علاقة خلق الكون بخلق الإنسان
قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].
الحياة في الفلسفات الإلحادية
إن الفلسفة الإلحادية السائدة في الغرب "المتقدِّم ماديًا" تُعتبَر بداية الحياة هي نتاج صدفة حدثت في ظروف معينة في جو مهيئ لحدوثها ألا وهو جو الكرة الأرضية، ولذلك فإن اعتقادًا يسود الأوساط العلمية الغربية يقول أن معادلة الحياة هي:
بيئة مناسبة لاستمرارية الحياة + وقت كاف لحدوث صدفة بداية الحياة = حياة بدائية.
وهذه الحياة البدائية أخذت وقتها خلال عملية الانتخاب الطبيعي حتى أنشأت الحياة المركبة.
وحسب هذه النظرة فإنه بحساب احتمالية وجود بيئة صالحة لاستمرار الحياة واحتمال حدوث صدفة بداية الحياة فإنه يمكن استنتاج أن احتمالية وجود حياة أخرى في الكون ليست معدومة.
والنموذج السابق لا يحتاج إله في ادعائهم لوجود حياة!
أحد الثغرات الهامة في النظرة للحياة في الفلسفات الإلحادية
إن هذه النظرة لم تنجح في شرح الكيفية التي تمت بها الحياة "بالصدفة" وإلا لكان إعادة هذه العملية في نظام محكم لا يخضع للصدف في المعمل ممكنة وهم لم ولن ينجحوا في انشاء تلك العملية لأن ما يجحدونه أن هذه العملية هي عملية خلق من إله قدير وهم لن يستطيعوا تكراره في المعمل. وليفعلوا إن كانوا صادقين! فأقصى ما يمكن فعله من قِبَلِهم هو انشاء مركبات عضوية غير حية أو على الأكثر انشاء خلايا سليمة عضويًا ولكنها ميتة..
نظرة الإسلام لعلاقة خلق الكون بخلق الحياة عامة
إن القرآن الكريم يربط ربطًا أخَّاذًا بالألباب بين خلق الكون وخلق الحياة في أكثر من آية من آياته الكريمات.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].
وهنا إشارة قوية إلى علاقة هذين الخلقين العظيمين، خلق الكون عامةً من فتق الرتق وخلق الحياة من الماء. وكأن الله تعالى يشير بأن الغرض الأصيل لخلق الكون هو التمهيد لجو مناسب لخلق الحياة من الماء.
فقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود:7].
وأجد والله أعلم أن الآية الكريمة ربما تشير إلى ارتباط غامض بين خلق السموات والأرض والماء أو على أقل تقدير بين خلق الحياة فقط والماء كما تشير سابقتها.
نظرة الإسلام لعلاقة خلق الكون بخلق الإنسان خاصةً
هذا بالنسبة للحياة بوجهٍ عام، أما بالنسبة للإنسان بوجهٍ خاص فقد قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].
والآية السابقة تؤكد هذا الارتباط بل تؤكد أن الكون خلق للحياة وأن الكون والحياة خُلقًا للإنسان، ونفس المعنى نجده في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ . وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ . وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ . وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ . هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:3-9].
وتدلّ الآية الكريمة على ربط خلق السماوات والأرض بخلق الحياة عامة والإنسان خاصة وتدل أيضًا أن الله تعالى سخر الله ما في الكون جميعًا للإنسان.
شبهة ورد
وقد يقول قائل: ولماذا خلق الله تعالى كل هذا الكون الشاسع لمجرد خلق حياة؟! ألم يكن يكف أن يخلق كونًا كافيًا لقيام حياةٍ وحسب؟
ونرد بما يلي:
1- أن كون الغرض الأصيل لخلق الكون هو احتضانه للحياة فلا يمنع ذلك وجود مرامي أخرى من خلق الكون يعلمها الله ولم يطلعنا عليها عِلمًا، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
فقد يكون معنى الآية أنه توجد أغراض أخرى من خلق الكون غير خلق الحياة وقد يكون الأمر مختلفًا!
2- راجع مقال: الكون لنا - تأمَّل في قضية التسخير
3- إن خلق السماء وتسويتها سبع سماوات وتسخير ما في السماوات من نجوم وغيره يرتبط بوضوح في القرآن بمهمة خدمة الأرض والحياة التي قُدر لها أن تُوجَدَ فيها ولذلك فإنه ينبغي ألا نحكم على الأمور بأن الحجم الشاسع الظاهر أمامنا للسماوات مقارنة بالأرض ليس له وظيفة والدليل فيما يلي:
قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9-12].
وقد قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
من الآيتين السابقتين يتضح لنا أن الله تعالى:
خلق السماوات والأرض في ستة أيام = (خلق الأرض أولًا مُقَدِرٌ فيها أقواتها في أربعة أيام = يومين خلق عادي كأي كوكب + يومين لتقدير الأقوات وتهيئة الظروف اللازمة لقيام الحياة كجعل الجبال الراسيات بحساب دقيق حفظًا للحياة واستمراريتها) + (وجعل السماء سبع سماوات وإيحاء أمر كل سماء فيها وتزيينها بالنجوم والكواكب في يومين).
ومن هنا نرى شيئين:
أولًا: أن الأرض خُلِقت أولًا قبل تسوية السماء إلى سبع سماوات، وذلك يدل أنها الأصل والأساس وأن السماوات التي جاءت تسويتهما من السماء متأخرًا هو لخدمة الأرض وما سيخلق عليها. (كان ذلك في يومين).
ثانيًا: بناءًا على ذلك، يظهر بوضوح أن تهيئة الكون لاستقبال الحياة كان له نصيب أربعة أيام من جملة الستة أيام التي خلق فيهن السماوات والأرض وبالطبع لا نقول أن هذه الأيام بالضرورة هي من جنس أو مقدار أيامنا المعتادة.
4- ما يُعرف بتأثير الفراشة (Butterfly Effect) وهو ينص باختصار أن الظروف الأولية لأي نظام معقد لو اختلفت قليلًا يمكن أن تؤدي إلى نظام مختلف تمامًا في المستقبل عن النظام بدون هذا الاختلاف وبالتالي فإن فتق الرتق -ما يُعرف بين علماء الكونيات الآن بالانفجار العظيم- قد تم بطريقة هائلة الإبداع والدقة بحيث تولد كونًا له مكان وزمان -حيث لم يكن هناك زمان ولا مكان في الرتق نفسه- يهيئ قيام حياة على الأرض. وبدون هذه الشروط الأولية وتمدَّد تأثيرها في الكون باتساعه لما كان على الأرض الظاهرة لنا بحجم غاية في الصغر حياة لا بسيطة ولا مركبة.
5- ما يُعرَف بمبدأ ماخ (Mach Principle) وهو ينص باختصار أن أي جسم في الكون يؤثر على أي جسم آخر مهما كان بعده عنه، وبالتالي حسب هذا المبدأ والذي ظهرت صحته في نظرية النسبية العامة ينبغي ألا نُقلِّل أبدًا من شأن تأثير المجرات البعيدة عن كوكب الأرض والحياة عليها.
6- ما يُعرف بالترابط الانفصالي (Entanglement) والذي تم اكتشافه في ميكانيكا الكم وينص أن أي جسيمين بينها ترابط انفصالي يظلان مترابطان مهما كان البعد بينهما، بحيث لو تم التأثير على أحدهما يحدث تأثير بنفس المقدار على الآخر حتى لو كان أحدهما على الأرض والآخر في أبعد نقاط الكون عنَّا. وهذا التأثير يدل أن الحياة على الأرض لم تكن لتقوم إلا بعمل جماعي من ذرات الكون أجمع!
7- يُوجد ما يُسمَّى بنظرية الكون الأرضي -للدكتور مصطفى عبد القادر استاذ الرياضيات بجامعة الأسكندرية- وهي تنص أنه يُوجد نموذج آخر للكون لا يقل صحة عن النموذج الحالي ولا يمكن التفرقة بينهما بأي تجربة عملية كانت. هذا الكون فيه الضوء يسير في خطوط دائرية -إن لم يؤثر عليه مؤثر- مما يجعل نظرتنا للأرض على أنها ذلك الكوكب الصغير الذي نلحظه من سفن الفضاء نظرة فيها خداع للبصر والحقيقة حسب النظرية أننا نعيش على السطح الداخلي لكوكب الأرض والكون كله محتوىً فيه من مجرات وشموس وكواكب ويُوجد مركز الكون منطبقًا على مركز الأرض!
في هذا الكون كلما ابتعدت الأجسام عن سطح الأرض تجاه مركز الأرض المجوفة قلت أبعادها وسرعتها حتى يصلان للصفر عند المركز -لا يستطيع أي جسم الوصول لمركز الكون الأرضي-.
8- توجد فلسفات تجعل ليس من الأرض وحسب هي مركز الكون ولكن تجعل من الإنسان ذاته مركزًا للكون ولكن هذه الفلسفات خارج حدود هذه المقال.
الخلاصة
أن الكون خُلق للحياة وأن الكونَ والحياةَ خُلقًا للإنسان.
- التصنيف: