طلب العلم بين المتاح والمحجوب

منذ 2014-05-25

هل تعاني من تمنِّي طاعة أو طريقة مُعينة في الطلب وتسعى في تحصيلها وتقضي الأوقات والأعمال في اللهاث خلفها.. ثم إذا توفّرت لك تركتها وزهدت فيها زُهدًا كبيرًا؟

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..

هل تعاني من تمنِّي طاعة أو طريقة مُعينة في الطلب وتسعى في تحصيلها وتقضي الأوقات والأعمال في اللهاث خلفها.. ثم إذا توفّرت لك تركتها وزهدت فيها زُهدًا كبيرًا؟

هذه حالة معروفة وهي لا شك من ضعف الهِمَّة أو ضعف الإيمان..!

ولكن دعونا لا نقف كثيرًا عند تسميها بضعف الإيمان وضعف الهِمَّة ولنتعلَّم علاجها من القرآن الكريم فإن لها عِلاجًا.. وكل ما هنالك أن الإنسان كثيرًا ما يُنَزل نفسه في غير منزلها أو يُعلِّق طاعاته على ما ليس موجودًا، بل ويجتهد في تحصيل هذا المعدوم لكي يسوغ التسويف للطاعات الفورية وما يزداد بذلك إلا خسارًا ولو فعل المطلوب منه على الوجه الذي يرضي ربه لكان في ذلك زيادة له من كل خير.

قال تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].

جاء في تفسير ابن كثير:

"كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام وَهُمْ بِمَكَّة مَأْمُورِينَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَات النُّصُب، وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاء مِنْهُمْ.. وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْو عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّبْر إِلَى حِين. وَكَانُوا يَتَحَرَّقُونَ وَيَوَدُّونَ لَوْ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ لِيَشْتَفُوا مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ الْحَال إِذْ ذَاكَ مُنَاسِبًا لِأَسْبَابٍ كَثِيرَة.. مِنْهَا: قِلَّة عَدَدهمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَة عَدَد عَدُوّهُمْ، وَمِنْهَا كَوْنهمْ كَانُوا فِي بَلَدهمْ وَهُوَ بَلَد حَرَام وَأَشْرَف بِقَاعِ الْأَرْض فَلَمْ يَكُنْ الْأَمْر بِالْقِتَالِ فِيهِ اِبْتِدَاء كَمَا يُقَال فَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَر بِالْجِهَادِ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ - لَمَّا صَارَتْ لَهُمْ دَار وَمَنَعَة وَأَنْصَار، وَمَعَ هَذَا لَمَّا أُمِرُوا بِمَا كَانُوا يَوَدُّونَهُ جَزِعَ بَعْضهمْ مِنْهُ وَخَافُوا مِنْ مُوَاجَهَة النَّاس خَوْفًا شَدِيدًا وَقَالُوا: {رَبّنَا لِمَ كَتَبْت عَلَيْنَا الْقِتَال لَوْلَا أَخَّرْتنَا إِلَى أَجَل قَرِيب} أَيْ لَوْلَا أَخَّرْت فَرْضه إِلَى مُدَّة أُخْرَى فَإِنَّ فِيهِ سَفْك الدِّمَاء وَيُتْم الْأَوْلَاد وَتَأَيُّم النِّسَاء".
وفي سورة محمد أنقل لك آيتين مع التفسيرمن ابن كثير: "{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20].

"يَقُول تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا شَرْعِيَّة الْجِهَاد.. فَلَمَّا فَرَضَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَرَ بِهِ نَكَلَ عَنْهُ كَثِير مِنْ النَّاس كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اِتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ هَاهُنَا: {وَيَقُول الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أَيْ مُشْتَمِلَة عَلَى حُكْم الْقِتَال وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَة مُحْكَمَة وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَال رَأَيْت الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض يَنْظُرُونَ إِلَيْك نَظَر الْمَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْت} أَيْ مِنْ فَزَعهمْ وَرُعْبهمْ وَجُبْنهمْ مِنْ لِقَاء الْأَعْدَاء".

{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].

"قَالَ مُشَجِّعًا لَهُمْ: {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أَيْ وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا - أَيْ فِي الْحَالَة الرَّاهِنَة.. {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أَيْ جَدَّ الْحَال وَحَضَرَ الْقِتَال.. {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} أَيْ أَخْلَصُوا لَهُ النِّيَّةَ {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}".

قلتُ: فهذا علاجٌ أي يطيعون الله عز وجل بحسب الطاعات المطلوبة في الحالة الراهنة دون استشراف غيرها مما حجب عنهم فإذا جد الأمر وأُتيحت لهم الطاعة فليُخلِصوا لله تعالى وليُشمِّروا وقتئذٍ في ذاك العمل.

ومن سورة النساء مع التفسير وإن كان السياق مُختلِفًا:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أَيْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَتَرَكُوا مَا يُنْهَوْنَ عَنْهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَيْ مِنْ مُخَالَفَة الْأَمْر وَارْتِكَاب النَّهْي {وَأَشَدّ تَثْبِيتًا} قَالَ السُّدِّيّ: أَيْ وَأَشَدّ تَصْدِيقًا" اهـ من (تفسير ابن كثير).

وقال الطبري: "لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُصَدِّقًا كَانَ لِنَفْسِهِ أَشَدّ تَثْبِيتًا وَلِعَزْمِهِ فِيهِ أَشَدّ تَصْحِيحًا".

قلتُ: لأن الطاعة تزيد الإيمان وفي زيادة الإيمان قوةٌ وزيادة للعزم والعمل الصالح... ولهذا فإن الحسنة تتبعها حسنة والسيئة تتبعها السيئة فالأولى تزيد الإنسان قوة فينشط لغيرها والثانية تزيده ضعفًا فيتعثَّر ويقع في غيرها.

عودة لتفسير ابن كثير:

"{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:67] يَعْنِي الْجَنَّة، {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:68] أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة" اهـ.

فآيات سورة النساء والآية الثانية من سورة محمد فيها العلاج لهذه الحالة: وهو إذا كُنَّا في وضعٍ مُعيَّن مأمورين به بطاعاتٍ مُعينة ومحجوب عنها فيها طاعات أُخر.. فاثبت وانهل من تلك الطاعات ففيها التثبيت وزيادة الإيمان.. فإذا حرمت المرأة من باب طاعة... إذا أغلق دونك باب في العلم مثلا ولنفترض شراء كتاب مُعيَّن رفض ولي المرأة شراءه وقد استخارت الله عز وجل في الشراء فأبى وليُّها أو زوجها...

لا تلح في الطلب... تقرأ ما عندها مما هو متاح لها.. وغالِبًا ما يكون المتاح كثير ولكننا نغفل عنه ونُعلِّق الطلب خاصة أو الطاعة عامة على غير ما هو متاح.

وإذا أرادت أن تذهب إلى درس مُعيَّن فرفض وليُّها أو زوجها أن تخرج من البيت وقد استخارت من قبل، لا تلح في الطلب.. بل تجلس في البيت محتسِبة مستحضرة طاعة الزوج أو الولي وتسمع درس آخر من على النت من الأشرطة.. تقرأ كتابًا تحفظ متنًا.. أو حتى تقرأ وِرد قرآن أو تُصلِّي نافلة..

أي الخلاصة: تفعل ما هو متاح ولا تطلب ما حُجِب عنها.

فكثيرًا لا ننتبِه أن حجب ما ليس لنا قد يكون للفت النظر لطاعةٍ أقرب لنا.. وأشد تثبيًا، وأعظم ثوابًا في حقها من الأخرى التي نلهث خلفها! لكن هذه الطاعة قد تكون أثقل على النفس ولم تحظ بالمحبة التي حظت بها الطاعة التي نلهث خلفها.. فلنعلم أن في مشقتها أجر!

وقد تكون مما وجب في الحال فيكون في وجوبها والمسارعة لها أجرٌ أعظم من فروض الكفايات التي نلهث خلفها مُضيِّعين مع هذا اللهاث واجبات كثيرة.

بل قد تكون النية في طلب هذه الطاعة البعيدة المحجوبة، مدخولة ومخلَّطة... وهناك طاعات أقرب وأهمُّ وأولى ومقدِّمة على ما تطلب وتسعى إليه.. فعلامَ نلهث خلف المحجوب عنَّا ونترك ما هو بين أيدينا وهو لو تأمَّلنا كثيرٌ كثير.. بيْد أن النفس تطلب الممنوع وتترك المتاح الوفير!

الله المستعان.
 

 

 

 
 
 
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 1
  • 0
  • 1,948

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً