معرفة الله
قال صلى الله عليه وسلم: «تعرَّف إلى الله في الرَّخاء، يعرفكَ في الشِّدَّةِ» يعني: أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله، وحَفِظَ حدودَه، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة، فعرفه ربُّه في الشدَّة، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه، ومحبته له، وإجابته لدعائه.
قال صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الجامع [2961])، يعني: أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله، وحَفِظَ حدودَه، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة، فعرفه ربُّه في الشدَّة، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه، ومحبته له، وإجابته لدعائه.
فمعرفة العبد لربه نوعان:
أحدُهما: المعرفةُ العامة، وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان، وهذه عامةٌ للمؤمنين.
والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه، والأُنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: "مساكينُ أهلُ الدُّنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها"، قيل له: وما هو؟ قال: "معرفةُ الله".
وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ: "أحبُّ أنْ لا أموتَ حتّى أعرفَ مولاي، وليس معرفتُه الإقرار به، ولكن المعرفة التي إذا عرفته استحييت منه".
ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان:
النوع الأول: معرفة عامة، وهي علمه سبحانه بعباده، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه، كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16]، وقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32].
والثاني: معرفة خاصة، وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه، وإجابةَ دعائه، وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربِّه: « » (رواه البخاري [6502])، وفي رواية: « » (البزار [15/ 270]).
ولما هرب الحسنُ من الحجاج دخلَ إلى بيت حبيب أبي محمد، فقال له حبيب: "يا أبا سعيد، أليس بينك وبينَ ربِّك ما تدعوه به فيَستركَ مِنْ هؤلاء؟ ادخل البيتَ"، فدخل، ودخل الشُّرَطُ على أَثَره، فلم يرَوْهُ، فذُكِرَ ذلك للحجاج، فقال: "بل كان في البيت، إلا أنَّ الله طَمَسَ أعينهم، فلم يروه".
واجتمع الفضيلُ بنُ عياض بشعوانة العابدة، فسألها الدُّعاءَ، فقالت: "يا فضيلُ، وما بينَك وبينَه، ما إنْ دعوته أجابك"، فغُشِيَ على الفضيل.
وقيل لمعروف: ما الذي هيَّجك إلى الانقطاع والعبادة -وذُكِرَ له الموت والبرزخ والجنَّة والنار–؟ فقال معروف: "إنَّ ملكًا هذا كله بيده إنْ كانت بينك وبينه معرفةٌ كفاك جميع هذا".
وفي الجملة: فمَنْ عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدَّته.
وخرَّج الترمذيُّ [3382] من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «
».
وخرَّج ابنُ أبي حاتم وغيرهُ من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس يرفعه: "أنَّ يونس عليه السلام لمَّا دعا في بطن الحوت، قالت الملائكة: يا ربِّ، هذا صوتٌ معروفٌ من بلادٍ غريبة، فقال الله: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومَنْ هوَ؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدُك يونس الذي لم يزل يُرفَعُ له عمل متقبل ودعوةٌ مستجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا ربِّ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال: بلى، قال: فأمر الله الحوتَ فطرحه بالعراء". (البزار [15/ 34]).
وقال الضحاك بن قيس: "اذكروا الله في الرَّخاء، يذكركُم في الشِّدَّة، وإنَّ يونس عليه السلام كان يذكُرُ الله تعالى، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت، قال الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144]، وإنَّ فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]".
وقال سلمان الفارسي: "إذا كان الرجلُ دَعَّاءً في السرَّاء، فنـزلت به ضرَّاءُ، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوتٌ معروف، فشفعوا له، وإذا كان ليس بدَعَّاءٍ في السَّرَّاء، فنَزلت به ضرَّاءُ، فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوتٌ ليس بمعروف، فلا يشفعون له".
وقال رجل لأبي الدرداء: أوصني، فقال: "اذكر الله في السرَّاء يذكرك الله في الضَّرَّاء".
وعنه أنَّه قال: "ادعُ الله في يوم سرَّائك لعله أنْ يستجيب لك في يوم ضرَّائك".
وأعظمُ الشدائد التي تنْزل بالعبد في الدنيا الموتُ، وما بَعده أشدُّ منه إنْ لم يكن مصيرُ العبد إلى خيرٍ، فالواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19].
فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكره الله عندَ هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولَطَفَ به، وأعانه، وتولَّاه، وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راضٍ، ومن نسيَ الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنَّه أعرض عنه، وأهمله، فإذا نزل الموتُ بالمؤمنِ المستعدِّ له، أحسن الظنَّ بربه، وجاءته البُشرى مِنَ اللهِ، فأحبَّ لقاءَ الله، وأحبَّ الله لقاءه، والفاجرُ بعكس ذلك، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ، ويستبشر بما قدمه مما هو قادمٌ عليه، ويَنْدَمُ المفرطُ، ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ} [الزمر:56].
قال أبو عبد الرحمن السُّلمي قبلَ موته: "كيف لا أرجو ربي وقد صُمْتُ له ثمانين رمضان".
وقال أبو بكر ابنُ عيّاش لابنه عندَ موته: "أترى الله يُضيِّعُ لأبيك أربعين سنة يَختِمُ القرآن كُلَّ ليلةٍ؟".
وختم آدمُ بن أبي إياس القرآن وهو مسجَّى للموت، ثم قال: "بحُبِّي لك، إلا رفقتَ بي في هذا المصرع؟ كنت أؤمِّلُك لهذا اليوم، كنتُ أرجوكَ لا إله إلَّا الله"، ثم قضى.
وقال قتادة في قول الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] قال: "من الكرب عندَ الموت".
وقال عليُّ بن أبي طلحَة، عن ابن عباس في هذه الآية: "يُنجيه من كُلِّ كَربٍ في الدنيا والآخرة".
وقال زيدُ بن أسلم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا...} [فصلت:30]الآية. قال: "يُبشر بذلك عند موته، وفي قبره، ويوم يُبعث، فإنَّه لفي الجنة، وما ذهبت فرحة البِشارة من قلبه".
وقال ثابت البناني في هذه الآية: "بلغنا أنَّ المؤمنَ حيث يبعثه الله من قبره، يتلقاه مَلَكاه اللَّذانِ كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تَخَفْ ولا تحزن، فيؤمِّنُ الله خوفَه، ويُقِرُّ الله عينَه، فما مِنْ عظيمة تَغشى الناس يومَ القيامة إلَّا هي للمؤمن قرَّةُ عينٍ لما هداه الله، ولما كان يعملُ في الدُّنيا".
- التصنيف: