجرد كابوسٍ عابرٍ نسيناه، بل ربما نتذكره للتسلية.

هذه هي طبيعة الحياة أختي الكريمة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، إنْ حَلَتْ أَوْحَلَت، وإنْ كَسَتْ أَوْكَست، وإنْ غَلَتْ أَوْغَلت. خُلِقت على كَدَرٍ، وأنت تريدها صفوًا من الأقذاء والأكدار. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ‌ الْآخِرَ‌ةُ خَيْرٌ‌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32].

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت***أنَّ السلامة فيها ترك ما فيها

سُجن الإمام أحمد وعُذِّب وجُلد، وظل حياتَه يجاهد ويكتب ويؤلِّف ويرحل ويدعو ويعلّم، فرآه أحدُ تلاميذه -وقد أنهكه الزمن-، فقال له: متى الراحة يا إمام؟ فقال: "الراحة عند أول قدمٍ أضعها في الجنة".

نعم أيتها المؤمنة؛ لا تظني أنَّ الدنيا خُلقت لنا فقط، أو أننا خُلقنا لها فقط، أوأننا حتمًا سنعيش فيها هانئين، قال ابن عمر رضي الله عنهما: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال: «اعبد الله كأنك تراه، وكنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». (رواه البخاري [6416]، وأحمد [2/ 132]).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غرفةٍ كأنها بيت حمام، وهو نائم على حصير قد أثَّر بجَنْبه، فبكيتُ، فقال: «ما يبكيك يا عبد الله؟» قلت: يا رسول الله، كسرى وقيصر يطوون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثَّر بجَنْبك، فقال: «فلا تبكِ يا عبد الله، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة، وما أنا والدنيا! وما مَثَلي ومَثَل الدنيا إلا كمَثَل راكبٍ نزل تحت شجرة، ثم سار وتركها». (رواه الطبراني في الكبير [10327]، وهو حديث ضعيف لكن معناه يتقوى بحديث عمر بن الخطاب الذي رواه ابن حبان [736]).

نعم؛ هذا هو مقياسنا أختي الكريمة؛ الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة، أما الدنيا فهي دار ابتلاء، الدنيا يعطيها الله للمؤمن والكافر. قال صلى الله عليه وسلم: «وإنَّّ الله يعطي الدنيا مَن يحب ومَن لا يحب، ولا يُعطي الإيمان إلا مَن أحب»، (رواه ابن أبي شيبة [34545] وغيره، وصححه الألباني).

وفي الحديث: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء». (رواه ابن أبي شيبة [34324]، وصححه الألباني).
ولو كان مِن حق أحدٍ أنْ يستمتع في الدنيا؛ لكان هو رسول الله، لكنه صلى الله عليه وسلم مات فقيرًا، في بيت من طين، ودرعه مرهونة عند يهودي، مات ولم يشبع من خبز بُرٍّ، ولم تكن تُوقَد النار في بيته أيامًا وشهورًا.

وعند وفاته صلى الله عليه وسلم خيّره اللهُ بين أنْ يعيش كأحدِ ملوك الدنيا أو أنْ ينتقل إلى جواره، فرفع حبيبنا صلى الله عليه وسلم سبابته إلى السماء، قائلًا: «إلى الرفيق الأعلى» (رواه البخاري [6509]، ومسلم [2444]).

أختي الكريمة؛ ما هي المصيبة التي تُعانين منها؟

هل اتُّهمتِ في عرضكِ؟ فاعلمي أنَّ أم المؤمنين عائشة -وهي الأكرم عند الله ورسوله- اتُّهمت في عرضها، فصبرت حتى برَّأها الله في كتابه.
هل فقدتِ زوجك الحبيب؟ فهل سيكون أغلى من حبيب عائشة رضي الله عنها؟! لقد مات حبيبها وحبيبنا صلى الله عليه وسلم في حجرها وتحت مَرْأَى عينها.
وإنْ كنتِ فقدتِ أبًا حانيًا؛ فإن عائشة فقدتْ أباها الصِّدِّيق، أفضل رجل بعد الأنبياء والمرسلين.

نتمنى أيتها الفاضلة؛ أنْ نعيش في هذه الحياة بدون عناء، لكنها أقدار الله علينا، بل هي مِلْح الحياة، وبدونها قد تكون الحياة مملّة، وقد لا نشعر بنعمة الصحة إلا بعد المرض، ولا بمتعة الغنى إلا بعد الفقر، ولا بِلَذّة الطعام إلا بعد الجوع، ولا بحرارة الدفء إلا بعد البرد، ولا بمعنى الأمان إلا بعد الخوف.

وَلْتَعلمي أنَّ مِنْ نعمة الله علينا نحن المسلمين أنْ جعل الابتلاء فرصةً للرِّفعة والتكفير: «عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له». (رواه مسلم[2999]).

بل إنَّ الابتلاء سُنَّة ربانية ليعلم مَن يؤمن ومَن يكفر، قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2].

عن سعد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دِينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإنْ كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة». (رواه ابن حبان [2901]).

وهنيئًا لكِ أيتها المؤمنة؛ مشابهتك للأنبياء والصالحين، ولعل ابتلاءك يكون دليل محبة الله لك، وفي الحديث المروي: «إنَّ الله إذا أحب عبدًا ابتلاه» (رواه البيهقي في شعب اﻹيمان [9331]، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات [ 3/ 482]).

لماذا؟ لأن الابتلاء تكفير للسيئات ورفعة للدرجات.

تأمّلي في هذا الحديث المروي: «يود أهل العافية يوم القيامة أنَّ لحومهم قُرضت بالمقاريض؛ مما يرون من ثواب الله عز وجل لأهل البلاء». (ذكره المنذري في الترغيب [4/ 222]، قال اﻷلباني: إسناده لا يحتج به لكن لا يمنع ذلك من الاستشهاد به).

هذا لا يعني أختي الكريمة؛ أنْْ نتمنى البلاء، لكنه يجعلنا نتوقع البلاء، ويحثنا أنْ نثبت عند البلاء؛ ففي الحديث: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا». (رواه البخاري [3024]، ومسلم [1742]).

هي الحياة الدنيا أيتها الفاضلة؛ فلا تعبئي بها، ولا تُضيِّعي آخرتك لأجلها، ولا تَأْبَهي بأي قلقٍ أو ألمٍ أو حُزنٍ عليها، وقد عتب الله علينا بقوله سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُ‌ونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَ‌ةُ خَيْرٌ‌ وَأَبْقَىٰ} [الأعلى:16-17].

أختي العزيزة؛ قد تكون فتنة الضراء خطيرة على حياتك وإيمانك، لكن صدقيني إن فتنة السراء والغنى والصحة قد تكون أكثر خطرًا على حياة المؤمن، بل قد يبتلي الله الكافر بالنعمة حتى يتمادى في طغيانه، قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُ‌وا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِ‌حُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام:44].

لماذا؟ لأن النعمة والغنى قد تجر الإنسان إلى الكبر والغرور ورفض الحق، أما المرض والفقر فقد يجعلان الإنسان أكثر قربًا من الله، وكم هم الغافلون الذين تغيَّرت حياتهم، وأعلنوا توبتهم بسبب فَقْدِ قريبٍ، أو فراق حبيب، أو مرض يئس منه طبيب؛ {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَ‌اتِ ۗ وَبَشِّرِ‌ الصَّابِرِ‌ينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَ‌اجِعُونَ. أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّ‌بِّهِمْ وَرَ‌حْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْـمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157].

إنَّ الابتلاء أختي الكريمة؛ سلاح ذو حدين، فإنْ صبرتِ فأبشري بأجرٍ يغبطك عليه أهل الجنة، ولكن في المقابل عدم الصبر قد يقود الإنسان إلى السخط على أقدار الله واليأس والقنوط من رحمة الله، وقد قال إبراهيم عليه السلام: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر من اﻵية:56]، وقال يعقوب عليه السلام: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].

ومهما بلغتِ من البؤس واليأس أختي العزيزة؛ فاحمدي الله أنكِ لم تَصِلِي إلى مستوى حال الكفار، الذين يئسوا من الآخرة ومن الجنة، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13].

مسكينٌ ذلك الكافر الميت، الذي رأى الآخرة رأي العين، لكنَّ فرصتَه انتهت، وأيس من رحمة الله، الذي لا يغفر أنْ يُشرَك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

أنتِ أختي الكريمة مؤمنة، وبانتظارك حياة أبدية سرمدية، ولكن بشرط الصبر؛ {وَالَّذِينَ صَبَرُ‌وا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَ‌بِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَ‌زَقْنَاهُمْ سِرًّ‌ا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَ‌ءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ‌. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّ‌يَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ. سَلَامٌ عَلَيْكُم}، لكن لِـمَنْ هذا الأجر: {بِمَا صَبَرْ‌تُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‌} [الرعد:22-24].

أختي المؤمنة؛ الدنيا هي دار الامتحان، وصبرك عليها هو مفتاح نجاحك ودخول الجنة. وهروبك منها بالانتحار هو انسحاب من الاختبار، ومَن ينسحب مِن الامتحان مثل مَن يرسب في الامتحان، عن أبى هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن خنق نفسه في الدنيا، فقتلها؛ خنق نفسه في النار. ومَن طعن نفسه؛ طعنها في النار. ومَن اقتحم فقتل نفسه؛ اقتحم في النار». (رواه ابن حبان [5987]).

إذًا أختي الكريمة؛ ليس المشايخ والعلماء هم مَن حرَّم الانتحار، بل حرَّمه الله ورسوله، كما أنَّ معظم الأديان السماوية والقوانين الوضعية تكاد تُجْمِع على تجريم وتحريم الانتحار؛ لأنهم يؤمنون أنَّ جسدك ليس ملكًا لكِ. عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "إنَّ رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أصابته جراح فآلمت به، فدبَّ إلى قرن له في سيفه، فأخذ مشقصًا، فقتل نفسه، فلم يُصلِّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم". (رواه الطبراني في الكبير [1956]).

تأملي -يا رعاكِ الله!- رجلٌ من المسلمين وجاهد مع النبي، لكنَّ ذلك لم يشفع له، لماذا؟ لأنه لم يصبر على الآلام والجراح ربما بضع لحظات، فَحَرَمَ نفسه من أجرٍ عظيمٍ كاد يَجْنِيه لو مات شهيدًا.

عذرًا أختي الكريمة؛ قد أكون قاسيًا عليك، وأنا أجزم أنَّ لك قصة مؤلمة، لكنِّي أؤمن أيضًا أنها ليست القصة الوحيدة في عالم اليوم، اخرجي من محيطك الضيق، انظري إلى ملايين المصابين والمنكوبين في العالم، كم هم ضحايا الزلازل والبراكين والفيضانات؟! انظري إلى جراح إخوانك في ليبيا وأفغانستان وفلسطين وسوريا والعراق، مصائب وحروب وكوارث، خَلَّفت وراءها ملايين المكروبين، فكم بينهم من أمٍّ مكلومة وزوجة مهمومة وابنة يتيمة مغمومة؟! لكنهم استقبلوا ذلك برضى وصبر.

هل تخيَّلتِ حال أختكِ المسلمة هناك، والتي ربما هُتِكَ عِرْضها، وقُتِل طفلها في حجرها، وثَكَلت زوجها؟ ماذا تَراكِ لو كنتِ مكانها؟ ماذا كنت ستفعلين؟

هل سمعتِ بتلك المجاهدة الفلسطينية التي عاشت في سجن اليهود سنواتٍ طويلةً؟ فخرجت بعد ذلك بكل عزة وفخر، وحمد وشكر.

قومي بزيارة مستشفيات معالجة الإدمان في بلدك، ودور النقاهة، ودور الرعاية، ودور الإعاقة، ودور الأيتام، ستجدين حتمًا مَنْ هو أكثر معاناةً مني ومنك، لعلك تَتَلَقِّين منهم دروسًا في الصبر والرضى والإيمان.

اقرئي القرآن، غُوصي فيه بصدقٍ، لا تقرئيه لمجرد البركة والرقية فقط، اقرئيه هذه المرة بتأمل وتدبر، وأبحري في كلام الله وكأنه يخاطبك مباشرةً، رَتِّليه في ساعة النزول الإلهي، وستجدين فيه ما يغسل همَّ قلبك، ويشرح ضيق صدرك، ويُجَلِّي همَّك وكربك، وَثِقِي أنَّ زفراتك وآلامك ستخرج تباعًا مع كل حرفٍ تنطقينه، وستتنسمين عوضًا عنها هدوءًا وسكينة، تنشر الأمان في جَنَبات صدرك.

إنْ صدقتِ مع نفسك ومع ربك أيتها الفاضلة؛ فإني أجزم أنَّ بؤسك سينقلب إلى سعادة، وقد تشعرين أنَّ هذا القرآن وكأنما أُنْزِل إليك أنت بالخصوص، وَلْيَحُل مشاكلك أنت، وَلْيُجِيب عن أسئلتك أنت، رَتِّلِيه، تَغَنِّي به، وإنْ استطعتِ فاستودعيه صدرك، ليكون أنيسك وجليسك ورفيق دربك، واحمدي الله أنْ جعلكِ عربيةً تقرئين وتفهمين كلامه مباشرة بدون ترجمان، واعلمي: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9]، وتذكري قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء من اﻵية :82].

اقرئي قصص الصابرين وآيات الصابرين وعاقبة الصابرين؛ ستجدين فيها أُنسًا وتثبيتًا وسلوة، ألم يقل سبحانه: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود من اﻵية:120].

عيشي مع القرآن ومع أنبياء الرحمن بقلبك وعقلك وروحك؛ ستجدين صورًا عجيبة من الصبر على الابتلاء، والتي جَنَوْا ثمرتها في الدنيا والآخرة.

تأملي قصة أم موسى الشجاعة، اقرئي سيرة مريم الصابرة، وأيوب عندما أقعده المرض، ويونس وهو في بطن الحوت، ويوسف الذي عانى متنقلًا بين ألوان الظُّلْم والظُّلْمَة، من ظُلْم إخوته إلى ظُلْمَة الجُبّ، ومن ظُلْم النِّسوة إلى ظُلْمَة السجن، ويعقوب الذي ابيضت عيناه من الحزن، قِفِي عند قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف من اﻵية:86].

رَدِّدي هذه العبارة معه بإخلاصٍ لعل الله يزيل بها همَّك، ويُنَفِّس كربك، ويُعِيد الأمل إلى حياتك، كما أعاد النور إلى عَيْنَيْ يعقوب، وكما كافأ يوسف بالمُلْك، وردَّ موسى إلى أمه، وبرّأ مريم، وشفى أيوب، وأخرج يونس من بطن الحوت.

وسأُذكّركِ أيتها المباركة -إنْ أمدّ الله لنا في العمر- أنْ سيأتي اليوم الذي تتقلبين فيه في أثواب السعادة والنعيم، ساعتها ستحمدين الله أنَّك لا زلتِ على قيد الحياة، وقد قال ابن تيمية: "إنَّ في الدنيا لجنةً مَن لم يدخلها؛ لن يدخل جنة الآخرة"، أتدرين ما هي؟ إنها جنة الإيمان والطاعة.

يقول أبو سليمان الداراني: "والله لولا قيام الليل ما أحببتُ الدنيا، ووالله إنَّ أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل النهار في لهوهم، وإنه لَتَمُرّ بالقلب ساعات يرقص فيها طَرِبًا بذِكْرِ الله، فأقول: إنْ كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه من النعيم؛ إنهم لفي نعيم عظيم".

أنتِ لم تُخْلَقي بلا هدف، ولم تُوجَدي عبثًا، لقد خُلقتِ لعمارة الأرض بعبادة الله، ونشر رحمته؛ لذلك فإنَّ قَدْرَك عند الله عظيم، وفي الحديث المروي: «لَهَدْمُ الكعبة حجرًا حجرًا؛ أهون على الله مِن قتل المسلم». (ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة [401]).

فما أعظمه مِن ربٍّ يحب عبده المؤمن، وهو غني عنه!

وليس العجيب أنْ يحب العبدُ ربَّه، ولكنَّ العجيب أنْ يحب الربُّ عبدَه.

فهل عرفتِ قَدْرَكِ عند الله أختي المؤمنة.

فإنْ كنتِ تبحثين عن السعادة؛ فابحثي عنها في رضى ربك، ابحثي عنها في رضى والديك، جَرِّبي أنْ تطعمي فقيرًا، وأنْ تمسحي دمعة يتيم، وأنْ تعلمي جاهلًا، وأنْ تُواسي جريحًا، وأنْ تُرشدي كفيفًا. وستكتشفين أنَّ إسعاد الضعفاء مِن أسرع الطرق إلى إرضاء ربك وإسعاد قلبك.

أختي الكريمة؛ هذه نصيحة عامة، لكن لا يَعْني هذا أنْ نكون سلبيين أمام تلك المشكلات، بل لابد مِن اتخاذ خطوات عملية لإيقاف مصدرها، واستعيني بأهل الخبرة من أقارب وأصدقاء لحلّها أو على الأقل للتخفيف من أثرها.

اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق؛ أحْيِنا ما علمتَ الحياة خيرًا لنا، وتَوَفَّنا إذا علمتَ الوفاة خيرًا لنا.

 

أمين بخيت الزهراني

  • 7
  • 1
  • 11,193

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً