من وحي النظرة - (05) كم أحتاجك يا ولدي

منذ 2014-04-16

لم أكن يومًا يا ولدي! مُجِيدًا للغة العيون، ولا مُتلقيًا لوحي النظرات.. ما كنت أعرف لغة إلا مشافهة بلسانٍ أو قراءةٍ لمكتوب، أما ترجمة النظرات وحديث العبرات فأنت من علمنيه.. لا أُنكِر أن أول كلمة قرأتها في عين، كانت كلمة الحب في عين أمك، يوم تحجَّر لسانها حياءً لما ساررتُها بها خلسة عن المهنئين يوم عقد زواجنا!

كانت فرحتي يومها مضاعفة.. أن منَّ الله عليَّ بقلبٍ يحبني كما أحبه، ثم أني استطعت قراءة لغة ما عرفتها إلا في كتابات شيخنا الرافعي رحمه الله.. لم أدرِ يومها يا ولدي أني سأتقن هذه اللغة على يديك، أتقنتها في أصدق معانيها وأوضح تعابيرها.. صرختك الأولى التي استقبلت بها الدنيا، كانت مُفجِّرة لشيء بداخلي لا أدري حتى الآن ما هو؟!

إنه يا ولدي! أكبر من مجرد شعور بالأُبوة، وأعمق من مجرد نشوة فرح.. أحسست بثورة في كياني تُسقِط نظامًا تعودته في الحياة، وأقامت حُكمًا جديدًا مسيِّطرًا على نظرتي لأدق التفاصيل..

أتدري يا ولدي..! كم كنت أحتاجك؟! لمَّا التقت عيوننا أول مرة، لمحت في عينيك بقايا مشاهد من عالم الملائكة؛ فقد كنتَ حديث عهد بربك كما الغيث الطاهر..

لمحت يا ولدي! نورًا أراني النور، غرست مع أول لمسة بداخلي بذرة رحمة، لا زلت ترويها أنت مع الأيام.. قالوا لي فرحين: "يتربَّى في عِزَّك"، وما دروا أنك من تُربيني يا ولدي!

لحظات خارج نطاق الزمن تلك التي تطوق فيها ذراعاك الصغيرتان رقبتي، ثم تجذباني نحوك كأنما تريد أن تُسِرَ إليَّ بأمر.. شعور لا يحد بوصف لما تعبث كفك الرقيقة بلحيتي ثم تقبض عليها كأنما تُسدِي إليَّ نصيحة، يفهمها كلانا فقط..!

أبهى منظر أراه في حياتي.. ساعة تلتفت في شوق عندما تسمع صوتي بالتسليم ثم تهديني ابتسامة يكاد قلبي يقف من روعتها! أعذب صوت في أذني، صوت مناغاتك وأنت تلهو بلعبك التي بالكاد تحملها يدك الضعيفة.. وإن سقطت تصرخ فيها كأنما تتوعدها بعقابٍ أليم، الذي لا يجاوز أن يكون عضة من لثتك الحانية بلا أسنان!

يقولون في المثل "اللي ماربهوش أبوه وأمه، تُربِّيه الأيام".. قلت أنا "اللي ماربهوش أبوه وأمه، تُربِّيه فطرة صغاره!".

يا معشر الآباء والأمهات! تعلَّموا من فطرة أولادكم النقية، قبل أن يتلوَّثوا بآفات دنياكم، حفظ الله ذرارينا من آفات دنيانا..

تُسيِّطر عليَّ اللحظة يا ولدي! صورة ذلك الرجل؛ الذي وقف ودموعه تقطر من لحيته مبلِّلة إحرامه الأبيض كوجهه، مقاطِعًا موعظتي لوفد الرحمن يوم عرفة، وهو يقول بصوت يخلع القلب: "أسألك بالله يا شيخ تدعي الله يرضيني بالذرية.. لي خمس عشرة سنة منتظر.. منتظر.." ثم انقطع صوته وسط بكائه، وبكاء الحجاج من حوله.. رفعت يديَّ باكيًا ودعوتُ الله بأن يرزقه ذرية تُقرُّ بها عينه، هو وسائر من حُرِمَ الذرية من المسلمين.. وارتج المخيم كله بالتأمين، حتى ظننتُ أشجار عرفات وأحجار الوادي تدعو معنا، وإني لأطمع في الكريم الذي تجلَّى على ضيوفه يومها، بأن الرجل الآن ينعم بذريته..

بكيتُ يومها يا ولدي! شفقة على الرجل، وتأثُّرًا ببكائه، وبهيبة الموقف لمَّا ارتفعت هذه الأيادي المتجرِّدة من كل مظاهر الدنيا وزيفها في لحظة صِدقٍ قد لا تتكرَّر في غير هذا المكان.. أما الآن فكلما ذكرتُ هذا الرجل.......!

سامحني يا ولدي! بلَّلتك دموعي..

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

محمد عطية

كاتب مصري

  • 0
  • 0
  • 3,412
المقال السابق
(04) زماننا وزمانكم
المقال التالي
(06) الفطرة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً