الحفر الخفية

منذ 2014-06-27

فكم مكر الماكرون وظنوا أنهم قد نجوا بمكرهم وفازوا بما مكروا من أجله، ثم لم يلبثوا إلا أن تاهوا في طرائق المكر اللامتناهية، ولفوا حباله حول أنفسهم، فإذا بهم وكأن الحقيقة أنهم مكروا بأنفسهم.

قديما قالوا: "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها"، ويضربون مثل الحكاية بماكر أراد أن يوقع صاحبه في حفرة حفرها وغطاها وغاب صاحبه فغفل هو ونسي مكان حفرته، وبينما هو سائر إذ وقع فيها، فكان عاقبة مكره على نفسه!

والله سبحانه وتعالى قد علمنا أن المكر السيئ لا يحيق إلا بالماكر، وأن هذه من سنن الله في خلقه، قال سبحانه: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] .

ووصف الله سبحانه وتعالى المكر الذي يحيق بأهله بأنه مكر السوء، فالله سبحانه وتعالى لا يحب الفساد ولا الإفساد، وفي الأثر: "لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" (الزهد لابن المبارك).

فكم مكر الماكرون وظنوا أنهم قد نجوا بمكرهم وفازوا بما مكروا من أجله، ثم لم يلبثوا إلا أن تاهوا في طرائق المكر اللامتناهية، ولفوا حباله حول أنفسهم، فإذا بهم وكأن الحقيقة أنهم مكروا بأنفسهم.

ولما قيل للإمام البخاري إن هناك من يظلمك ويبهتك ويكذب عليك ويغتابك، فكان يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، ويقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} .

يقول بن القيم رحمه الله: "فالمحتال بالباطل معامل بنقيض قصده شرعا وقدرا، وقد شاهد الناس عيانا أن من عاش بالمكر مات بالفقر، ولهذا عاقب الله سبحانه من احتال على اسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها (كما في قصة أصحاب الجنة في سورة القلم)، وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير (كما في قصة أصحاب السبت)، وعاقب من احتال على أموال الناس بالربا بأن محق ماله:  {يَمْحَقُ اللَّـهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]  فلا بد أن يمحق مال المرابي ولو بلغ ما بلغ، وأصل هذا أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم" (إغاثة اللهفان).

وقد راعت الشريعة الغراء أن أغلقت أبواب المكر وسلسلت وكبلت أيدي الماكرين فمنعت الحيل والتحايل، ومنعت الغش، ومنعت التزوير، ومنعت الكذب، ومنعت شهادة الزور، وأغلقت كل طريق يؤدي إلى مكر أو خديعة أو يوصل إليها أو يكون ذريعة لها، حتى لا يصيب به المكار أهل الإيمان بسوء، أو يصيب المجتمعات بضر.

والماكر مهما كان حصيفا ذكيا فإن الأيام تكشف مكره، والمواقف تدل على خبيئته، فينفضح أمام الناس قبل أن ينفضح الفضيحة الكبرى أمام الخلائق أجمعين في يوم لا مرد له من الله، قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّـهُ أَضْغَانَهُمْ . وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:29-30].

لقد حارت بنا الايام حتى صار المكر السيء خصلة غير مستنكرة بين الناس، بل صار الناس يحمدون الرجل لمكره السيء ولدهائه، على الرغم أنهم يعرفون كونه منحرفا فاسدا، فتغيرت القيم واغتربت المبادئ، وصار المكر بالناس شيمة منتشرة على أوسع نطاق، والمكر بالشعوب على أوسع مدى!

والمنهج التربوي الإسلامي يبنى الشخصية المسلمة على الصدق والمصداقية والشفافية والنقاء، والفضيلة، ورجاء الخير، ويدعو كل الناس أن يطهروا نواياهم ويزيلوا الخبث من قلوبهم، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّـهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّـهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:70-71].

فالقصد الطيب عاقبته خير، والنية الصالحة تنفع المرء وذريته، وتعود عليه بالرزق والسعة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ (الشرجة: مسيل الماء) قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ: مَا اسْمُكَ قَالَ فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ: أَمَا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ»  (رواه مسلم) .

فالعدة الصالحة تعد لصاحب النية الصادقة وإن لم يكن له فيها يد، فالرزق يساق إليه، والفضل ينعم بين يديه، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وأما الماكرون خبيثو النية سيئو القلوب فلا بشرى لهم، ولا عقبى لهم إلا عقبى السوء، ولا خير ينتظرهم في حياتهم ولا بعد الممات .. بل حياة ضنك في الدارين، مهما رتعوا في النعم وانغمسوا في الزخارف، فذل المعصية يكسر رقابهم، والمكر السيء يحيق بهم .

خالد رُوشه

  • 4
  • 0
  • 5,334

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً