أنماط - (6) نمط المتعجل المتململ
من الأنماط التي تظهر كثيرًا في أزمنة البلاء وأوقات المحن والشدائد نمط المتعجل المتململ الذي يستعجل الفتح ولا يطيق الصبر ولا يدرك معنى المصابرة.. وهذا نمط يصر على عدم فهم طبيعة الصراع الأزلي بين الحق والباطل ويعتبر أن كل حديث لا يؤكد مذهبه العجول، ولا يشبع معتقده الملول إنما هو حديث تخذيلي مرجف لا ينبني على اليقين والثقة في موعود الله..
ومن الأنماط التي تظهر كثيرًا في أزمنة البلاء وأوقات المحن والشدائد نمط المتعجل المتململ الذي يستعجل الفتح ولا يطيق الصبر ولا يدرك معنى المصابرة..
وهذا نمط يصر على عدم فهم طبيعة الصراع الأزلي بين الحق والباطل ويعتبر أن كل حديث لا يؤكد مذهبه العجول، ولا يشبع معتقده الملول إنما هو حديث تخذيلي مرجف لا ينبني على اليقين والثقة في موعود الله..
وكأن من نظر في السنن الخالية وتأمَّل المدلولات القرآنية وعلم من خلالها أنه لا اشتراط على المولى وأن النصر مع الصبر، وأن الثمرة العاجلة ليست ثابتًا مسلمًا به يراه الجميع في حياتهم - يعد عن هذا النمط غير موقن أو على الأقل لا يفهم ما يفهمه صاحبنا ومن سار على نهجه..
وكأن اليقين في الله والثقة به - التقول عليه وسؤاله عما يفعل واستعجال الثمرة وادعاء ما ليس بحق..
وإني سائل صاحبنا المتعجل المتململ: حين تسمع من الحبيب صلى الله عليه وسلم عبارة مثل هذه: « » (جزءٌ من حديثٍ رواه البخاري ومسلم)..
تأمَّل مرةً أخرى: ليس معه أحد..
قل لي بربك حينئذ ماذا تفهم؟ وما الذي يلقى في روعك؟
نبي مكلم يوحى إليه يأتي يوم القيامة بدون ثمرة من البشر..
بدون مجيبين أو متقبلين لدعوته..
وربما يأتي تثعب الدماء من جراحاته فقد قتله قومه..
نعم..
هناك أنبياء قتلهم أقوامهم تلك حقيقة واقعة..
هناك أنبياء قضوا نحبهم دون أن يشهدوا الثمرة تلك حقيقة أخرى..
قل لي بربك: كيف تكيف ذلك الأمر مع مذهبك مشترط الثمرة العاجلة؟
وحين تسمع منه صلوات ربي وسلامه عليه عبارته الشهيرة « »..
تلك العبارة المحكمة التي تبعت بشارة عظيمة بالفتح والتمكين قالها لخباب بن الأرت رضي الله عنه وهو في خضم البلاء فقل لي بربك حين تسمعها ماذا يلقى في روعك أيضًا؟!
هل يتسرَّب إلى نفسك شعور بأن النبي يبشره أن الفتح لا محالة واقع في غدهم أو بعد غدهم أم أن الأمر ربما يستغرق وقتًا وأن عليك ألا تتعجل؟!
أعتقد أن الثانية أقرب وهي ما يحتمله المآل اللغوي للنهي عن الاستعجال..
وهل ينهى عن استعجال شيء عاجل؟!
وحين يوجه الخطاب القرآني للحبيب صلى الله عليه وسلم مبينًا أن الاحتمالين قائمان {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر من الآية:77]، فهل يظن اشتراط لزوم رؤية ثمرة عاجلة وتحقق الوعد في الدنيا أم أن الأمر قد يطول حتى لا تراه في حياتك؟
أعتقد أن الإجابة واضحة..
وحين تتوالى آيات وأحاديث تأمر بالصبر على لأواء الطريق والصمود في وجه مشاقه فهل يظن بذلك أنه تصبير لأمد عاجل قريب؟ أم أنه توطين للنفس على البذل والتفاني في العمل والمرابطة والمصابرة دون اشتراط النظر لقريب الثمر وعاجل الفتح؟
وحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه: « » (رواه البخاري)..
فهل كان باشتراطه طول الحياة بعدي بن حاتم يخذله كما يزعم البعض في حق من يفعل مثل هذا أو كان -وحاشاه أن يكون- يبث اليأس في صدره؟
حاشا وكلَّا..!
وأين قول سيدنا موسى عليه السلام: {اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ} [الأعراف من الآية:128]..
وهل يكون الصبر على شيء عاجل واقع عما قريب؟!
وأين قول سيدنا أبي بكر الصديق لسيدنا عمر يوم الحديبية: أوَ قد قال لك أنك تأتيه هذا العام؟
وغير ذلك مما لو عصرنا الأذهان في استراجعها لسودنا الصفحات بما يدحض ذلك الزعم الخطير الذي استسهل البعض إطلاقه قاطعين بأنه لم ينظر له ويؤصل ويرسخ في سلوك الصالحين مرارًا..
وبدلًا من أن يقول هؤلاء: نضبط مشاعرنا على العمل ونترك على الله النتائج مع امتلاء قلوبنا برجائه تجدهم يصرون على ضبط مشاعر متابعيهم على اشتراط نصر قريب وثمرة عاجلة..
ولا يهمهم أو يفرق معهم مآل تلك المشاعر المتلهفة التي أججوها ولا يلتفتون إلى ما سيحدث لها من صدمة قاسية لو لم تجد هذا النصر قريبًا عاجلًا..
وليس مهما لديهم الأثر العكسي الذي ستحدثه بشرياتهم الكاذبة وتحديداتهم القطعية الساذجة إذا لم تقع كما جزموا ووقتما حدَّدوا..
المهم أن يثبتوا وجهة نظرهم ويستمروا في إمداد أتباعهم بما يبقيهم في أكنافهم ويبقى أنظارهم متوجهة إليهم متطلعة إلى المزيد والمزيد..
بينما كان الأصل في المنهج القرآني والنبوي كما أشرت من قبل في النمط السابق - التبشير لكنه تبشير مطلق يضبط إيقاع العمل والأمل ويربطهما معا في إطار واحد تحدوه إرادة فعل الصواب والصدع بالحق وبذل الغالي والنفيس في سبيله مع التوازن بين اليقين في الفتح، وبين عدم تعلق القلب برؤية الثمرة العاجلة وعدم الاشتراط على الله..
بهذا ينضبط فقه التبشير وغرس الأمل والحض على العمل وليس بالوعود الكاذبة والتألي على الله..
بل بالإدراك والتسليم الكامل لحقيقة أن نصر الله وفتحه إنما يأتي متى شاء وكيف شاء حتى وإن طال الأمد وتأخر في نظر المخلوق القاصر..
لقد قيل أن ابتلاء أيوب عليه السلام دام ثمانية عشر عامًا حتى جاء الفتح وكشف الله ما به من ضر..
وقيل أن افتراق يوسف عليه السلام عن أبيه جاوز الأربعين عاما حتى بلغ أشده..
ثم جاء الفتح وكان اللقاء وجمع الله شملهما..
وقيل أن أعوامًا طويلة كانت قد مرَّت حتى استجاب الله دعاء موسى عليه السلام على فرعون وقومه، وطمس على أموالهم وشدَّد عليهم وأذاقهم العذاب الأليم وفتح بين موسى وبينهم بالحق وهو خير الفاتحين..
ولقد مكث المسجد الأقصى في الأسر عشرات السنين، حتى جاء الفتح وحرَّره صلاح الدين، ومكث نوح عليه السلام يدعو قومه مئات الأعوام دون كللٍ أو ملل.. حتى فتحت أبواب السماء بماء منهمر وفجرت الأرض عيونًا والتقى الماء على أمر قد قدر.. وفتح الله للمغلوب وانتصر..
وكذلك فتح الله.. يأتي متى يشاء..
وإن طال الزمان واستيأس الناس.. فإنه يفتح في النهاية..
المهم أن يوقن عبده ويثبت على الحق ولا يحملنه استبطاء الفتح على التفريط أو الشك.. ربما يكون هذا الفتح في آخر لحظة حين تمام الاستيئاس.
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين} [يوسف:110]..
لقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يمر على الوفود التي جاءت إلى مكة للحج.. يعرض عقيدته ويدعوهم إلى الله ويطلب منهم نصرته.. ظل كذلك طيلة أيام الحج حتى كان اليوم الأخير.. اليوم الأخير من أيام الحج ويظل فيه النبي على مثابرته وإصراره واستفتاحه.. وفي آخر لحظة جاء الفتح وشرح الله صدر وفد يثرب وكانوا أنصار الله.. ما استعجل الثمرة وما يأس من المحاولة حتى فتح الله له متى شاء..
وحين قرَّر قوم إبراهيم أن يلقوا به إلى سعير أوقدوه أما كان من الممكن أن ينجيه الله قبلها؟
أوَ ليس الله بقادر على خسف الأرض بهم وهدم بنيانهم الذي بنوه ليوقدوه؟
بلى قادر..
لكن شيئًا من هذا لم يحدث..
لقد تأخر الفتح حتى صار إبراهيم بالفعل داخل النيران.. ثم جاء الفتح بداخل أتونها المشتعل وتبدلت السنة الكونية بأن النار تحرق كرامة لنبي الله عليه السلام.. {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
متى وأين؟
في آخر لحظة.. في داخل النيران..
هل أدى تأخر الفتح ظاهرًا إلى شك يتسرَّب إلى نفس إبراهيم..
حاشا وكلَّا..
لقد ظل إلى آخر لحظة مطمئنًا إلى فتح الله، راغبًا فيه مردِّدًا كلمة واحدة لا يلفظ غيرها حتى وهو يقترب من النيران.. حسبي الله ونعم الوكيل..
أثق به..
وأرغب في فتحه..
وأوقن بمآله ولا أتعجل..
وإن تأخر..
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28].
تأمَّل متى..
من بعد ما قنطوا..
من بعد أن يأس البعض..
لكنه أتى..
متى شاء..
وكيف شاء..
المهم أن يوقن عبده ويثبت على الحق ولا يحملنه استبطاء الفتح على التفريط أو الشك..
وحين يفتح من رحمته فاعلم أنه لا ممسك لها..
ألا فاعرف الفتاح..
واستفتح يفتح لك ولا تعجل وتكن من هذا النمط العجول فهو وحده أعلم بميعاد فتحه وهو لا يعجل لعجلة أحد وهو الفتاح العليم..
- التصنيف: