كن صحابيًا - (7) الصحابة والدنيا

منذ 2014-05-05

الدنيا في حقيقتها لا تساوي عند الله عز وجل شيئًا، ومن ثم فهي لا تساوي عند المؤمنين بالله شيئًا... كيف فَقِهَ الصحابة هذا الفقه المستنير لحقيقة الدنيا؟... كيف حققوا المعادلة الصعبة، بل المستحيلة في أعين الكثيرين؟

نظرة الصحابة إلى الدنيا كانت نظرة عجيبة جدا، نظرة متوازنة بشكل لافت للنظر، فهم من جانب لا يعطوا لها قيمة في حياتهم، يتنازلون عنها بسهولة، وببساطة شديدة، وكأنها لا تساوي درهما، ومع ذلك فهم من جانب آخر يعملون فيها بجد واجتهاد؛ يزرعون، يتاجرون، يتكسبون المال، يعمرون الأرض، ومنهم الأغنياء الذين لا تحصى أموالهم، والملاك الذين تجاوزت أراضيهم مئات الأفدنة.

الدنيا في أعين الصحابة لم تكن غاية، ولم تكن هدفًا، بل كانت وسيلة إلى إرضاء الله عز وجل، كانت الدنيا بحق معبرًا إلى الآخرة، ومن ثَم كانت وسيلة إلى تنفيذ كل ما أمر الله عز وجل  به، الله عز وجل أمر بإعمار الدنيا، فليكن الإعمار... الله عز وجل أمر بكفالة الأسرة، والزوجة، والأولاد، والآباء، والأمهات، فليكن العمل في الدنيا لتحصيل المال لكفاية هؤلاء.. الله عز وجل حضَّ على الجهاد بالمال، فلا بد من وجود المال حتى يجاهد به... الله عز وجل حضَّ على الوقوف في وجه الكافرين، فلا بد من العمل في الدنيا لإعداد العُدَّة لمواجهة الكافرين,؛ فأنا أعمل في الدنيا لأرضي الله عز وجل، أكسب الأموال لإرضاء الله عز وجل، أتزوج لأرضي الله عز وجل، أنجب مرضاة لله عز وجل، أعمل كل شيء في الدنيا؛ لكي أرضي الله عز وجل... وبذلك قد أصبح من أغنى الأغنياء وأنا أرضي الله عز وجل، لكن في نفس الوقت لا يوجد مانع أن أترك الدنيا كلها، وأصبح أفقر مَنْ فيها؛ لكي أرضي ربنا عز وجل، علاقة تفاعلية رائعة، فقهها الصحابة رضي الله عنهم، معادلة صعبة جدًّا، لكن حققوها ببساطة شديدة جدًا لما ساروا على نهج الله عز وجل.

حقيقة حجم الدنيا

الدنيا في حقيقتها لا تساوي عند الله عز وجل شيئًا، ومن ثم فهي لا تساوي عند المؤمنين بالله شيئًا، لا يجوز التسارع من أجلها، لا يجوز التشاحن والبغضاء من أجل جزء منها، ولو كان عظيمًا في أعين الناس، وفي ذات الوقت لا يجوز اعتزالها وتركها وإهمالها، لا يجوز التأخر فيها، لا يجوز تركها غنيمة في أيدي أعداء الدين.

ولكن كيف فَقِهَ الصحابة هذا الفقه المستنير لحقيقة الدنيا؟

كيف حققوا المعادلة الصعبة، بل المستحيلة في أعين الكثيرين؟

أحيانًا تجد من يقول: إما دنيا وإما آخرة، لن ينفع أن تعمل للدنيا وتعمل للآخرة في نفس الوقت، وكيف تصبح من طلاَّب الآخرة، وأنت تعمل في الدنيا، وتكافح، وتتزوج، وتكسب، وتفرح، وتضحك.

كيف وصل هذا الفهم لدى الصحابة؟

وصل إليهم هذا الفتح العميق، والفهم الدقيق عن طريق معلمنا صلى الله عليه وسلم، ومعلم البشرية أجمعين، وصل إليهم عن طريق كلماته، وأفعاله صلى الله عليه وسلم، عن طريق ما نقله عن رب العزة من آيات معجزات في القرآن الكريم.

كانت حياته صلى الله عليه وسلم تطبيقًا حيًّا دقيقًا لكل كلمة قالها صلى الله عليه وسلم.

كيف رأى الصحابة الدنيا بعين الرسول صلى الله عليه وسلم؟

وكم بلغ حجم الدنيا الحقيقي عندهم؟

روى مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ».

الرسول لا يحتاج لأن يقسم، وهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، لكن قد تكون الحقيقة أحيانًا مستغربة لدى كثير من الناس؛ فالرسول يقسم ليصدق الناس أكثر وأكثر، ويقول: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلَ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعُهُ هَذَا» -وأشار يحيى بن سعيد أحد رواة الحديث أشار إلى السبابة- «فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا تَرْجِعُ».

تخيل نفسك، وأنت تغمس إصبعك في البحر، بماذا خرج؟

قطرات، لم يقل صلى الله عليه وسلم حتى تنزل كفك في اليم وتغرف به، هو إصبع واحد فقط تغمسه في اليم، وانظر بما يخرج، وما خرج به هو حجم الدنيا بالنسبة للآخرة.

الدنيا، كل الدنيا، الدنيا بأموالها، وأملاكها، وأرضها، ومتعتها، وزهرتها، كل الدنيا، ما هي إلا قطرات في الآخرة، الدنيا بكل ما فيها من جنيهات، بل قُلْ دولارات، بكل ما فيها من دولارات، واليورو، والريال، والدينار الكويتي، كل ما يحبه، ويهواه قلبك، كل هذه الدنيا لا تساوي إلا قطرات قليلة بالنسبة لليم، إذا قورنت بالآخرة، هذه حقيقة حجم الدنيا.

هل فهمنا الدنيا بحجمها الحقيقي أم أعطينها حجمًا أكبر من حجمها الطبيعي؟

روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَا لِي، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (قَالَ يقِيلُ قيلًا وقيلولةً: نام نصف النهار).

حياتك على الأرض مثل فترة القيلولة التي قضيتها تحت ظل شجرة، في صحراء واسعة جدًّا مررت عليها في يوم من أيام حياتك، واليوم مضى وانتهى من زمان.

قارن عمرك في الأرض بالفترة التي ستعيشها في القبر بعد ذلك، وقارن كل ذلك بالخلود في الآخرة، يوجد أناس في القبر منذ ألف سنة، وأناس منذ ألفين، وأناس منذ خمسة آلاف سنة، ومن يعلم ماذا بقي في عمر الدنيا، وأنت مهما عشت، فكم ستعيش.. ستين، أو سبعين سنة، أو مائة سنة؟ ثم ماذا بعد؟ راح وتركها، وماذا يكون الوضع عند البعث في يوم القيامة؟

سيكون الوضع لا موت مرة ثانية، بل خلود وحياة إلى ما لا نهاية، إما جنة أو نار إلى ما لا نهاية، فكم يساوي شيء تقارنه بما لا نهاية؟

يقول علماء الرياضيات: إن الشيء الذي تقارنه بما لا نهاية يساوي صفرًا، فحينما تُحسب حياتك على وجه الأرض مثل من استراح في وقت القيلولة فقط، تحت ظل شجرة في يوم من الأيام، فهذه مبالغة، حياتك أقل من ذلك، فالفترة تساوي صفرًا؛ لأنها تقاس إلى ما لا نهاية بيوم القيامة.

روى مسلم عن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بالسوق -دخل السوق حيث كان قادمًا من منطقة اسمها العالية داخل المدينة وداخل سوق المدينة- مر بالسوق والناسُ كَنَفَتَهُ (أي: أحاط به الناس من جانبه)، ومن هم الناس؟

هم الصحابة، هم الجيل الذي تربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي نريد أن نقلده، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم درسًا عمليًّا.

فمرَّ صلى الله عليه وسلم بِجَدْىٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ.

جدي أسكَّ أي صغيرة أذنه، والجدي صغير الأذن جديّ معيوب، الناس كانت تعتبره جديًا معيوبًا، لا تشتريه حتى لو كان حيًّا.

فتناوله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأذنه.

أي أمسكه من مكان عيبه، ليقول للصحابة أنه يعرف أنه جدي معيوب.

ثم قال: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟»

من يشترى هذا الجدي المعيوب الميت بدرهم؟

فقال الصحابة: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟

ولو أخذناه ماذا نفعل به؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ؟».

قالوا: والله لو كان حيًّا لكان عيبًا.

إنه أسكَّ، فكيف وهو ميت؟!

يظنون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف عيبه، فهم يوضحون له الرؤية، والرسول يعرف أن الجدي أسك، وهو يمسك أذنه، ويعرف أنه ميت وواضح لهم هذا الأمر فقال صلى الله عليه وسلم ليوضح لهم قيمة الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله عز وجل مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ».

يا سبحان الله! الدنيا! كل الدنيا أهون على الله من الجدي المعيوب الميت، سبحان الله! فلماذا التصارع على الدنيا؟!

ويخسر بعضنا بعضًا من أجلها، لماذا الظلم؟

لماذا يظل أناس طوال عمرها كله تكافح، وتظلم، وتغش، وتعصي، لتكسب كرسي في الدنيا، أو شقة في الدنيا، أو وزارة في الدنيا، أو ملك في الدنيا؟ مع أن الدنيا -كل الدنيا- أرخص من جدي أسك ميت لا يساوي درهمًا، ولا حتى أقل من درهم.

إن هذا المثل الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لنعرف حقيقة الدنيا. لماذا كل هذا الصراع على الدنيا؟

لأن الناس حتى الآن لم تفقه حقيقة وقيمة الدنيا، انشغلت بالمظهر عن المخبر، لا تعرف الحقيقة، ما قارنت يومًا بين الدنيا وبين الآخرة، ولتسمها جهلًا، أو حماقة، أو غفلة، المهم أن الناس لا تستطيع معرفة القيمة الحقيقة للدنيا، ولو عرفتها ما أصبح هذا حالها أبدًا.

روى الترمذي، وقال: حسن صحيح. عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ».

جناح بعوضة! ليست بعوضة كاملة، الدنيا لا تعدل جناح بعوضة، لو كانت الدنيا كذلك، ما سقى الكافر منها شربة ماء، لكننا نرى الكفار يشربون الماء في الأرض؛ لأن معنى ذلك أن الدنيا لا تساوي جناح بعوضة، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء، الدنيا أقل من جناح بعوضة.. فأهل الأرض كلهم يتقاتلون ويتصارعون من أجل جزءٍ من جناح بعوضة، لماذا ينشغل الناس في الدنيا؟

وأين عملهم للآخرة؟

وإن وجد عمل للآخرة، فإنه قليل جدًّا بالنسبة إلى ما يفعلونه للدنيا، قد نسهر للعمل، أو للفسحة، أو للتليفزيون، ولم نفكر أن نسهر لقيام الليل، ننزل للعمل، وللنادي، وللشاطئ، وللزيارات الشخصية، وبعد كل هذا لا ننزل للجامع، ونحتج بأن لا وقت لدينا للصلاة في جماعة، نصرف في الأكل، واللبس، والمصيف، والسيارة، والشاليه، ولا نصرف لفلسطين، ولكشمير، وللشيشان؛ لأننا لم نفهم حقيقة وحجم الدنيا، اسمها دُنْيَا، ليست عُلْيَا.

هذه هي الدنيا كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما علمها لصحابته رضي الله عنهم أجمعين، يقول الله عز وجل  في كتابه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس من الآية:24].

وصلت إلى أعلى قمة من القمم، وصلت لأكثر درجة من الرقي...

{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس من الآية:24].

كل شيء ميسر، كل شيء بالريموت كنترول، كل شيء بالليزر، كل شيء عن طريق الأقمار الصناعية، ظنوا أنهم قادرون على الأرض، وسيطروا عليها..

{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس من الآية:24].

هي لحظة، لا يوم، أو يومين، أو ثلاثة لتهلك الأرض

{فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس من الآية:24].

انتهت الدنيا، كل الدنيا التي نعيش فيها من أولها لآخرها في عمر الزمان، وفي عمر المكان

{كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس من الآية:24].

لا بد أن نتفكر، فكل هذه الأمثلة لنتفكر، ولا بد أن يكون وراء التفكر عمل، إذا لم يكن بعد التفكر عمل، فليس هناك فائدة في كل ما ذكرناه من آيات وأحاديث.

الدنيا في عين الرسول:

الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم التحذير من أمر الدنيا، وفي الأمثلة السابقة وضح لهم الحجم الحقيقي للدنيا، كان المفروض بعد أن عرف الناس حجم الدنيا، ألا يقعوا فيها، أيعقل بعد ذلك أن يقضى بعضنا وقته من أجل قطرة، ويترك اليم، أمن المعقول أن يُصرف الوقت للاستراحة في ظل شجرة واحدة فقط، ولوقت محدود، ويترك كل الحديقة الواسعة التي من حوله.

مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح لهم الحقيقة مرة، واثنين، وثلاثة، وأربعة في أحاديث كثيرة جدًّا، ثم يرجع يحذرهم مرة، واثنين، وثلاثة، وأربعة، وعشرة من أمر الدنيا، يخاف عليهم من الدنيا، قصة رواها الإمام البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري  يقول:

بعث رسول الله عز وجل  أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين؛ ليأتي بالجزية، والبحرين هي شرق الجزيرة، وليست البحرين هي مملكة البحرين الآن، هي المنطقة التي كانت في شرق الجزيرة العربية، كان يعيش فيها مجوس، وكانوا يدفعون الجزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أبو عبيدة بن الجراح  ذهب إلى هناك، وأتى بالجزية، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع الأنصار بقدوم أبو عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم.

المدينة المنورة لها ضواحٍ كثيرة، وكل ضاحية فيها مسجد يصلي فيه الناس لبعدهم عن المدينة المنورة، وعن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في وسط المدينة المنورة، فهم لا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات العادية، كالصبح، والعشاء، كانوا يصلوها في المساجد التي بجوارهم، لكنهم يحضرون في الأمور الجامعة، يأتون في صلاة الجمعة، في صلاة العيد، للاستنفار، لأمر ما، فسمعوا بقدوم أبي عبيدة، فوافت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حضروا في صلاة الصبح في مسجد رسول الله، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له، والرسول صلى الله عليه وسلم خارج من صلاة الصبح، رأى أناسًا من ضواحي المدينة ممن لم يتعودوا أن يصلوا الصبح مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ما أقدم هؤلاء؛ لأنهم سمعوا أن هناك أموالًا كثيرة جاءت من البحرين للمدينة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآهم، وقال: «أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ».

قالوا: أجل يا رسول الله.

فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في رأفة ورحمة: «فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ».

لكن في نفس الوقت أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم درسًا تربويًا في غاية الأهمية، يستغل الفرصة صلى الله عليه وسلم ، الأول ابتسم لهم، وقال لهم: «أبشروا وأمِّلوا»، ثم أعطاهم الدرس، فقال صلى الله عليه وسلم: «فَوَاللَّهِ».

ويقسم أيضًا، ومعظم تحدثه عن الدنيا، ومعظم التحذير من الدنيا الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم فيه؛ لأنه يعرف أن الناس كلها تريد الدنيا، فيقسم لهم أن الدنيا لا تساوي شيئًا، يقول لهم: «فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا».

ما أخاف منه عليكم الدنيا، لو ظللتم فقراء لن أخاف عليكم، لكن أخاف عليكم من الأموال، أخاف عليكم من الدنيا، الفقراء يعيشون في راحة وسعادة، لا يخشون شيئًا، لكن الأغنياء يعيشون في تعب وكمد، كم وصل الدولار اليوم؟ وما للناس يطمعون فيَّ وفي أموالي؟ وفلان يريد أن يكون أحسن مني، وفلان كثرت أمواله عن أموالي، فكيف أنافسه؟ وكيف أسيطر وأتملك؟ فالغنيُّ ومن ملك الدنيا قلبه حيران، إن نام لا يعرف للنوم لذة ولا طعمًا، وإن مشى في الطريق، يمشي خائفًا متوجسًا، أما الفقير فينام، ولو في الشارع، وهو في منتهى الأمان، أما صاحب المال، أو السلطان من حوله حرّاس، وجنود، وكتائب، ومع ذلك إن نام، فخائف يلتفت يمينًا وشمالًا، يحذر أن يدبر له أحد من الناس شيئًا، ليست هذه السعادة، ولكن السعادة أن تعيش معافى البدن، آمنًا في سربك، عندك قوت يومك، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكما جاء في الأدب المفرد عن سلمة بن عبيد الله عز وجل بن محصن الأنصاري عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».

فكيف يصبح الإنسان سعيدًا وهو حيران كل هذه الحيرة، وقَلِق كل هذا القلق.

«فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَي عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَي عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».

لهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف على أمته من الدنيا، ولم يحذرهم منها مرة، أو اثنتين، أو ثلاثة، بل كان دائم التحذير لأمته من الدنيا.

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري  قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا».

لا يخاف عليهم من فارس، ولا من الروم، ولا من المشركين، ولا يخاف عليهم من اليهود، كل هؤلاء تقدرون عليهم، الخوف من الدنيا، ولو تأملت في حياتك لوجدت أمثلة كثيرة جدًا، فكم من رجل كان فقيرًا، وكان طائعًا لله، ولما أغناه الله بَعُد عن طاعة الله، ونرى هذا الموقف وغيره يتكرر في حياتنا كثيرًا، فكم من أناس دعوا الله أن يرزقهم مالًا، أو يعطيهم أي شيء من الدنيا، فلما أعطاهم ما تمنوا، وبسطت عليهم الدنيا، جعلوا الدنيا شريكة مع الله عز وجل  في قلوبهم.

روى مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا الحديث يوضح الرسول  معنى الدنيا بعمق شديد، وهو من جوامع الكلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يلخص لك قصة الدنيا في حديث واحد، وفي سطر واحد، يقول: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ».

لكن هل يوجد نبات مهما بلغ جماله يعيش للأبد؟

مستحيل، كل نبات مصيره إلى الفناء، مصيره إلى أن ييبس، وهكذا الدنيا حلوة خضرة، وستنتهي، يقول: «وَإِنَّ الله مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونُ».

الله عز وجل قد استخلفنا في هذه الدنيا، وهو مراقب لنا في كل خطوة، وما الدنيا إلا اختبار، وابتلاء، وامتحان، وهذا هو الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أبدا، نحن في اختبار دائم، نحن في اختبار مستمر، الدنيا عبارة عن استخلاف للابتلاء، للاختبار، فينظر كيف تعملون، كل حركة لك في الدنيا، الله مطلع عليها، وقد مهد الله عز وجل لك طريقين؛ طريقًا للخير، وطريقًا للشر، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]. فإذا سلكت طريق الخير كتبت لك حسنة، وإذا سرت في طريق الشر كتبت عليك سيئة، فكل خطوات حياتك في الدنيا اختبار؛ لذا يقول صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث القليل في كلماته، العميق جدًّا في معانيه، يقول: « فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ».

بنو إسرائيل أول ما فتنوا، فتنوا بالنساء، لكن قد يفتن في أول أمره بالمال، أو بالمنصب، أو بالسلطة، أو بالصحة، أو بالقوة، ثم تقع عليه الفتن تترى بعد ذلك، نسأل الله السلامة! يبقى الحديث مع قلة كلماته، لكنه عميق جدًّا في معناه، وما يوضحه أن الدنيا شكلها جميل، وباهر، لكن إلى زوال، والله خلقها جميلة المظهر من خارجها؛ لتصبح اختبارًا حقيقيًّا للناس؛ فاحذر لا تنشغل بجمال الدنيا عن امتحانها، الغاية أن تدخل الامتحان، وليست الغاية أن تنبهر بالجمال في الدنيا، وما رأيكم في طالب دخل الامتحان، ووزعت عليه ورقة الامتحان، فظل مبهورًا بحلاوة شكل الورقة، وطريقة طباعتها، ونوع المادة المصنوعة منها، ولون الطباعة، والتخطيط في الورقة، وظل منبهرًا في شكل الورقة ساعة، واثنين، وثلاثة، وانتهى الوقت، ولا يوجد وقت إضافي، لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، ما رأيكم في هذا الطالب؟

ولا تستغربوا من الطالب، فكثيرٌ منا هذا الطالب، كثير منا ينبهر بشكل الورقة، وينسى الامتحان، كثير منا ينبهر بشكل الدنيا، وينسى الامتحان، ويأتي وقت ينتهي فيه الامتحان، ولن تستطيع الرجوع، ولن تحصل على وقت إضافي، والدنيا ستنتهي سواءٌ كانت بنهايتك أنت شخصيًّا، أو بنهاية الأرض كلها، ولن يخلد فيها أحد، الله عز وجل يقول مخاطبًا للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر:30].

ويقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].

كل هذه حقائق لا بد أن نعيها جيدًا، والرسول اجتهد مرة، واثنتين، وثلاثة، وعشرة، وعشرين، أن يعلمها للصحابة، لنتعلمها نحن بعد ذلك، فإياك أن تغفل عن هذه الحقائق.

روى البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة، فاستقبلنا أُحُدًا، فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ». قلت: لبيك يا رسول الله. قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَيُّ جَبَلٍ هَذَا؟». قلت: أُحُد.

الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن أبا ذر يعرف جبل أحد، فلمَ السؤال؟ لكلام يأتي بعد ذلك عن جبل أحد، ليس على سبيل المجاز، بل أنا أقصد فعلًا جبل أحد، يقول صلى الله عليه وسلم: « مَا يَسُرُّنِي أَنْ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا، تَمْضَي عَلَيَّ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلاَّ شَيْئًا أَرْصُدُه لِدَيْنٍ إِلاَّ أَنْ أَقُولَ فِيهِ فِي عِبَادِ الله عز وجل هَكَذَا وَهَكَذَا». عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه.

امتلاك جبل من الذهب ليس من أسباب السعادة، والسرور، أنا لا أحتاجه إلا في حالتين:

الحالة الأولى: «إلا شيئًا أرصده لدين».

الحالة الثانية: «إلا أن أقول فيه في عباد الله عز وجل هكذا وهكذا» عن يمينه وعن شماله ومن خلفه.

يوزع من الجبل على كل الناس، عن اليمين، وعن الشمال، ومن وراء ظهره ولم يذكر أمامه؛ لأن الدنيا ما وضعها صلى الله عليه وسلم أمامه أبدًا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده شيء من الدنيا، وإن لم يكن هناك إنفاق في سبيل الله، وعلى عباد الله، فإني أكره وجود المال، أحبه فقط للإنفاق في سبيل الله. يقول أبو ذر الذي ما زال يتعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم:
ثم مشى، فقال: «إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» -عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه- «وَقَلِيلٌ مَا هُمْ».

الأكثرون يعني الأكثرين في المال في الدنيا، في الملك، في السلطان، هم الأقلون يوم القيامة.

العملة الوحيدة يوم القيامة هي الحسنات، هم الأقلون في الحسنات يوم القيامة، وليس كل الأغنياء في ضياع، وحسرة يوم القيامة، بل هناك استثناء: «إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا» عن يمينه وعن شماله ومن خلفه. درسٌ تعلمه أبو ذر ثم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «وقليل ما هم».

إلا قلة قليلة، أليست فتنة كبيرة، ولن ينجوا منها إلا من فهم حقيقة الدنيا، إلا من قال هكذا وهكذا، فمن لديه أموال يتصرف فيها بسرعة، ينفق في سبيل الله، يُخلّص نفسه من الدنيا بالطريقة التي أرادها الله عز وجل.

أوجه الإنفاق لا حصر لها، ولا عدد، ولو أنت مقدر قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة لن تكنز الأموال، أبو ذر تعلم درسًا في غاية الأهمية، لذا نستطيع أن نفهم زهد أبي ذر بعد ذلك، والحمد لله أنه نقله لنتعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم. وأكثر من كل ذلك التعليم بالقدوة، الرسول  لم يكن يحذر الناس من الدنيا ثم يتنعم هو بها، بل انظروا إلى وصف الصحابة لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ روى مسلم، والترمذي، وأحمد، وابن ماجه -واللفظ لابن ماجه- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتوي في اليوم من الجوع، ما يجد من الدقل -الدقل هو رديء التمر- ما يملأ به بطنه.

فكيف تكبر الدنيا في عين عمر بن الخطاب، وفي أعين الصحابة بعد ما رأوا حال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنك لو قلت ألف كلمة، وألف خطاب، وألف مقالة عن الزهد من غير تطبيق، لن تكون لها أي قيمة، وما أعطى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم قيمة كبيرة إلا أن حياته كانت مثالًا عمليًّا لكل كلمة قالها صلى الله عليه وسلم.

روى الترمذي، وقال: حسن صحيح، عن عبد الله عز وجل بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام، وقد أَثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك غطاءً تنام عليها؟
فقال: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».

الدنيا تغيرت بعد ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان مطاردًا، ومشردًا، ولا يجد من ينصره أصبح رئيس دولة، وممكن في الأرض، وأصبح عنده بيت مال، وتأتي له الغنائم، والجزية من أماكن كثيرة جدًّا، كل الدنيا تغيرت، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتغير، ظل كما هو إلى أن مات، والسيدة عائشة تروي، وتقول: توفي رسول الله، وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد -حي من إنسان أو حيوان- إلا شطر شعير في رَفٍّ لي.

كل ما عندي هو شطر شعير في رف لي، أبيت زعيم الأمة، وقائد الدولة لا يوجد فيه غير شطر شعير، ولا تستعجبوا من ذلك فالرسول  يعرف قيمة الدنيا.

الذي تتعجب منه حقًّا هو من آمن بالآخرة، وحجمها، ولم يعمل لها، مَن شغل نفسه أربعًا وعشرين ساعة في اليوم في الدنيا، هو يعلم أنها زائلة، وما أنفق في سبيل الله ساعة، وهو يعلم أن الآخرة باقية، هذا الذي تستعجب منه، لا تستعجب ممن عرف أن الدنيا كلها لا تساوي قطرات، فظل فيها طوال عمره، ولم يأخذ منها شيء؛ لأنه كان يجد ويجتهد في أمر الآخرة.

ومع كل هذا الوصف الذي وصفناه لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعيش حياة متوازنة، كان يعمل، ويتكسب المال، وكان إذا أفاء الله عليهم بفيء كان له خُمُسه، والفيء هو الغنيمة التي جاءت من غير قتال، وكان يتزوج النساء، وكان ينجب الأطفال، وكان إذا حضر الطعام، وفيه شاة أكل من كتفها، وكان إذا أهديت له بردة من الصوف لبسها صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعتزل الناس، ولا يعتزل الحياة الدنيا، ومع كل هذا الكلام عن الدنيا، لم يكن يعتزل الدنيا صلى الله عليه وسلم، وكان يجعل أصحابه على الولايات، وكان يعطيهم من الأموال، وكان يأمرهم بالعمل، وكان ينهى صلى الله عليه وسلم عن الكسل والخمول والدعة، اعملْ في الدنيا، ولو كان عملًا بسيطًا، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "«لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ثُمَّ يَغْدُو» -أحسبه قال: إِلَى الْجَبَلِ- «فَيَحْتَطِبُ، فَيَبِيعُ، فَيَأْكُلُ، وَيَتَصَدَّقُ خَيْرٌ لَهْ فِي أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنْعُوهُ»".

وتأملوا في التوجيه النبوي إياك أن تسأل أحدًا ولو أن تعمل شيالًا أو بائع حطب، وتأمل الجمال في التعليم النبوي، يقول: «فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق».

لا يأكل فقط، بل يأكل ويتصدق، يصبح له فضل على الغير، بدلًا من السؤال تعمل، وتتصدق على الناس، إياك أن تجلس في البيت عطلان، كما يقال عندك بطالة، وانظروا إلى البطالة ونسبتها في بلادنا! كان يكره صلى الله عليه وسلم البطالة، كان يشجع الناس على العمل، مع كل هذا التخويف من أمر الدنيا، إلا أنه يحذر أن يجلس بدون عمل، أو يتكفف الناس.

هذا هو التوازن الذي أراد النبي  صلى الله عليه وسلم أن يعلمه للأمة كما قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].

وبهذه النظرة المتوازنة انطلق الصحابة في أرض الله عز وجل، يعملون يتكسبون، ينفقون على أنفسهم، وعلى أهلهم، يتاجرون، يزرعون، ويجاهدون في سبيل الله، يصيبون الغنائم، يتولون المناصب، والقيادات، يخالطون الناس، كل ذلك، ومع ذلك لا تمثل لهم الدنيا شيئًا في أعينهم، لا تمثل أي شيء، ما أسهل أن يبذلوها في سبيل الله! ما أيسر أن يتنازلوا عن الدنيا لإخوانهم! ما أبسط أن يعطوها حتى لمن لا يعرفون! فهي ليست ذات قيمة في أعينهم؛ لذلك كان من السهل أن يتنازلوا عنها.

الدنيا في عين الصحابة:

ولنتعلم من الصحابة كيف كانوا يتعاملون مع قضية الدنيا؟

أحدثكم بقصة تحدثنا عنها بالتفصيل قبل ذلك في فتوح الشام، وهي قصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، كان عزل خالد عن طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عزله أول ما تولى الخلافة، أول عمل من أعمال سيدنا عمر أنه عزل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، عزله وهو في قمة انتصاره الساحق على جيوش الإمبراطورية الرومانية الرهيبة، عزله بعد موقعة اليرموك، وكانت الروم في موقعة اليرموك مائتي ألف رومي هُزموا من تسعة وثلاثين ألف مسلم بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه.

قال عمر بن الخطاب: إني لم أعزل خالدًا عن سخطةٍ، ولا عن خيانة، ولكن الناس فتنوا به؛ فخشيت أن يوكلوا إليه، ويبتلوا به".

كم كان فهم عمر عميقًا، إن فتوح الشام كانت وسيلة لدخول الجنة، فإن كانت هذه الوسيلة تبعدنا عن الجنة، نتركها، مهما كان عظم هذه الوسيلة. عمر يريد أن يدخل بالناس إلى الجنة، لا أن يدخل بهم إلى الشام، فليست القضية الأخيرة في حياة المسلمين هي معركة، أو موقف، أو جيش... القضية قضية دنيا وآخرة، الناس فتنت بخالد رضي الله عنه، اعتقدت أن النصر من عنده، وليس من عند الله، إذا وجد خالد وجد النصر، وإذا ذهب خالد إلى مكان آخر ذهب النصر وانهزم المسلمون، فاعتقد البعض أن النصر من عند خالد، وهذا الفهم في منتهى الخطورة، فيه خطورة شديدة جدًّا على عقيدة الناس؛ لذا كان سيدنا عمر بن الخطاب حريصًا على حياة الناس في الجنة، وليست حياتهم التي في الشام؛ فعزل سيدنا خالد بن الوليد، عزله وهو في أشد الاحتياج إليه... جيوش المسلمين بين فارس والروم، ونصر خالد نصر لعمر بن الخطاب، لكن عزله، كل الأراضي التي أدخلها سيدنا خالد بن الوليد في ملك المسلمين، هي في النهاية في ملك عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، لكن المشكلة ليست في زيادة الأراضي، أو مشكلة انتصارات تتوالى، القضية قضية دنيا وآخرة، هذا ما كان يشغل بال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يعزل خالدًا لمشاكل شخصية أو خلافات، كما يحلو القول لبعض المستشرقين، أو بعض ممن فتن بمناهج المستشرقين؛ فعمر ليس الحاكم الذي يضحي بجيشه من أجل خلافات بينه وبين خالد رضي الله عنه ، ويُعلم أيضًا من سيرة عمر بن الخطاب أنه ما افتتن بالدنيا يومًا، لقد غيرت الدنيا خلقًا كثيرًا، لكن ما أثرت يومًا في عمر رضي الله عنه ، القضية أن حسابات الدنيا في ذهن عمر لا تساوي شيئًا إلى جوار حسابات الآخرة، نجيِّش الجيوش لتفتح البلاد، ونأخذ غنائم وسبايا، ونعيش في الدنيا، ولكن ليس على حساب الآخرة أبدًا.

عمر أوقف الفتوح في فارس في سنة 17هـ لسبب عجيب، سبب أعتقد أنه لم يتكرر في الأرض، ولا مرة إلا في هذه المرة فقط، أوقف الفتوح لكثرة الغنائم؛ إذ كثُرت الأموال، ففُتن الناس في الدنيا، فأوقف الفتوحات والانتصارات، ليحافظ على المسلمين من الدنيا، ما نسي كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: "فَاتَّقُوا الدُّنْيَا".

ظل طوال عمره على حذر تام من الدنيا، لهذا عمل على عزل سيدنا خالد؛ لئلا يفتتن به الناس وتفتن بالدنيا.

يضحِّي بعزل أكبر قائد من قواده في أحرج اللحظات؛ لأنه يخاف على الناس من الفتنة، فهو القائد الناجح، القائد المسلم الذي يصلح لأن يكون قائدًا للمسلمين.

وكان موقف أبي عبيدة عجيبًا جدًّا، وكان موقف خالد ذلك القائد المنتصر الذي ما خاض معركة وهُزم فيها أعجبَ من موقف أبي عبيدة لما علم بعزله، فقد أصبح أبو عبيدة الزعيم الجديد للشام، ورئيس لقطاع ضخم جدًّا من الدولة الإسلامية، أصبح أمير الشام، وما أدراك ما الشام! الشام من أغنى الولايات الإسلامية في ذلك الوقت بعد أن فتحت، أصبح أمير الشام، جاء له خطاب الولاية، فماذا فعل في خطابٍ يتمناه جميع أهل الأرض؟

الخطاب الذي معظم سكان الأرض يتمنوا سطرًا واحدًا منه، بعض الناس يتمنى أن يكون أميرًا على شركة صغيرة، أو على قطاع، أو مصلحة، تخيل أنه أصبح أميرًا على الشام، فأخفى خطاب العزل، خبأه، لا يريد أن يصبح رئيسًا، ولم يعلم خالد بن الوليد بأنه عزل، وأنه أصبح رئيسًا للقوم، وجاء له خطاب ثانٍ من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرف أن أبا عبيدة سيخفي الخطاب، وسيرفض الإمارة، فيبعث له خطابًا آخر، فلو أخفى الخطاب الأول، يستحي من الخطاب الثاني، وينفذ كلام سيدنا عمر بن الخطاب، فجاء له خطاب آخر، يأمره بعزل سيدنا خالد بن الوليد، فأخفى الخطاب الثاني إلى أن انتهت الموقعة. ووصل الخبر لخالد بن الوليد من طريق آخر بعزله، وتعيين أبي عبيدة بن الجراح، فذهب بسرعة إلى أبي عبيدة، أسرع إليه يلومه، ولم يلُمْ سيدنا خالد أبا عبيدة لأنه أصبح مكانه، بل كان يلومه على تأخير العزل، يلومه لأنه لم يخبره بعزله، وتركه يأمره وينهاه، وهو الأمير، فيقول أبو عبيدة، وهذا كلام يساوي ذهبًا، بل هو أغلى من الذهب، يقول أبو عبيدة لخالد رضي الله عنه: "وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل".

أعرف قيمة الدنيا، وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما تراه سيصير إلى زوال وانقطاع، ما ترى يا خالد من الملك، والإمارة، والسلطة، كل هذا منقطع وزائل، فما الضير إذن أن أكون أميرًا أو مأمورًا، قائدًا أو جنديًّا.

"وإنما نحن إخوان وقوَّام بأمر الله عز وجل تعالى، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ودنياه".

ما الفرق أن تصبح أميرًا، أو مأمورًا ما دمنا نعمل لله عز وجل، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهم إلى الفتنة، أدناهم إلى فتنة الإمارة، فتنة الدنيا؛ فالوالي في وضع خطير على دينه لأنه قريب من الفتنة.

بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهم إلى الفتنة، وأوقعهم في الخطيئة لما يعرض له من الهلكة إلا من عصم الله، وقليل ما هم.

نفس كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقه وبُعد نظر، وضوح رؤيا، قليل جدًّا من الأمراء من لا يقع في فتنة الدنيا، لماذا الحزن إذن على الإمارة؟

من لا يفهم حقيقة الدنيا مسكين، يحاول أن يصعب على نفسه الامتحان، وانظروا في الفقه عند أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ثم قام ولم تنته بعد عظمة أبي عبيدة، ثم قام أبو عبيدة وخطب في جيش المسلمين يعظم من أمر خالد: "لا تظنوا أن خالدًا عُزل لضعف أو لخطأ"، بل يقول سمعت رسول الله عز وجل  يقول: «خَالِدٌ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، نِعْمَ فَتَى الْعَشِيرَةِ».

فلم يُعزل خالد لنقص في دينه، أو ضعف في رأيه، أبدًا... الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه يمدحه، سماه سيف الله، تخيلوا سيفًا من سيوف الله... نِعم فتى العشيرة، هذه عظمة أبي عبيدة بن الجراح حينما يقول كلامًا كهذا، يعظِّم قائدًا عُزل، وتولى هو في مكانه فلم يذكر سيئات السابقين، بل عظّم من أمر خالد، ويحزن أن تولى هو الإمارة؛ لأنه يعرف قيمة الدنيا وحجمها، ولو كان لا يعرف حقيقة وحجم الدنيا لأصبح في سعادة لتوليه أميرًا لبلد كالشام. كان موقف خالد بن الوليد صلى الله عليه وسلم أعجب وأعظم من موقف أبي عبيدة، الرجل الذي كان في أعظم درجات المجد في أعلى درجات التفوق والانتصار.

إن جيش المسلمين في الشام قبل أن يأتي سيدنا خالد كان في أزمة خطيرة، فلم يحقِّق إلا نصرًا بسيطًا ضعيفًا، وظل شهورًا على ذلك، وسيدنا خالد كان في العراق في انتصارات تترى إلى أن وصلت انتصاراته خمسة عشر في العراق، ويفكر سيدنا أبو بكر في نقل سيدنا خالد من العراق لينجد جيوش الشام، وفي طريق سيدنا خالد من العراق إلى جيش الشام حقق خمسة انتصارات في الشام قبل أن يقابل جيش الشام أصلًا، وبعدما قابل جيش الشام كانت موقعة اليرموك الخالدة، فسيدنا خالد كان يعمل أعمالًا لا يتصورها من كانوا يعيشون معه، حتى من الصحابة، فسيدنا أبو بكر كان يقول: "أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد؟!".

وخالد رضي الله عنه في هذه القمة من الانتصار يأتيه خبر عزله، كان رد فعله عجيبًا، فخالد في كل هذه الانتصارات لم يقل كلمة (أنا) مرة واحدة، كان دائمًا ينسب الأمر إلى الله عز وجل، في موقعة اليرموك أحد الجنود المسلمين يقول بعد أن نظر إلى أعداد الروم الهائلة مائتي ألف، يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين!

فسمعه خالد بن الوليد، فقال في ثقة شديدة، رجل يتكلم وهو واثق من نفسه، وواثق من ربه: "اصمت أيها الرجل، بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين"!

يا سبحان الله! الروم مائتا ألف، والمسلمون تسع وثلاثون ألف، لكن خالد يقول هذا الكلام عن يقين، بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين! ثم يقول له: "إنما تكثر الجنود بنصر الله عز وجل، وتقل الجنود بخذلان الله عز وجل لا بعدد الرجال، ووالله لوددت أن الأشقر (والأشقر فرس سيدنا خالد، والأشقر فرسه كان مريضًا في موقعة اليرموك فكان يركب فرسًا آخر) براءٌ من توجُّعه وأنهم أُضعفوا في العدد".

يصبحون ضعف عددهم أربعمائة ألف، وفرسِي سليم، أي أن الفرس بمائتي ألف رومي، سبحان الله! فلو كان هناك رجل كخالد بن الوليد رضي الله عنه لتغير وضع هذه الأمة.

لما جاء لخالد بن الوليد قرار العزل سلم الراية بمنتهى البساطة إلى أبي عبيدة بن الجراح، ما عليَّ أن أقاتل في سبيل الله عز وجل قائدًا أم جنديًّا، ما دام ذلك كله في سبيل الله، ما الفرق إذا كنت قائدًا أم جنديًّا ما دام ذلك في سبيل الله؛ فهدفي وبغيتي أن أرضي الله عز وجل، أرضيه في كرسي الحكام، أو في كرسي المحكوم، في كرسي القائد، أو في كرسي الجندي، في النهاية أن أُرضي الله، فأرضيه بالطريقة التي يراها أمير المؤمنين. بساطة في التفكير، وعمق في النظرة للدنيا، ثم قام يخطب في الجيش، وقد قال عنه أبو عبيدة: "خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة"، هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته منه، يقوم خالد يخطب في الناس يقول لهم:
بُعث عليكم "أمين هذه الأمة"، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله. فلم يقل: أهو أحسن مني حتى يتولى مكاني؟

وماذا صنع أبو عبيدة قبل أن آتي من العراق؟

لم يقل: لقد ظُلمت، وكل مشكلتي، وكل خطئي أني أنتصر، أو سيفتن بي الناس.

لم ينشق على الأمير، أو يصنع جيبًا من الجنود، وكل الجيش كان يحبه حبًّا لا يوصف، لو كان قال هذا الكلام، كان من الممكن أن يعمل فتنة، لكن هو لا يريد أن يحدث فتنة من أجل الدنيا؛ لأنه يعرف قيمة الدنيا، فهي لا تساوي شيئًا، فلماذا الفتنة؟

هذا هو خالد بن الوليد، وهذه هي قيمة الدنيا في أعين خالد.

خالد بن الوليد الذي خاض معارك كثيرة عشرات حتى قيل تجاوزت مائة، وانتصر فيها جميعًا، دون هزيمة واحدة، وغنم غنائم شتى، وربح أموالًا عظيمة، فماذا ترك بعد موته؟ ترك سيدنا خالد فرسًا وسلاحًا وغلامًا فقط! من كل هذه الدنيا، لم يختص إلا بهذه الأشياء، ولم يتركهم لأولاده، بل قال:

أرسلوها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إلى أمير المؤمنين. وقال: "اجعلوه عُدَّة في سبيل الله".

هذا السلاح اجعلوه عدة في سبيل الله، لكن من يستطيع أن يحمل سيفه بعد موته، من يستطيع أن يركب خيله، أين ذهبت أمواله وغنائمه، وكل ما حصّله على مدار سنوات الجهاد الطويلة؟

أنفقها كلها في سبيل الله، كان جوادًا عظيم الجود، كريمًا واسع الكرم، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولكن لا داعي للعجب، فهو تلميذ نجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سيدنا خالد بن الوليد عن أكثر شيء يتمتع به في حياته ودنياه:

"ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، أو أُبَشّر فيها بغلام أحب إليَّ من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أُصَبّح فيها العدو".

هذه متعته في الدنيا، ليست السلطة، ولا الإمارة، ولا الأموال، ولا النساء، أبدًا.. الجهاد في سبيل الله، والجهاد الصعب الخطير؛ في البرد، والليل، والجيش القليل، والعدو الكثير! فهذا خالد بن الوليد، وهذه متعته، كان يقول وهو نائم على فراش الموت، وهو يموت بعد الحياة الطويلة التي انقضت في الجهاد، يقول:

"لقد طلبت القتل في مظانِّه".

في كل مكان من الممكن أن يكون فيه موت ذهبت إليه.

"لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يُقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عمل شيء أرجى عندي -بعد التوحيد- من ليلةٍ بتها، وأنا متكرس، أمسك درعي، والسماء تهلني، منتظر الصبح حتى نغير على الكفار".

أكثر شيء يتوقع أن يدخله الجنة، أرجى عمل عند خالد بن الوليد رضي الله عنه ، ثم قال كلمته المشهورة، وهو يبكي رضي الله عنه يقول:

"لقيت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، وها أنا أموت حتف أنفي، كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء!".

حياة عظيمة، لا تظنوا أن ضرب السيوف، أو رمي السهام لا يؤلم خالد بن الوليد، فهو بشر، لكنه فَقِه حقيقة الدنيا، علم أنها أيام قليلة يقضيها ثم يموت، علم أن الله عز وجل  إن كتب عليه ألم، فسيناله، وإن لم يحارب أصلًا، وإن كتب عليه موتًا واجهه، وإن كان على فراشه، وإن كتب له نجاة سينجيه ولو من مائة معركة، فلا نامت أعين الجبناء!

عاش خالد بن الوليد في الإسلام أربع عشرة سنة فقط، كل حياته في الإسلام أربع عشرة سنة، لكنها أثقل من آلاف الأعوام من أعمار رجال الآخرين، ما فقهوا حقيقة الدنيا، وما فقهوا حقيقة الآخرة، وما فقهوا حقيقة الإسلام.

لما مات خالد بن الوليد ارتفعت الأصوات أصوات النساء في بكاء شديد في بيته، وفي المدينة المنورة بكاملها، وقيل لعمر بن الخطاب: أرسل إليهن فانههن.

امنع النساء من هذا البكاء، فقال عمر: "وما عليهن أن ينزفن من دمعوهن على أبي سليمان".

وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان، على خالد بن الوليد رضي الله عنه ، ثم قال عمر: "على مثل أبي سليمان فلتبكي البواكي، قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق". الإسلام جُرِح جُرحًا لا يلتئم، ثم قال عمر بن الخطاب: "كان والله سدادًا لنحور العدو، ميمون النقيبة".

وانظر أم خالد بن الوليد  كانت تبكيه بعد موته وتقول:

أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفٍ مِنَ النَّاسِ *** إِذَا مَا كُبَّتْ وُجُوهِ الرِّجَالِ
أَشُجَاعٌ فَأَنْتَ أَشْجَعُ مِـنْ لَيْثٍ *** غَضَنْفَرَ يَزُودُ عَنِ الأَشْبَالَ
أَجَوَادُ فَأَنْتَ أَجْوَدُ مِـنْ سَيْلٍ *** غَامِرٍ يَسِيرُ بَيْـنَ الْجِبَالِ

قصيدة طويلة هذا جزء منها، سمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال: من هذه؟ قالوا: أم خالد. قال عمر: "صدقت والله، إنه كان كذلك، خير من ألف ألف من الناس".

يقسم عمر أنه كان كذلك.

هذه هي الدنيا في منظور خالد، وفي منظور عمر، وفي منظور أبي عبيدة، وفي منظور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين الدنيا في عيونهم؟ أين الدنيا في عيون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لا قيمة لها، يستوي عندهم أن يقودوا، أو يُقادوا بغيرهم من المسلمين، إذا قادوا لم يفتنوا بإمرة، ولا بسلطان، وإذا انقادوا لم يحسدوا قائدًا، ولم يرغبوا في قيادة.. إذا أتتهم الدنيا لم يفرحوا بها، وعلموا أنها ستأتيهم راغمة لو أرادها الله عز وجل لهم، وإذا ولت عنهم الدنيا لم يحزنوا عليها، وعلموا أنهم لا نصيب لهم فيها إن أرادها الله عز وجل لغيرهم.. علموا أن الدنيا ما هي إلا معبر للآخرة، علموا أن الدنيا أرض مؤقتة يعيشون فيها فترة مؤقتة، ثم يغادرون إلى دارٍ لا زوال فيها، ولا فناء، وعلموا أن درجاتهم في الدار الآخرة على قدر ما يحصدون في الدنيا من الأعمال الصالحة؛ لذلك لم يضيعوا لحظة في غير سبيل الله، لم يهتموا لحظة بزخرف الدنيا الزائل؛ أبدًا، نظر الصحابة رضي الله عنهم إلى الدنيا بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الدنيا لا تعدل جناح بعوضة.

الدنيا كبش أسكّ ميت.

الدنيا شجرة في صحراء كبيرة.

الفقر لا يُخشى منه، ولكن يخشى من زهرة الدنيا وزينتها.

الدنيا اختبار، والله ناظر ما نعمل فيه.

الأكثرون هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله.

التنافس على الدنيا مَهْلكة.

معاني رسخت في عقول، وقلوب، ودماء، وجوارح الصحابة، فما عادوا يتكلفون ذلك، بل أصبح لهم ذلك فطرة، أصبح لهم ذلك طبيعة، هي طبيعتهم، ظلوا سائرين من أول ما عرفوا الدنيا إلى أن ماتوا، وهم على نفس النسق.. فَهِموا، وما زالت عنهم هذه الفكرة من أذهانهم لحظة، ولم يعتزلوا الدنيا أبدًا، ما تركوا الناس دون دعوة، وما تركوا الكفار دون جهاد، وما تركوا بيوتهم دون إنفاق، وما تركوا أنفسهم دون زواج، وما تركوا الأرض دون إصلاح وبناء وإعمار، لقد استخلفهم الله عز وجل في الأرض، واستعمرهم فيها، فقاموا بذلك حق القيام، ولم يصبهم في ذلك وهن.

بهذه النظرة المتوازنة سار الصحابة في طريق الدنيا الممتلئ بالمشاكل، لكنهم سبحان الله! لم يُجرحوا في دينهم، لم يُصابوا في عقيدتهم، ولم يُنقصوا أبدًا من أخلاقهم؛ لذلك وصل الصحابة إلى ما أرادوا أن يصلوا إليه؛ وصلوا إلى الجنة، وصلوا إلى النعيم المقيم.

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 36
  • 3
  • 60,449
المقال السابق
(6) الصحابة والعمل
المقال التالي
(8) الصحابة والجنة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً