تحريم نكاح المشركات
سنقف مع آية من كتاب ربنا نتأمل معانيها، ونهتدي بما فيها، يقول الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فسنقف مع آية من كتاب ربنا نتأمل معانيها، ونهتدي بما فيها، يقول الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221].
شرح الآية:
في هذه الآية: "تحريم من الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان"(1). والمشركات يشملن كل كافرة لا دين لها، وكل مرتدة عن دين الإسلام فإنه لا يجوز الزواج بها. فقد سئل أحمد بن حنبل عن قول الله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قال: "مشركات العرب الذين يعبدون الأوثان". ففي هذه الآية أمر لنا بأن لا نتزوج المشركات، ومن لا دين لها.
أما من كنَّ من أهل الكتاب فإنه يجوز للمسلم أن يتزوج بهن ما دمن محصنات عفيفات؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة:5]. يقول ابن عباس في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب.
وقد حكى أبو جعفر بن جرير رحمه الله الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات، أي تزويج المسلم بالكتابية.
وقد يشكل على هذا أمر عمر لحذيفة بتطليقه لليهودية التي تزوجها، فيجيب عن ذلك ابن كثير فيقول: "وإنما كره عمر ذلك، لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني؛ كما في الأثر عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: خَل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخَلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن". قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح". وعن زيد بن وهب قال: قال لي عمر بن الخطاب: "المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة". قال ابن كثير: "وهذا أصح إسنادًا من الأول"(2).
وقد روي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ». قال ابن جرير: "وهذا الخبر-وإن كان في إسناده ما فيه- فالقول به؛ لإجماع الجميع من الأمة على صحة القول به"(3). وسواء صح هذا الحديث أو لم يصح فإن الإجماع قد انقعد على عدم جواز زواج المسلمة بالمشرك؛ كما يقول البغوي رحمه الله: "هذا إجماع لا يجوز للمسلمة أن تنكح المشرك"(4). فأين دعاة حوار الحضارات، ومن يحاولون تمييع الدين بإصدار تلك الفتاوى الضالة المضلة التي تجيز للمسلمة أن تتزوج بالمشرك، أين هم من هذا الإجماع الذي نص عليه العلماء؟!!.
ثم بين الله سبحانه أن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة، ولو بلغت من الحسن ما بلغت؛ فقال: {وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}؛ قال السدي: "نزلت في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء، فغضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره خبرها. فقال له: « » قال: تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوءَ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: « ». فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقَنَّها ولأتزوجَنها، ففعل. فطعن عليه ناس من المسلمين، وقالوا: نكح أمَة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله: {وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}.
وروي عن عبد الله بن عَمْرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « »(5).
وهناك من الأحاديث ما يشهد له، بل ويغني عنه ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « ». وفي رواية لمسلم عن ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « ».
وهنا سؤال يطرح نفسه: كيف جاءت الآية بلفظ: {خير من مشركة} مع أن المشركة لا خير فيها؟ فيجاب عن ذلك بأحد وجهين:
الأول: أنه قد يرد اسم التفضيل بين شيئين، ويراد به التفضيل المطلق -وإن لم يكن في جانب المفضل عليه شيء منه-؛ كما قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24].
الثاني: أن المشركة قد يكون فيها خير حسي من جمال، ونحوه؛ ولذلك قال تعالى: {ولو أعجبتكم}؛ فبين سبحانه وتعالى أن ما قد يعتقده ناكح المشركة من خير فيها فإن نكاح المؤمنة خير منه(6).
ثم بين الله بعد ذلك أن لا يجوز لنا أن نزوج المشركين عمومًا بمسلمة، فقال تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} قال ابن كثير: "أي لا تُزَوّجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات؛ كما قال تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]. ففيها النهي لنا بأن لا نزوج المشركين بالمؤمنات المسلمات، وقد سبق ذكر الإجماع على ذلك..
ثم بين أنه وإن كان هذا المشرك من أرقى الناس نسبًا، وأرفعهم وجاهة، وأغناهم مالاً، وأحسنهم صورة وهيئة ومنظرًا وجمالاً، فإنه لا يجوز أن يزوجوا بمسلمة؛ فقال تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي ولرجل مؤمن -ولو كان عبدًا حبشيًا- خير من مشرك، وإن كان رئيسًا سَرِيًا؛ لأن {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي معاشَرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمة: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه(7).
قال العلامة ابن عثيمين: عند شرحه لقوله: {أولئك يدعون إلى النار} "والمشار إليه فيها أهل الشرك -أي يدعون الناس إلى النار بأقوالهم، وأفعالهم، وأموالهم-؛ حتى إنهم يبنون المدارس، والمستشفيات، ويلاطفون الناس في معاملتهم خداعًا، ومكرًا؛ ولكن قد بين الله نتيجة عملهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. وقوله: {والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} أي يدعو الناس إلى الجنة بالحث على الأعمال الصالحات؛ ومغفرة الذنوب بالحث على التوبة، والاستغفار"(8).
وقوله: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ} أي أحكامه وحِكمها: {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه، وعلم ما جهلوه، والامتثال لما ضيعوه(9).
بعض فوائد الآية:
1. أنه يحرم على المؤمن نكاح المشركات؛ لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}؛ ويستثنى من ذلك أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لقوله تعالى: {...وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة:5]. ولكن مع كون ذلك مباحًا فإن الأولى أن لا يتزوج منهن؛ لأنها قد تؤثر على أولاده؛ وربما تؤثر عليه هو أيضًا: إذا أعجب بها لجمالها، أو ذكائها، أو علمها، أو خلقها، وسلبت عقله فربما تجره إلى أن يكفر.
2. أنَّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا؛ لقوله: {حتى يؤمن}؛ فدل ذلك على أنه متى زال الشرك حل النكاح؛ ومتى وجد الشرك حرم النكاح.
3. أن المؤمن خير من المشرك؛ ولو كان في المشرك من الأوصاف ما يعجب؛ لقوله: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم}؛ ومثله قوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة:100]؛ فلا تغتر بالكثرة؛ ولا تغتر بالمهارة؛ ولا بالجودة؛ ولا بالفصاحة؛ ولا بغير ذلك؛ وإنما عليك أن ترجع إلى الأوصاف الشرعية المقصودة شرعًا.
4. في هذه الآية: الرد على الذين قالوا: "إن دين الإسلام دين مساواة"؛ لأن التفضيل ينافي المساواة؛ والعجيب أنه لم يأت في الكتاب، ولا في السنة لفظة (المساواة) مثبتًا؛ ولا أن الله أمر بها؛ ولا رغب فيها؛ لأنك إذا قلت بالمساواة استوى الفاسق والعدل؛ والكافر والمؤمن؛ والذكر والأنثى؛ وهذا هو الذي يريده أعداء الإسلام من المسلمين؛ لكن جاء دين الإسلام بكلمة هي خير من كلمة (المساواة)؛ وليس فيها احتمال أبدًا، وهي (العدل)؛ كما قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90]؛ وكلمة (العدل) تعني أن يسوى بين المتماثلين، ويفرق بين المفترقين؛ لأن (العدل) إعطاء كل شيء ما يستحقه. والحاصل: أن كلمة (المساواة) أدخلها أعداء الإسلام على المسلمين؛ وأكثر المسلمين -ولاسيما ذوو الثقافة العامة- ليس عندهم تحقيق، ولا تدقيق في الأمور، ولا تمييز بين العبارات؛ ولهذا تجد الواحد يظن هذه الكلمة كلمة نور تحمل على الرؤوس: "الإسلام دين مساواة"! ونقول: لو قلتم: "الإسلام دين العدل" لكان أولى، وأشد مطابقة لواقع الإسلام(10).
5. النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع؛ لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى، وخصوصًا الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم، كالخدمة ونحوه(11). والله المستعان.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________________
(1) تفسير القرآن العظيم: (1/347).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: (2/388). ولكننا وجدنا أن محقق جامع البيان "أحمد شاكر"، يقول: "وتعقيب ابن جرير بأنه "وإن كان في إسناده ما فيه" لعله يشير -رحمه الله- إلى القول بأن الحسن البصري لم يسمع من جابر.. وأنا أرى أن رواية هشام بن حسان كافية في إثبات سماع الحسن من جابر. فقد قال ابن عيينة: "كان هشام أعلم الناس بحديث الحسن". ومعنى هذا الحديث ثابت عن جابر، موقوفا عليه من كلامه... والموقوف -عندنا- لا يعلل به المرفوع، بل هو يؤيده ويثبته؛ كما بينا ذلك في غير موضع من كتبنا" راجع: حاشية تفسير ابن جرير: (4/367).
(4) معالم التنزيل: (1/255).
(5) رواه ابن ماجه، و ضعفه الألباني في الضعيفة: (1060) وفي ضعيف الجامع: (6216).
(6) راجع: تفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.
(7) راجع: تفسير القرآن العظيم: (1/347).
(8) انظر: تفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.
(9) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (99) تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق. الناشر: مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى: (1420هـ-2000مـ).
(10) راجع: تفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.
(11) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (99).
- التصنيف: